الاثنين ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم رامز محيي الدين علي

استغاثات

الحياة بحر هائج من صرخات الألم واستغاثات المستضعفين والهمل من الجمادات والكائنات الحية.. وليس ثمة من يصغي إليها، أو يسترق السمع إلى أنينها وشكواها إلا من جبل قلبه من أوتار الرحمة وألحان الشفافية، وفيض بركات السلم، وغيض الإنسانية، ورقة الإحساس بالوجود، وغور التأمل في الكون.

في كل مدينة.. في كل قرية.. بل في كل بيت وفي كل زاوية مهملة، ثمة صرخة أو استغاثة.. ولكن لا حياة لمن تنادي..

العالم والأخلاق

العالم بأسره يرى ويسمع صرخات الأطفال واستغاثات النساء وأنات الشيوخ في فلسطين والعراق وأفغانستان والشعوب المقهورة تحت وطأة أنظمة استبدادية عفنة لم يعرف التاريخ مثيلا لقمعها وتسلطها على رقاب خلق الله.. ولكنه عالم صم بكم، فهم لا يفقهون؛ لأن ضمائرهم خدرت بأفيون المادة والشهوات.. فباتت تلك الصرخات والاستغاثات والآلام فيلما مسرحيا أمريكيا يشاهده العالم، وهو يحتسي قهوته، ويتناول طعامه باسطا ذراعيه بالوصيد..
كل يوم نرى ونسمع الآلاف من تلك الصرخات والاستغاثات والأنات تتصاعد من أفواه أشقائنا في العروبة والإسلام، لكن لا معتصم يغيثهم، فالمعتصمون العرب والمسلمون يعتصمون بحبال أوهامهم وطموحاتهم الذاتية، وإذا عرفوا شيئا من الاعتصام، فإنما هو اعتصام بكراس من حديد.. وأما الشعوب فعصمتها تحت أحذية أقدام عسكرية تدوسها صباح مساء..
امرأة عربية استغاثت بالمعتصم الخليفة العباسي، فهب لاستغاثتها بجيش عرمرم يطوي الأرض طيا، وفتح به عمورية انتقاما من الرومي الذي لطم تلك المرأة العربية.. وعمر بن الخطاب الخليفة الراشد رضوان الله عليه يعبر عن مسؤوليته عن رعيته وعن ممتلكاتهم، فيقول : (( والله لو تعثرت شاة في أرض العراق، لخشيت أن يسأل عنها عمر يوم القيامة )).

أرضنا وأوطاننا مغمورة ببحر عظيم من الاستغاثات والصرخات والأنات، وغواصو النجدة يثملون بملذاتهم وشهواتهم، وضمائرهم مخدرة بشتى أنواع المخدرات والأفيون.. كل شيء في حياتنا يستغيث ويستنجد، ولا من مغيث ولا من مجيب..

انظر إلى الأخلاق والقيم الإنسانية والأخلاقية كيف تستنجد وتستغيث أمام طوفان وطغيان المادة على كل مناحي الحياة..

الشجاعة تستغيث كل يوم، فلا ترى إلا صمت الجبناء وثرثرة المنافقين والدجالين.. ونقيق المتضفدعين وتموج المتوجين..

والحب يستغيث، فلا يجد إلا الأنانية والبغض والكراهية والشهوات والملذات الحيوانية والتلاعب بالأحاسيس والمتاجرة بها.

والجود يستغيث، فلا يعثر إلا على حيتان ضارية تكتنز ثروات العالم في بطونها، ولا تتخلى عن فلس واحد لمساعدة الفقراء والمستضعفين في الأرض.

والرحمة تستغيث، فلا تصطدم إلا بقلوب متحجرة كالصخور الصلدة، لا تعرف طعما للرحمة، ولا تستطيع كل أزاميل الإنسانية أن تنقش فيها حرفا من المحبة والتسامح.

والنبل يستغيث، فلا يقع إلا على نفوس وضيعة، خلت من النزاهة والشمم والكبرياء، فباتت عبيدا لسلطان المادة والأنانية والمصلحة والمنفعة الذاتية.

والكرامة تستجير، فلا تجد إلا نفوسا تمرغ بأوحال الوضاعة وقلة الضمير والاتجار بالشرف وحقوق الأوطان والبشر.

والمروءة تستنجد، فلا تواجه إلا المتخاذلين والانتهازيين وأبناء الشوارع والهمل الذين همشتهم الحياة؛ فأصبحوا بلا حياة، لا يسمعون من يناديهم.

والإيثار يستغيث، فلا يقف إلا على أوحال من الأنانية والجشع والطمع والاستئثار وحب الذات ومبدأ ( اللهم أسألك نفسي ).

والبطولة تستغيث، فلا تجد إلا جبناء يدمرون العالم بأسلحة ذرية وكيماوية وطائرات وقاذفات لا تعرف معنى من معاني البطولة.. ولا تلقى إلا أرواحا تزهق في الدفاع عن كرامتها، وقد علقت عليها يافطات تحمل عبارة يوسم بها كل آدمي عزيز يضحي في سبيل عزته وكرامته: ((إرهابيون )).

والصدق يصرخ، فلا يسمع إلا صدى الكذابين والمنافقين وأصحاب الخطب السياسية والدينية الرنانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

والوفاء يستجير، فلا يجد قبل وجهه إلا المواثيق والعهود الكاذبة الخادعة والتسويف واللف والدوران والوعود البراقة..

والأصالة تكاد تنتحر على مذابح الصرعات العصرية، فلا تجد أمامها إلا الجواري الخنس ومادونات القرن الحادي والعشرين من الجنسين.

والعفة تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام سموم العهر والخلاعة والسكر والمجون وتستغيث، فلا ترى بصائرها إلا الدناءة والرجس والانفلات الجنسي الصارخ..

والطهر يستصرخ النفوس النقية، فلا يرتطم إلا بجدران القذارة ولوثة المجرمين من طغاة العالم الذين دنسوا كل ذرة طاهرة في الحياة.

والأنوثة تستغيث، فلا تقع مداركها إلا على ذكور يتشبهون بالإناث، وإناث يتشبهن بالرجال.. فرحم الله سراويل رجال باب الحارة..

والإنسانية تستغيث، فلا تكتحل عيناها إلا بألوان العصبيات العرقية والمذهبية والسياسية.. والتكتلات الاقتصادية القائمة على المصالح المادية المشتركة..

كل قيمة إنسانية وأخلاقية تستنجد في الحياة، فلا تشتم إلا رائحة الوحشية والنازية والبربرية البغيضة..

الكائنات الحية والجمادات

وفي عالم الحيوان والكائنات الحية غير العاقلة، نسمع ملايين الصرخات والاستغاثات دون أن يصغي إليها كائن لبيب؛ ليسمع صرخاتها واستغاثاتها.

فالحيوانات الضارية المفترسة تستغيث، فلا تسمع إلا هدير الطائرات والصواريخ وانفجارات القنابل وأزيز الرصاص وزعيق سلاسل الدبابات والمجنزرات والحديد والنار..

والطيور تبكي وتسترحم النفوس الآدمية الشفافة، فلا ترى إلا أفاعي وصيادين تنهش بفراخها دونما رحمة أو شفقة.

والحشرات التي تدب في الأرض تتوسل إلى البشر، فلا تجد نفسها إلا تحت وطأة أقدامهم وسموم رشاشاتهم ونيران حقدهم الأعمى..

والطبيعة تنوح وتتوسل إلى البشر للخلاص من الدمار، فلا تفتح عينيها على نور الصباح إلا وقد أحرقتها أيدي التتار والمغول ولوثت أنهارها وبحارها وهواءها بشتى أنواع السموم والقاذورات ونيران الحروب ودخان الحقد والغطرسة الاستعمارية..

وفي عالم الجماد كل شيء يستغيث، دون أن يفهم تلك الاستغاثات إلا من أتوا الله بقلب سليم وفكر عظيم.. وقد جبلت نفوسهم من نسائم الرحمة وتبر الضمير الإنساني الصافي..
مشهد واحد من مشاهد الجماد جعلني أشعر وأحس وأفكر بمشاعر كل الجمادات.. مشهد يدفعك للتسلل إلى أعماقها متسلحا بعدسات الفكر وأنزيمات المشاعر وومضات الروح..
كنت عائدا من عملي في التدريس، رأيت في الطريق العامة إلى دبي سيارة مدنية حديثة، وقد ظننتها عائدة من الحرب، من كثرة الغبار المتراكم عليها، تأملتها جيدا، فإذا بامرأة تقودها، وقد ظهرت لي ملامحها من خلال جملة كتبت بإصبع اليد على زجاجها الخلفي، تقول:
((اغسليني أرجوك )). وربما كتبها إنسان ما يريد أن ينقل للناس شكوى السيارة من الغبار الكثيف المتراكم عليها.. وربما أراد أن يوقظ ضمير سائقتها، لعلها تخلصها من هذا العار أو ألم الإهمال.

وهنا أتساءل: كم من الجمادات والأشياء الموجودة في الحياة تشكو وتستغيث، فلا تجد من يترجم مشاعرها للآخرين.

أليس في كثير من البيوت قطع من الأثاث، تحتاج إلى ذلك الإصبع ليخط عليها شكواها من الإهمال وتراكم ذرات الغبار عليها وتآكلها من العفونة والحشرات؟!

أوليس في أبواب ونوافذ كثير من المنازل صرخات ألم تناجي: اصبغوني.. نظفوني.. أرجوكم؟!
أليس في مجالي كثير من المطابخ أوان ومواعين تستغيث من تراكم فضلات الطعام عليها وإهمال بعضها في رفوف تناجي فتقول: اغسلوني.. استعملوني.. أرجوكم؟!

أليس في كثير من المكتبات العامة كتب جمة تشكو من الإهمال وعدم قراءتها، فتستنجد قائلة: افتحوني.. اقرؤوني.. أرجوكم؟!

أوليس في شوارع كثير من الأقطار صرخات احتجاج تنادي فتقول: عبدوني.. سيروا علي.. أرجوكم؟!

أليس في بحار كثير من دول العالم شواطئ تشكو وتحتج، فتقول: نظفوني.. خلصوني من هذه الأوساخ الظالمة.. أرجوكم؟!

أوليس في أنهار كثير من أمصار العالم ذرات من الهيدروجين والأوكسجين تناجي، فتقول: خذوا عني هذه الشوائب النتنة من فضلاتكم وفضلات مصانعكم؟!

أليس في أجواء كثير من بلدان العالم ذرات من الأوكسجين تستغيث، وتقول: خلصوني من حقد كربونكم وغازاتكم المتصاعدة من مصانعكم وأسلحة دماركم في الحروب؟!

أوليس في بطون كثير من أراضي العالم ثروات تستغيث وتنادي، فتقول: كفاكم جشعا ونهبا واستهتارا واستغلالا لي.. ألم تشبع شهواتكم وأنانيتكم؟!

أليس في سماوات العالم كثير من المجرات والنجوم والكواكب يستنجد، فيقول: تعالوا أيها البشر لتكتشفوني وتعرفوا ما لدي من طاقات وأسرار؟!

أوليس في بحار ومحيطات كثير من دول وقارات العالم استغاثات تنادي، وتقول: غوصوا إلى أعماقي لتدركوا ما في أحشائي من ثروات ودرر وطلاسم وغموض؟!

أليس في حدائق كثير من دول العالم أشجار تشكو من الإهمال والنسيان، فتناجي قائلة: اعتنوا بي.. اسقوني.. قلموني.. لا تكسروني.. لا تقطعوني.. أرجوكم؟!

أليس في كراسي كثير من حكام الدول وقادتها السياسيين والعسكريين صرخات ألم تستغيث وتناجي: كفاكم جلوسا عليّ، فقد مللت من وطأة بقائكم رابضين عليّ، افسحوا المجال لغيركم؛ كي يعرف لذة الجلوس علي.

أوليس في عقول كثير من البشر أفكار تناجي وتستغيث قائلة: جددونا وأخرجونا من أوهام الخوف والرهبة؟!

ثم أليس في كثير من العقول الأخرى خلايا دماغية تستنجد وتستغيث: فكروا قليلا فيما يدور حولكم.. لعلنا نستطيع أن نتحرر من هذا الجمود الذي كاد يودي بحياتنا؟!

أليس في أجساد كثير من البشر أعضاء تستغيث وتستنجد قائلة: كفاكم تقاعسا وإهمالا.. أو كفاكم إسفافا وإفراطا ومبالغة ؟!

أوليس في أجساد كثير من الناس أعضاء تضيق من غزارة الإنتاج.. وأماكن أخرى تشكو من الفقر والعدم في الإنتاج؟!

كوكب الأرض:

إلهي وخالقي العظيم.. لقد خلقتني بين بدائع خلقك، وجعلتني كرة تسبح في الفضاء، ومنحتني كل مقومات الحياة، وحبوتني برعايتك، وأبدعت في من عناصر الحياة والجمال ما تفتقر إليه الكواكب الأخرى في فضائك اللامتناهي.

وأنت أعلم بحالي، فلا تكلني إلى بشرك الذين كلفتهم بعمارتي وبناء حضارتي، والمحافظة على بحاري وأنهاري وسهولي وجبالي ومائي وهوائي ودوائي، ونظافتي ومعافاتي من كل أنواع تلوثي وتدميري.

إنك يا إلهي! أخضعت كل ما في الكون من كواكب ونجوم ومجرات لطوع إرادتك، فخلقتها في نظام كوني دقيق، منظم وعادل، فلا ظلم ولا طغيان، لا كبير ولا حقير، الكل يخضع لأوامر التنظيم والتنسيق والتدبير التي تفيض من عظيم إرادتك ومشيئتك أيها العظيم القدير!!
الكون بأسره تحت إمرتك! فلماذا تركت الحبل- على غاربه- للمجرمين من خلقك يعبثون بي، كما يشاؤون؟

فقد دمروا بحاري وأنهاري، وابتلعوا أزهاري وأثماري وأشجاري، ولوثوا هوائي ومائي وأمطاري، وطاردوا فراشاتي وأطياري، ووأدوا أحبابي وسماري، وألبسوني أردية الدماء والدخان في حروب الأوباش والحمقى وأساطين التجار، واستنضحوا كل ما في من ثروات وخيرات، وأترعوا بها بطونهم التي لا تعرف حد الامتلاء.

إلهي وخالقي! لقد قتلوا فقراءك وأحرقوهم بجحيم الفقر والمجاعة، ودفنوا الملايين من خلقك وأبادوهم بأسلحة إجرامهم، إلهي وأنت جاهي.. رد كيد الكائدين، وجشع الجشعين، وطمع الطامعين، وحقد الحاقدين، وجرم المجرمين، وطغيان الطاغين، واستبداد المستبدين، وسرقة السارقين، ونهب الناهبين، وجبروت المتجبرين، وغرور المغرورين، وعصيان العاصين، وتأله المتألهين، وتسلط المتسلطين ..!!

القلم المسكين

ظواهر غريبة باتت عادات مألوفة عند طلابنا كبعض عادات العرب المستحدثة، منها: عدم الالتزام بالمواعيد، وكثرة الكذب والمحاباة، والنفاق السياسي والاجتماعي، والمداراة والمداورة، والتناقض بين الظاهر والباطن، وبين البادي والخافي، وبين الكلمة وشقيقتها في الجملة الواحدة، والشكوى والأنين على مدى الأيام والسنين، والتبرم والضجر، والتواكل دون العمل والتوكل، وسرعة انتشار الخرافة والمعتقدات الهزيلة، وتحميل الظروف ما لا طاقة لها من أسباب الخيبة والتخلف، والانهزام والتقهقر، والانحطاط والتشرذم والضياع.

من هذه الظواهر اليومية المألوفة في تاريخنا الحديث: نسيان القلم، أو الكتاب، أو الحقيبة، أو اللباس المقرر، أو العقل والوعي والإدراك والإحساس، فلا نجد أمامنا إلا أكداسا من الأجساد الآدمية التي تبني أمتنا العربية كل آمالها وطموحاتها عليها.. ولا أجدني إلا مناديا ومستغيثا أردد ما قاله شاعرنا الكبير عمر أبو ريشة:

أمتي، هل لك بين الأمــم
منبــر للســــيف أو للقــــلم
أتلقاك و طــرفي مطــــرق
خجلا من أمسك المنصرم
ويكاد الدمــع يهمي عابثـــا
ببقــايا كبـــرياء الألـــــم !
أمتي كم غصــــة داميـــــة
خنقت نجوى علاك في فمي
أي جــرح في إبائي راعف
فاتــــه الآســـي ولــــم يلتئم

وهنا دخلت إلى أعماق القلم والكتاب والحقيبة واللباس أستنضح مشاعرها ورؤاها، باعتبارها محسوسات ندركها بحواسنا، في حين فشلت في الدخول إلى العقل والوعي والإدراك والإحساس، باعتبارها قوى متمردة على أجسادها وفي عالم آخر لا يدركها إلا من خلقها..
وفي لحظة من لحظات اليأس سمعت مناديا يستغيث :

أرجوك يا طالبي اشتريني، فقد مللت الإقامة في الدكاكين، لست عروسا مهرها بالملايين، أنا قطعة من الخشب أو البلاستيك، محشوة برصاص أو بحبر شديد التقنين، أنا لست لفافة طعام تأكل شطرا مني فترميني.. أنا لست حبا من

دوار الشمس تكسرني فتؤذيني.. أنا لست خادمة تبيعني وتشتريني.. أنا لست لبانا تعلكني بين أسنانك كالتنين.. أنا رمز العلوم تخط بي أنامل العلماء في كل فلسفة ودين.. أنا صديق المبدعين، أخط عصائر عبقريتهم حروفا من لجين، أرجوك يا سيدي الطالب! أشفق علي، وتصدق ببعض أموالك واشتريني، وخلص جمودي على الرفوف من الشكوى والأنين.. أرجوك يا سيدي لا تبخل علي بدرهم أو درهمين..!

كثرت الاستغاثات، وتعددت الآلام، وتنوعت الشكوى.. والنتيجة واحدة: هي أن البشر مصدر الشقاء والألم، وهم وراء كل استغاثة وشكوى مما اقترفوه بحق البشر أنفسهم، وبحق الطبيعة بما فيها من نبات وحيوان وجماد.

وليس ثمة من يسمع أو يغيث الملهوف، فالآذان صم، والألسنة بكم، والعيون عمي، والضمائر سكرى، والمشاعر قتلى، والأفكار ضحلة بلهى، والإنسانية بأسرها صرعى.. ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام..

أيها المستغيثون:

أيها الشرفاء والأبطال.. أيتها النساء والأطفال.. أيها الشيوخ والرجال.. إن في كل استغاثة من آلام أجسادكم وأرواحكم قنبلة وبركانا سيحرق عدوكم، ويحيل لذتكم بالقتل والدمار إلى ألم وصراخ أعظم بكثير من ألمكم وصراخكم!!

التاريخ مليء بالعبر والدروس.. فكل ظالم نهايته الفناء.. وكل طاغية ختامه بؤس وشقاء.. وكل متجبر متكبر مصيره إلى ذل وخنوع وموت وهباء!

كم من فرعون في الأرض طغى وبغى، وبنى قصورا من جماجم الأبرياء؟! لكن ظلمه أغرقه في بحر من الدماء، فمات موت الجبناء والحقراء!

وكم من امبراطورية استعمارية ضربت بأنفها أجواز السماء، وناطحت بعنجهيتها غمام الفضاء، واشرأبت بغطرستها، لتطفئ دفء الشمس وحنان ضوء القمر، لكنها أحرقت في جحيم نازيتها، ودمرت في إعصار طغيانها، وزلزلت في وطيس غرورها، وسحقت تحت أقدام عنجهيتها؟!

أيتها الحيوانات المفترسة والأليفة.. أيتها الحشرات التي تدب في الأرض.. لا تتذمري من ظلم البشر.. فالبشر مفترسون ظالمون لأنفسهم أكثر من ظلمهم لكم.. وإذا كان بينكم جور من القوي على الضعيف أو المفترس على الأليف، فهو ظلم من أجل البقاء، وصراع من أجل لقمة العيش والاستمرار!! فلم نر يوما حيوانا مفترسا يقتل فريسته تمتعا ولذة بالقتل، وإنما من أجل إشباع أحشائه المتضورة جوعا!! ولم نر وحشا سابغا يعتدي على زملائه وإخوانه من الوحوش، حبا بالعدوان أو الغطرسة، فاسمعي ماذا يقول الإمام الشافعي- رحمه الله- عن البشر وعنكم:

نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب
ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضا عيانا

وأنت أيتها الحيوانات الأليفة.. تحملي ظلم الحيوانات المفترسة؛ لأنها تنظر إليك نظرتها إلى الضحية.. فطبيعة الحياة فرضت عليكم مبدأ: (القوي يأكل الضعيف..)، وأنا لا أدعوك إلى الاستسلام والركون إلى هذا المبدأ، بل ثوري وتمردي وقاتلي حتى تحمي نفسك من الوحوش المفترسة..

أي مبدأ.. بل أي قانون كوني يفرق بين روح وروح، أو بين جسد وآخر؟ أي دستور سماوي يرضى بأن يكون هناك: قاتل ومقتول.. أو آكل ومأكول؟! إنني أرفض الظلم والاضطهاد والعبث بالأرواح والأجساد تحت أي شعار أو مسمى: (طبيعة الحياة.. سنة الكون..).

ولكن انظروا إلينا نحن البشر، وتأملوا علاقاتنا، ستضحكون وتسخرون وتشكرون ربكم على نعمكم!! فعندنا وحوش آدمية، لا تعرف من الرحمة معنى من معانيها، فكم حصدت هذه الوحوش من الأرواح البشرية الآمنة؟! وكم نهبت من

الثروات والخيرات؟! وكم ارتكبت من الآثام والمعاصي والجرائم؟! وكل همها إشباع نهمها وشهواتها وملذاتها، وليس ذلك من أجل البقاء؟!

لم نر يوما أن مجموعة من الوحوش طغت وبغت وأحرقت اليابس والأخضر، وقتلت الشيوخ والصغار والإناث في عالمكم الحيواني، واحتلت أراضي الحيوانات الأخرى واستعمرتها..!! لكنكم ترون بأم أعينكم كيف تتهافت وحوش البشر إلى احتلال أراض تبعد عنهم آلاف الكيلومترات، ولا تتوانى في استخدام شتى أساليب القتل والتدمير، من طائرات وصواريخ ودبابات وقنابل وغازات وأسلحة محرمة في مجتمع البشر الوحشي.. وتأكل كل أخضر ويابس، وتقتل وتبيد ملايين النفوس الطاهرة من أطفال ونساء وشيوخ، وحتى حيوانات وحشرات وجمادات!! فهل فعلتم في حقبة تاريخية من الزمان، ما فعله وحوش البشر في تاريخهم الطويل؟!

إنكم، أيها المجتمع الحيواني، عالم ملائكي فيه من القيم والمبادئ والأخلاق، ما ليس عند جميع شعوب الأرض قاطبة..

فعندكم من الشجاعة والإقدام والكرم والمروءة والوفاء والحمية والتضحية والحياء، ما ليس عند البشر، إلا من رحم ربي.. انظروا إلى العهر والسكر والعربدة والمجون والخلاعة دون أي عهد أو حياء.. سترون أنكم مجتمع هدايته من

السماء أمام ضلال البشر بعد آلاف الهدايات!! وانظروا إلى علاقات البشر بعضهم ببعض، ستجدون أن العلاقة بين المفترسين والضحايا في مجتمعكم أنبل بكثير من علاقاتهم!!
أما أنتم أيتها الحشرات.. فزغردوا وهللوا وافرحوا لما أنتم فيه من بركات السماء.. ولا تحزنوا لما يصيبكم من ظلم البشر، وحسبكم فخرا وشمما أنكم مجتمع فيه من العدل والمساواة والمحبة والإخاء والتعاون، ما ليس عند أهل الأرض بأسرها.

وحسبكم فخرا وشرفا أن النمل واحد من مجتمعاتكم، يضرب به المثل في التعاون والإخاء، وتحدي الصعاب من أجل البقاء، واقتسام الطعام في السراء والضراء والنعم والنقم بكل عدل ومساواة، دون أن يطغى طاغ أو يبغي باغ أو يسطو ساط على حصص الآخرين!!

وكفاكم فخرا واعتزازا أن النحل مملكة من ممالككم العظيمة التي تتمتع بالحرية والديمقراطية والحب والتعاون واقتسام العمل، كل في مكانه المناسب دون واسطة أو تزوير.. ودون محسوبيات أو مصالح أو أي اعتبارات مذهبية أو طائفية أو قبلية أو عرقية..!!

فالملكة، في مملكتكم ، تضع البيض بعد تلقيحها من مجموعة من الذكور التي تضحي بحياتها في سبيل سعادة الملكة، واستمرار نسلها بالتلقيح.. والنحلات العاملات يتولين حراسة الخلية وإطعام اليرقات والملكة، وجلب رحيق الأزهار لصنع العسل..ويتم ذلك بكل دقة ونظام، دون أن تتوانى واحدة منها أو تتقاعس عن العمل، ودون أن يطمع أحد في رئاسة المملكة بالقتال أو الانقلابات السياسية أو العسكرية!!

وما أعظم هذه التضحية من هؤلاء الذكور، فهم يعرفون أن مهمتهم ستودي بحياتهم، ولكنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة!!

أما في مجتمعاتنا البشرية، فالفرد الذي يطمع في كرسي الحكم، لا يمتنع عن إذابة منافسيه أو أعدائه ولو بالأسيد أو السموم القاتلة أو الأسلحة الكيماوية، ولو كلفه ذلك قتل نصف المجتمع، فالمهم أن يصل إلى ذلك الكرسي، بأي ثمن كان! أما النظام في مجتمعكم أيها النحل، فأنتم في عالم المجرات والكواكب والنجوم؛ كل فرد منكم يؤدي مهمته بنظام، دون فوضى أو مشكلات أو خيانة أو اغتيال أو احتيال! أما مجتمعاتنا البشرية؛ فأين منها البربرية والنازية والقبلية وعصابات قطاع الطرق؟! إنها مجتمعات غابات، لا صوت فيها للضعيف أمام زمجرة القوي، ولا رأي للحكماء أمام عنجهية الطغاة والمستبدين، ولا وزن للقيم والمبادئ تحت نعال الأوباش والمردة من الأغبياء والمتنفذين!!

فطوبى لمجتمعكم أيتها الحيوانات والحشرات، ودامت عليكم النعم، لما أنتم فيه من قيم ومبادئ ومثل، والله في عون كل حيوان ما كان الحيوان في عون أخيه.

وتبا لمجتمعاتنا البشرية، وزالت عنا النعم، وحلت علينا النقم، لما فينا من انهيار في القيم والمثل والأخلاق ومن ظلم وطغيان وقسوة.. وبشر الظالمين بعذاب أليم، والمفسدين والطغاة بيوم عظيم!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى