الأحد ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
لتهوية الأذهان من روائح السياسة العفنة
بقلم منصف المرزوقي

استراحة ثقافية عن ابن عربي

كلنا نعرف ابن عربي هذا المعلم الثقافي الهائل كما "نعرف"ابن سينا وابن رشد وابن خلدون.لكن بصراحة، كم منا قرأ لهؤلاء الناس،حتى من بين كبار المثقفين... اللهم إلا إذا كان ذلك ضمن تخصص الأكاديمي؟

لا يشذّ خادمكم عن هذه القاعدة حيث بقيت معرفتي به لأكثر من عقدين مختزلة في الأبيات الشهيرة الثلاثة

لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودين لرهبان
 
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
 
أدين بدين الحب أين توجهت ركائبي
فالحب ديني وإيماني

أذكر أن اكتشافي لها شكل صدمة،أنني أغرمت بها، أنني استشهدت بها ما لا يحصى من المرات في مقالات وكتب ومحاضرات عديدة، أنني لم استغرب وجودها مترجمة، فهي بحق من أجمل وأروع ما قيل في الترفع عن التعصب والغباء والجهل والأحقاد المذهبية التي تعاني منها البشرية، ليس فقط في لغة الضاد وإنما في التراث العالمي.

لكن هذه الأبيات على جمالها لم تكن بالقوة الكافية لدفعي للتوغل في "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكمة" التي قّّلبتها بشيء من الحذر في بعض المكتبات، ثم قررت الانسحاب لقواعدي سالما، لا بسبب حجمها المفرط فحسب، وإنما لأنني رجل علماني كانت ولا تزال مشاغله الفكرية على بعد فلكي من الشطحات الصوفية والتجليات الإلهية ومشاكل اتحاد العابد بالمعبود وعلاقة اللاهوت بالناسوت.

إلا أن حسن الطالع جعلني أعثر على ديوان لابن عربي أسهل تناولا وأقرب للعقل والعاطفة. وسواء صدق الرجل في قوله أنه عنى بأشواقه هذه اللاهوت، أو كما اتهمه الشيوخ بأنه عنى بها ناسوت بنت مضيفه في مكة واسمها نظام (أو أن الديوان كان مزيجا من حب الاثنين) فالثابت أن ترجمان الأشواق من أروع دواوين الحب في الأدب العربي.

واحربا من كبدي، واحربا
واطربا من خلدي واطربا
 
في كبدي نار جوى محرقة
في خلدي بدر دجى قد غربا
 
يا مسك، يا بدر ويا غصن نقا
ما أورقا، ما أنورا، ما أطيبا
 
يا مبسما أحببت منه الحببا
ويا رضابا ذقت منه الضربا
 
يا قمرا في شفق من خفر
في خدّه لاح لنا منتقبا
 
شمس ضحى في فلك طالعة
غصن نقا في روضة قد نصبا

هكذا تعمقت شيئا ما معرفتي بالرجل الذي تقول عنه المصادر أنه الإمام محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي المولود بمرسية سنة 1146 ميلادي والمتوفي بدمشق سنة 1240 والذي سمي بالشيخ الأكبر وأصبح منذ عصره أكبر رمز من رموز التصوف في ديار الإسلام وحتى في العالم.

ثم تجمدت صورة الفيلسوف والشاعر الصوفي ليحتل الرجل مكانه كإيقونة متميزة في فضاء الرموز والخيال والذاكرة الذي يشكل الجزء عير الحسي من كيان كل أحد منا، يحف به كثير من الغموض وشيء من التهيب وحتى من التقديس.
تصرّ الصدف التي وضعتني وجها لوجه مع الأبيات الثلاثة، ثم مع ترجمان الأشواق، على وضعي مجددا بعد سنوات طويلة وجها لوجه مع كتاب "ابن عربي، حياته ومذهبه" للمستشرق الاسباني أسين بلاثيوس دار القلم بيروت 1979
(ترجمة عبد الرحمان بدوي الذي يجب التنويه بجهده في العودة للنصوص الأصلية وتمكيننا من استشهادات التدليل).

وهذا الكتاب كان بمثابة الهزة الأرضية لأن الرجل الغريب الغامض اكتسب فجأة ملامح إنسانية مؤثرة وحتى مأساوية، وأنا أكتشف بما لا يدع مجالا للشك أنه كان مصابا بمرض مزمن في الدماغ... وأن لهذا المرض علاقة وثيقة، وإن لم تكن بسيطة أو آلية، مع تصوفه وتجلياته.

من بين الحدود والمعوّقات في قراءة النصوص أو الأحداث أننا ننطلق من فكر يتعامل مع العالم من زاوية نظره، بالآليات التي يملكها، وبالأفكار والأحكام المسبقة التي تهيكله. لكن المظاهر أعقد دوما من قراءة أو تناول أحادي الجانب. مثلا أغلب قراء ابن عربي في ثقافتنا العربية الإسلامية – على حد إطلاعي- كانوا من أهل العلم (بمعناه الديني) ونادرا من أهل العلم (بمعناه المعاصر).

هكذا انصب النقاش قرونا حول مدى قرب ابن عربي من الدين أو بعده عنه. فكفّره فقهاء تناولوه بعقليتهم وأدوات تحليلهم مثل ابن العز عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وبرهان الدين البقاعي صاحب "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي" وابن نور الدين في كتابه "كشف الظلمة عن هذه الأمة"وشهاب الدين أحمد بن يحي التلمساني الحنفي، وسيف الدين عبد اللطيف بن بلبان السعودي، وابن الجزري وبركة الإسلام قطب الدين ابن العسقلاني الخ.

وعلى العكس من هذا مجّده الكثيرون وخاصة من الغربيين وذلك بعقلية المستشرقين مثل ماسينيون وجولدتسهير وبلاثيوس الذين بحثوا في علاقة صوفية ابن عربي بتأثيرات مسيحية أو ناقشوا نظرياته بوحدة الوجود ووحدة الأديان.

لكن قراءة الطبيب لنفس الشخص ونفس النصوص تنتبه لمستوى جد مختلف تعطي لأفكار ابن عربي أبعادا بقيت غائبة عن القارئ العالق في منهجيته وأفكاره الدينية أو الفلسفية.

من نافلة القول أنني لا أدعي مطلقا بأن المستوى المرضي كان غائبا عند قرّاء ابن عربي من غير الأطباء، فبلاثيوس يشير في أكثر من موضع في كتابه إلى "الباثولوجيا"التي تحف بتاريخ الرجل قائلا (صفحة 261) "وابن عربي يعترف مرارا بما في أحواله النفسية من أعراض باثولوجية. الاستهلاك المباشر لجهازه العضوي في الزهد والسياحة... ثم العمل الذهني الذي اقتضاه تحرير هذا العدد الخيالي من مؤلفاته يفسران الاضطراب النفسي والفيزيولوجي لمزاجه الذي كان بطبيعته يميل إلى كل أنواع الهلوسات العقلية ".

وللناقد الاسباني إحالة بالغة الأهمية في الحواشي إلى ما أورده الذهبي (القرن الرابع عشر ميلادي) في كتابه عن ابن عربي "ميزان الاعتدال"حيث يقول: "وما عندي أن محي الدين تعمد كذبا (في تجلياته) ولكن أثرت في ذلك الخلوات والجوع فسادا وخيالا وطرف جنون".

إذن ثمة معرفة قديمة بإشكالية صحية ما عند ابن عربي لا ينكرها هو نفسه. لكنه لم يكن قطعا مصابا "بطرف جنون"كما يقول الذهبي، ولم يكن السبب في "هلوساته العقلية" أو نتيجته "الاستهلاك المباشر لجهازه العضوي ولا الجهد الذهني المفرط" كما اعتقد بلاثيوس. كلّا، فابن عربي كان يعاني بكل وضوح من نوعين من الصرع: العام والصدغي.
والآن إلى الحجج. لكن ليسمح لي القارئ قبل ذلك ولترابط الأمور، أن أتحدث بعض الشيء عن علاقتي بهذا المرض الغريب.هو تخصصي داخل تخصص مرض الأعصاب الذي تخرجت به من المستشفيات الجامعية بسترازبورغ في أواخر السبعينات. وكمعيد شاب في كلية طب تونس كان من بين قائمة الأمراض التي كنت أحاضر فيها. أذكر دهشة الطلبة وأنا أقرأ لهم وصف الأنواع المختلفة من المرض من... روايات دستويفسكي. فهذا الأديب العملاق الذي عاني من الصرع طوال حياته أعطى له أدق الأوصاف حيث جل أبطاله من المصروعين. ثم بقيت سنوات أعالج المرضى إلى أن تم طردي من المستشفيات سنة 1994. لكن حتى مشارف 2000 تاريخ طردي من كلية طب سوسة، تمكنت من الإشراف على عدد من الدراسات الميدانية وبعض الأطروحات منها أطروحة عن الصرع في كتاب القانون لابن سينا.

الطريف في الأمر أن ابنتي الكبرى لم تجد من تتزوج إلا ابن زميل مختص في نفس المرض وهو ما يمكننا- عندما تسمح لنا بذلك حرّة، حفيدتنا المشتركة - من نقاشات طويلة حول آخر المستجدات العلمية أو كتابات الصهر الزميل عن تأثير المرض عند الشاعر الفرنسي فلوبير. فابن عربي ليس أول شاعر ومفكر عملاق شخّص عنده مرض ارتبط في أذهان الناس، على مر العصور وفي كل الحضارات، بقوى غيبية مخيفة تتقمص جسد المصاب. وابوقراط في القرن السادس قبل الميلاد هو أول من أزاح صفة القداسة والغيبية عنه مركزا على أنه مرض عادي يصيب الدماغ ويجب التعامل مع المصابين به على أساس أنهم مرضى عاديون لا كضحايا الشياطين أو الآلهة.

كيف لا تأتي الناس الرهبة والخوف من مرض يصف ابن عربي أحسن وصف انطلاقته؟

"ولما دخلت هذا المنزل–وأنا بتونس (التي قضى فيها تسعة أشهر في طريقه من الأندلس إلى المشرق) في 1201 ميلادي - وقعت مني صيحة عالية مالي بها من علم أنها وقعت مني، غير أنه ما بقي أحد ممن سمعها إلا سقط مغشيا عليه، ومن كان على سطح الدار من نساء الجيران مستشرفا علينا غشي عليه ومنهن من سقط من السطوح إلى صحن الدار على علوها وما أصابه بأس، وكنت أول من أفاق وكنا في صلاة خلف إمام فما رأيت أحدا إلا صاعقا، فبعد أن أفاقوا قلت ما شأنكم؟ قالوا أنت ما شأنك؟ لقد صحت صحة أثرت ما ترى في الجماعة، فقلت والله ما عندي خبر أنني صحت"( الفتوحات، 1-225 نقلا عن كتاب بلاثيوس).

هذه الصرخة المدوية التي أرعبت الأجيال ممن يحضرون انطلاق نوبة الصرع- في شكله العام – أو النوبة الكبرى، هي مجرّد صوت الهواء وهو يشق طريقه بصعوبة خارج حلق المريض وقد انقبضت فجأة عضلاته، كما تنقبض كل عضلات الجسم نتيجة اندلاع "عاصفة كهربائية "مفاجئة تلتهب في كامل القشرة الدماغية. فالخلايا العصبية كما هو معروف هي التي تتحكم في العضلات وظهور الارتجاجات الكهربائية يؤدي إلى جملة التغييرات التي نراها عند المريض ومنها الصرخة والإغماءة والخض أو التخبط (وهو نتيجة الرفع الدوري للتشنج العضلي).

المشكلة وجود أنواع من الإغماء لا علاقة لها بالصرع، خاصة في الهستيريا، ومن ثمة ضرورة اعتماد علامات مميزة. هكذا تعلمت أجيال من الأطباء أن وجود الصرخة دليل قاطع على أننا أمام نوبة صرع، لكن غيابها ليس دليلا على عدم وجود الصرع، حيث يمكن أن يسقط المريض مغشيا عليه قبل أن يجد الهواء الوقت الكافي لشق طريقه. حتى التشنجات العضلية يمكن أن تغيب، لكن العلامة المميزة لإغماءة الصرع هي ما يصفها ابن عربي "وكنت أول من أفاق قلت ما شأنكم؟ قالوا أنت ما شأنك؟ لقد صحت صحة أثرت ما ترى في الجماعة، فقلت والله ما عندي خبر أنني صحت".

إن نسيان كل الحادثة أبرز العلامات على الصرع، لذلك تعتمد كحجة دامغة على الطبيعة الصرعية للإغماءة. إذا أضفنا لها هنا الصرخة والإغماءة نفسها وجدنا مكونات النوبة الكبرى للصرع العام وهي التي يقرنها جل الناس بالمرض والحال أن للصرع ما لا يحصى من الأعراض من أبسطها كتحرك بعض العضلات إلى أعقدها، تلك المعروفة بالصرع الصدغي والتي يبدو أن ابن عربي عانى منها حيث نجد لها وصفا دقيقا "وهذا مقام (أي التجلي) نلته سنة ثلاثة وتسعين وخمسمائة بمدينة فاس في صلاة العصر وأنا أصلي بجماعة بالمسجد الأزهر بجانب عين الجبل، فرأيته نورا يكاد يكون أكشف من الذي بين يدي، غير أني لما رأيته زال عني حكم الخلف وما رأيت لي ظهرا ولا قفا ولم أفرق في تلك الرؤية بين جهاتي بل كنت مثل الكرة لا أعقل لنفسي جهة إلا بالفرض لا بالوجود. وكان الأمر كما شاهدته مع أنه كان قد تقدم لي من قبل ذلك كشف الأشياء في عرض حائط قبلتي وهذا كشف لا يشبه الكشف".... وفي موضع آخر من النص "رأيت في الواقعة ظاهر الهوية الإلهية شهودا وباطنها شهودا محققا ما رأيتها من قبل في مشهد من مشاهدنا فحصل لي من مشاهدة ذلك من العلم واللذة والابتهاج ما لا يعرفه إلا من ذاقه (ص 86 )

لا بدّ هنا من الدخول في بعض التفاصيل التقنية منها أن القشرة الدماغية والنواتات الرمادية الموزعة في قلب الفصين المشكلين للدماغ مكونة من خلايا عصبية تعد بمئة مليار وهي بالغة التشابك والتعقيد وأيضا بالغة التخصص، مما يجعل للدماغ خريطة شبيهة بخريطة الكرة الأرضية. لكن الدول هنا مناطق متخصصة في الرؤيا والسمع والكلام والذاكرة والأحاسيس والمشاعر الخ. وهذه خارطة لم تكف عن التغيير منذ القرن التاسع عشر وتتعقد اليوم أكثر فأكثر بتحسن التقنيات الراديوغرافية المتقدمة وتقنيات قياس الحرارة والجاذبية والتدفق الدموي، مثلا إبان الكلام أو الحساب أو التعرف على الوجوه. كل هذا يعطينا صورة تمكننا من فهم سطحي ما يجري إبان الصرع. فإذا انتشرت الاضطرابات الكهربائية المفاجئة في كامل القشرة الدماغية وعلى مستوى الفصين أصيب المريض بالإغماءة. لكن إذا أصيبت بعض المناطق المحددة بهذه الاضطرابات ولم تتوزع فإنها تعطي أعراض حركية – إذا كانت المنطقة المرتجة بالزلزال الكهربائي التي تتحكم في الحركة – أو أعراض حسية إذا كانت الاضطرابات في التي تتحكم في هذه الحاسة أو تلك الخ.

ومن بين هذه النوبات المحددة يوجد صنف الصرع الصدغي – مما يعني أن الاضطرابات مست القشرة الصدغية الموجودة بين قشرة الجبهة إلى الأمام وقشرة وراء الرأس إلى الخلف. وفي هذا الصنف من المرض لا يسقط المريض مغشيا عليه وإنما يفقد ارتباطه بالواقع فلا يكلم أحدا ولا يسمع من أحد ويبقى شاخص البصر في الفراغ ويأتي حركات آلية تثير استغراب الناس مثل المشي والدوران وتحريك عضلات الوجه وفتح أزرار القميص. وعند خروجه من هذه الحالة يروي أنه لم يكن يعرف من هو وأين هو (لم أفرق في تلك الرؤية بين جهاتي) وأنه كان يعيش شبه حلم رأى فيه أشياء غريبة وشعر بخوف كبير أو بسعادة عارمة (فحصل لي من مشاهدة ذلك من العلم واللذة والابتهاج ما لا يعرفه إلا من ذاقه).

الثابت أن الاضطرابات الكهربائية كانت تندلع في مؤخرة القشرة الصدغية حيث تبدأ بنور كاشف، وهذه منطقة البصر، ثم تتقدم إلى الأمام وربما تتوغل في عمق الدماغ. للأسف لا يقول ابن عربي هل كان يشاهد النور في النصف الأيسر أو الأيمن من فضاء الرؤية وهو ما كان يعيننا على تحديد أي فص من الفصين هو الذي كان منطلق النوبة.

إن أهم قواعد التفريق بين الصرع الصدغي وأي نوبة هلوسة تشاهد في بعض الأمراض العقلية، هي بداية النوبة فجأة وانتهائها فجأة، وتواترها عند نفس المريض مع انعدام وجود أي ظاهرة مرضية أخرى بين النوبات. هذا بالضبط ما يوجد عند ابن عربي مما يجعلنا ننفي نفيا قاطعا الهستيريا أو المرض العقلي الذي تبدأ أعراضه ببطء ولا تتواصل دفعة واحدة لسنوات في حالة غياب العلاج.

تبقى آخر الإشكاليات وهي سبب العطب الدماغي المتسبب في هذه الاضطرابات الكهربائية التي تنفجر كالبراكين أو كالزلازل دون قدرة لأحد على التنبؤ بوقت وقوعها. وفي الواقع فإن كل الأمراض المعروفة قادرة على إحداث العطب مثل الإصابة بالالتهاب الجرثومي أو السرطان، أو التسمم بالكحول، أو الإصابات الوراثية، أو اضطراب الدورة الدموية الخ. بتفحص الأسباب يمكن استبعاد الورم السرطاني والاضطرابات الدموية لأنها تشاهد في الكبر وتقضي سريعا على المريض. ثمة إشارة هامة يذكرها ابن عربي تضعنا على الطريق:

"مرضت فغشي علي في مرضي بحيث أنني كنت معدودا في الموتى "وفي أماكن أخرى يتحدث عن حمى شديدة أصيب بها أثناء هذا المرض الذي أصابه طفلا أو شابا على الأقل لأنه حصل في حياة والده "فأفقت من غشيتي تلك، وإذا بأبي رحمه الله عند رأسي يبكي وهو يقرأ سورة "يس"وقد ختمها فأخبرته بما شاهدته" (الفتوحات 4-648).

إذن نحن أمام مرض أدى إلى إغماء جعل ابن عربي في تعداد الموتى أي أننا أمام ما نسميه حاليا الكوما، كل هذا مع حمى شديدة تبعتها الأعراض للنوبة العامة والصدغية. بعض العلامات التي تدفع للاعتقاد بأننا أمام التهاب دماغي قد يكون بفيروس ما. لكن يجب التأكيد هنا على أننا أمام فرضية ليست لنا من الأدلة ما يؤكدها خلافا لطبيعة المرض الذي لا جدال فيه.

* * *

هذا بخصوص المعطيات، ماذا الآن عن الاستنتاجات؟

لا شكّ أن أعداء الشيخ الأكبر – وهم كثّر هذه الأيام التي يصول ويجول فيها فكر ابن تيمية أكبر خصوم ابن عربي - سيسرون باكتشاف (أو إعادة اكتشاف) مرض عصبي عند من يتهمونه دوما بالزندقة والهرقطة، بل وسيجدون في ما يكتبه رجل علماني، أكبر تأييد لمقولاتهم الدائمة على أن النظريات التي شكلت لهم دوما تحديا أو استفزازا لا يطاق مجرد هلوسات مصروع. وفي الاتجاه المعاكس يمكن لأحبّاء ابن عربي رفض هذه المعطيات ومحاولة التقليل من أهميتها لانخراطهم دون وعي في منظومة خصومتهم الفكرية والحال أنه ليس لهم ما يخشوه بل بالعكس.

حتى تتضح هذه الفكرة لا بدّ من التذكير بجملة من البديهيات:

1- أن الصرع مرض يصيب حوالي خمسة في كل ألف شخص مما يعني أن هناك دوما عشرات الآلاف من المصابين في أي مجتمع،وكلهم لا يصبحون دستيوفسكي أو يوليوس قيصر، بل للأسف العكس هو الصحيح، حيث يعاني جل هؤلاء المرضى نتيجة أسباب اجتماعية ظالمة من التمييز وتدني مستوى الدراسة والتأهيل والنجاح الاجتماعي.

2- أن كل من يعانون من الصرع الصدغي لا يكتبون ترجمان الأشواق ولا يخرجوا من نوباتهم بنظرية التوحيد، ولا توجد علاقة بين الأمرين كسبب ونتيجة، أللهم إلا إذا قلنا بوجود علاقة بين الإصابة بالسل أغاني الحياة عند أبو القاسم الشابي.
إن القراءة الصائبة للعلاقة هي التي تقول بأن ابن عربي أصبح ابن عربي ودستيوفسكي الروائي العظيم لا نتيجة للصرع وإنما بالرغم منه. لهذا يجب أن يتزايد إعجابنا بابن عربي لا أن ينقص ونحن نكتشف أنه ارتفع إلى قمم الشعر والدين والفلسفة بالرغم من عاهة تؤدّي أغلب الوقت عند غيره إلى تحطيم الذات.

يبقى السؤال الضخم: ما دور المرض الحقيقي إذن؟ على وجه التحديد ما مدى مساهمة نوبات الصرع الصدغي بهلوساته البصرية والحالات غير الطبيعية التي يمر بها المصاب في تكوين رؤيا ابن عربي وشخصيته؟

بعبارة أخرى ما علاقة النوبات بما يقدمه ابن عربي كتجليات تنكشف له إبانها الأسرار الإلهية ومنها رؤيته المباشرة لعرش الله (ص 54)؟ هنا علينا تفادي الدخول في النقاشات حول ضرورة إعمال القراءة التأويلية في كلام الرجل الذي نادى بهذه المنهجية في قراءة القرآن، والبقاء على المستوى الطبي وحده.

ومن هذا المنطلق يجب أن نضع أنفسنا في جلد ابن عربي، أو أي مصروع في تلك الأزمان الغابرة التي كان سبب المرض فيها مجهولا. كيف يمكن لإمرء ذكي وحساس أن يعيش حياته وهو يعلم أنه يستطيع أن يسقط مغشيا عليه في أي لحظة، أو أن يتوقف وعيه العادي ليجد نفسه لبعض دقائق من الزمان – تبدو له وكأنها الأبدية- وسط عالم تبخرت فيه ذاته وكأنه داخل حلم يعلم أنه ليس حلما، ثم يعود بغتة للواقع وكأنه ارتحل إلى ما وراء العالم وعاد منه لا يعلم أين كان ولماذا ارتحل ولماذا عاد؟

بطبيعة الحال لا يمكن لأي مصاب إلا أن يتعاطى مع هذه الحالات المفروضة عليه فرضا إما بالإنكار وإما بالبحث لها عن أسباب تجعلها مقبولة ومحتملة. ما من شك أن فكر ثاقب كفكر ابن عربي ما كان ليرضى بالإنكار أو بالاستسلام وإنما هو "وظّف"عاهته هذه واستغلها أحسن استغلال لترفعه بدل أن تخفضه. لقائل أن يقول هنا إذن صدق الفقهاء فكل تجلياته تفسير، أو تبرير، أو استرزاق بنوباته. نعم، لكن مرة أخرى ما يفوت القائلين بمثل هذا الرأي أن الصرع عند كل العباقرة المعروفين بإصابتهم بالمرض، لم يكن الطرف المحدد في تاريخهم وإنما كان جزءا بسيطا منه.

خذ مثال دستويفسكي مثلا. هو استعمل هذا العرض الذي صاحبه في إثراء شخصيات أبطاله، لكن أي ناقد يجرؤ على القول بأن الصرع هو صانع أدب دستويفسكي؟ فالرجل كان كاتبا عظيما بغض النظر، أو كما قلت رغم إصابته بالصرع حيث يتجاوز عطاؤه الفكري بكثير هذه الإشكالية. نفس الشيء عند ابن عربي. هو أيضا استغل نوباته وقد انتبه لكونها تفتح له باب عالم غريب. لكن عطاؤه لم يكن نتيجة آلية للصرع الصدغي - وإلا لامتلأ العالم بمئات الآلاف من ابن عربي - فترجمان الأشواق ونظرية التوحيد والحلول، إبداعات فكرية لا علاقة لها مطلقا بالمرض مثلما لا علاقة للسيمفونية التاسعة بإصابة بتهوفن بالطرش نتيجة تسمم العصب السمعي بالرصاص الموجود في ماء الشرب.

يجب التفريق إذن بين وجود عاهة حقيقية، كان لها من المؤكد تأثير سلبي –أساسا في زيادة مصاعب الحياة – وتأثير إيجابي –أساسا في إثراء التجربة الذاتية وشحذ الهمة – وبين شخصية الإنسان ككل وطبيعة عطائه التي تبقى مرتبطة بطاقات كامنة داخله ومستقلة في جزء كبير منها عن أي خلل في الفكر أو عطب في الجسم.

ما عدا هذا تواصل خصومة سرمدية وعقيمة بين الفقهاء والمتصوفون، لا ناقة لنا فيها ولا جمل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى