
الأدب الفلسطيني المقاوم أبعاد ومواقف 2 من 2
لقراءة الحلقة الأولى من النص نرجى النقر على الرابط التالي: الحقة الأولى
وفي قصيدته هذه، "الى ثوار فيتكونغ" يقول:
إسمعْها تهدرُ ملءَ دميإسمعْها في الوديان على الغاباتِ على القممِإسمعْ صرخاتِ الاحرارِ وقهقهةَ الرشاشْإسمعْ غاراتِ الفاشستِ الأوباشْوأصيحُ أصيحُ بلا صوتِ:الموتُ لآلهةِ الموتِ.ولنلاحظ الآن، هذا الانتقال المذهل:وأُحسُ بكفي تتقلّصْوأغيبُ لبرهةْوأُحسُ كأني أتربّصْبذئابِ الغزوِ على أرضِ الجبهةْوأصبُّ على الأشباحِ النارَ . . وأبكيويعود في قفزة مماثلة:من يجرعُ في باراتِ نيويورك الويسكيمن يلقى في المقهى حلوةْمن ينشدُ في الشارع غنوةْمن يحرثُ في أمريكا، من يزرعْمن يحرُ في فيتنام ويزرعْمن يبقى في المصنعمن يبقى؟يا آلهةَ الموتِ الحمقى في أمريكايا آلهةَ الموتِ الحمقى!
وفي هذا النطاق نجد قصيدة لراشد حسين عن آسيا "بلد الرجال الثائرين على مماطلة الزمان" وقصيدة أخرى لإبراهيم مؤيد اسمها "أنشودة زنجي" وهي قصيدة تدل على ولادة شاعر جيد، إلا أننا مع الأسف لم نعد نسمع عن إنتاج جديد له، وسنرى عدداً كبيراً من القصائد، في هذا النطاق، لمحمود دسوقي، وقصائد ذات أهمية قصوى لحنا أبو حنا عن كوبا وعن أفريقيا المشرقة.
إن الالتزام بالبعد العالمي للمعركة كان دائماً من ميزات شعر المقاومة، ومع ذلك فإن هذا الالتزام لم يؤد الى تمييع الالتزام بالصيغة المباشرة للنزال، ولكنه أغناه وأعطاه معنى وعمقاً وحافزاً، عكْس تجارب كثيرة حدثت في الفترة الماضية في عدد من البلدان العربية.
بهذا المجال يجدر بنا أن نسجل موقفاً لمحمود درويش الذي كان ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" في معظمه، غناء لثورات أفريقيا، والذي غنّى لثورات العالم بإخلاص وعمق وتلقائية تبعثُ على الإعجاب، والذي – أيضاً – قدم فيما أرى أجود رثاء عربي للشاعر الإسباني الثائر لوركا، نقول، مع ذلك كله ينظر محمود درويش نظرة واعية للمسألة كلها في قصيدته: "عن الأمنيات"، حين يقول:
لا تقلْ لي:ليتني بائعُ خبزٍ في الجزائرْلأغنّي مع ثائرْلا تقلْ لي:ليتني راعي مواشٍ في اليمنْلأغني لانتفاضات الزمنْلا تقلْ لي:ليتني عاملُ مقهى في هفانالأغني لانتصارات الحزانىلا تقلْ لي:ليتني أعملُ في أسوان حمّالا صغيرْلأغني للصخورْيا صديقي!أرضُنا ليستْ بعاقِرْكلُ أرضٍ، ولها ميلادُهاكلُ فجرٍ، وله موعدُ ثائرْ!
إن وعي الالتزام بحركة الثورة في العالم يكتسب قيمته مما يؤديه الى وعي الالتزام بالثورة المحلية، وليس من كونه صيغة رومانطيكية ذات طابع تنصلي عن طريق المزايدة، وهذا الإدراك الذي عبر عنه أدب المقاومة العربي بوضوح ومباشرة وحسم يضع البعد الإنساني في المقاومة في مكانه الصحيح، الذي يشكل حافزاً ومسؤولية، في آن واحد.
يضع سميح القاسم هذا المبدأ كما يلي:
فهناك، في أعماقِ أفريقيا الجواري والعبيدْفجرٌ يمرّ بكفّه فوقَ الجباهِ الناحياتْويصبُّ فيها النورَ والدمَ والحياةْوهناك في أعماقِ أمريكا الجريمةُ والتموقُ والضياعْطبلٌ يدقُ بلا انقطاعْلمدينةٍ تُشرى وزنجي يُباعْوهناك، في الأفق القريبِ هناكَ في الأفقِ البعيدْليستْ تُتمّ الأرضُ دورتَها بلا نصرٍ جديدْفاحملْ لوءاك وامضِ في هذا الطريقْ. . أبداً على هذا الطريقْشرفُ السواقي أنها تفنى، فدى النهرِ العميقْ
ولكن الأمر يختلف، من حيث الكم والنوع، حين يتعامل أدب المقاومة مع واحد من أبعاده الأساسية، وهو البعد العربي.
إن طبيعة القضية الفلسطينية تضعها في مركز الوسط من التفاعلات العربية، وبالتالي فإن شعر المقاومة في فلسطين المحتلة يمكن أن يوصف بأنه الناطق بلسان تلك التفاعلات والمؤرخ لها.
في ديوان شعر المقاومة ليس بالإمكان مرور أي حدث عربي دون أن يؤرخ في ذلك الشعر، بل إن عدوان 1956 على مصر كان نقطة تحول أساسية في تاريخ ذلك الشعر، وكذلك كانت ثورة الجزائر، وثورة اليمن، وبناء السد العالي، وفي هذا النطاق بالذات تبدو ولاءات المقاومة العربية والاجتماعية ممتزجة بصورة عضوية لا تحتمل الفكاك.
سنجد في قصيدة "بطاقة الى الأسطى سيّد" لسميح القاسم نموذجاً مختصراً وكافياً لما نقصده:
يا أسطى سيّدْ!إبنِ وشيّدْشيدْ لي السد العاليشيدْ لكْأطفىءْ ظمأ الغيظِ الغاليوامنحْناوامنحْ أهلككوباً من ماءْوخضاراً وزهوراً وضياءْيا أسطى سيدْأزُفَ الموعدْوالقريةُ في الصحراء العطشى تحلمْوالبذرةُ في الثلم الصابرِ تحلمْفادفنْ أشلاءَ القمقمْفي أشلاءِ الصخرِ المتحطمْوابنِ وشيدْيا أسطى سيدْباسمِ ضحايا الأهرامِ وباسمِ الأطفالْإبنِ السد العالي!يا صانعَ حلمِ الأجيال!
إن الاختلاط شديد الوعي، في مهمة الأسطى سيد، حيث لا يعرف القارئ لمن يبني السد العالي، لضحايا الأهرام أم للأرض العطشى، أم للجيل العربي الأسير في فلسطين المحتلة، يذكرنا بشيء مماثل في قصيدة أخرى لسميح القاسم نفسه، عن صنعاء، غداة الثورة، حين يغني لصحرائه ولمستقبله.
الشيء ذاته نلحظه في شعر محمود درويش، فهوي يبدأ قصيدة طويلة له عن "الأوراس" كما يلي:
بيتي على الأوراس كان مباحاًيستصرخُ الدنيا مساءَ وصباحاًوترابُ أرضي من دمي معشوشبٌكي يشربَ الغرباءُ منه الراحاثم يقول في القصيدة ذاتها:فالوحشُ يقتلُ ثائراًوالأرضُ تُنبتُ ألفَ ثائرْيا كبرياءَ الجرحِ! لو متنالحاربتِ المقابرْ!فملاحمُ الدمِ في ترابِكِما لها فينا أوخرْحتى يعودَ القمحُ للفلاحِيرقصُ في البيادرْويقول:أوراس! يا "أولمبنا" العربييا ربَّ المآثرْإنّا صنعنا الأنبياءَ على سفوحِكَوالمصائرْأوراسُ! يا خبزي ودينييا عبادةَ كلِّ ثائرْ
ويمضي محمود درويش في قصيدة أخرى اسمها "نشيد للرجال" الى تحديد أكثر لهذا البعد في موقفه:
سنخرجُ من معسكرناومنفاناسنخرجُ من مخابيناويشتمُنا أعادينا:"هلا! همجٌ هُمُ، عربُ!"نعمْ!عربُولا نخجلْونعرفُ كيف نُمسك قبضةَ المنجلْوكيف يقاومُ الأعزلْونكتب أجمل الأشعار!
إنه من الجدير بالتسجيل أن سميح القاسم كان أول شاعر عربي يغني لثورة "الذئاب الحمر" في ردفان غداة تفجيرها، مدركاً بعدها العميق ومعناها:
حمت سراياك! فاشربْ من سرايانــــــاكأساً جرعت بها للذلَّ ألواناواشحذْ مداك على الجرح الذي عصفتْدماؤه بقلاعِ البغي نيرانـــــاأركانُ عرشِك آلينــــــــــا نقوضهــــــــــافاحشدْ فلولك حياتٍ وعقبانايا طامعاً بالذئاب الحمر، ما غنمـــــــــتأطماعُك السودُ، إلا بعض قتلانـــابلادُنا القدَرُ المحتــــــــــــومُ قاطنهــــــامذ كانت الشمسُ،مالانت ومالانايا عابد النار! ما زالت مؤرثـــــــــــــــــةعلى القنال . . فماذا تعبد الآنا؟
وفي ذلك الوقت كتب سميح القاسم قصيدة أخرى اسمها "عروس النيل" عن السد العالي كمظهر نضالي:
اسمعه . . اسمعه!عبر فيافي القحط في مجاهل الأدغاليهدرُ، يدوي، يستشيطفاستيقظوا يا أيها النيامْولنبتنِ السدودَ قبل دهمة الزلزالْتنبهوا . . بهذه الجدرانتنزل فينا من جديدٍ نكبةُ الطوفان
وفي وقت أبكر بكثير من التاريخ الذي كتب فيه سميح القاسم ومحمود درويش هذه القصائد، كان البعد العربي موجوداً بعمق في موقف المقاومة. نذكر هنا قصيدة قديمة [1958] لشاعر من الأرض المحتلة اسمه عصام عباسي:
هذي بساتيلُ العراقِ
تهدّها كتلُ الحشودِ
بغدادُ يا بلدَ الرشيدِ
أتيتُ بالفعلِ الرشيدِ
وينتقل الشاعر، في قصيدته نفسها، في جولة في البلاد العربية جميعها يقدم من خلالها موقفاً تقدمياً مسؤولاً، لا يخضع للافتعالات الرومانطيكية التي تؤدي غالباً الى الاحتيال على الذات.
ولجمال قعوار (7) قصيدة عن الجزائر اسمها "هذه الطريق" تتضمن ذلك الموقف المسؤول بوضوح، والواقع أن ثورة الجزائر فجرت نوعاً فريداً من الشعر في فلسطين المحتلة، وأوقدت حوافز جديرة بالتأمل.
فالشاعر حبيب قهوجي الذي غنّى قبل ذلك لثورة مصر ومعركة 1956 فاتحاً المجال أمام انعطاف جذري في شعر المقاومة قفز به نحو التصدي المباشر لموضوعاته الأساسية، يقول في قصيدة عن الجزائر:
دمُ الأحرارِ لم يذهبْ هبــــــــاءً
بمعتكر الدجى أمسى شهابا
تقدسُه شعوب الشرق طُـــــرّا
وتبذلُ دون حرمته الشبابا
ثم يقول:
فيا شعب العراقِ، إلامَ نــــومٌ
يحدُّ تمرد الطغيان نابا
فدونك في الجزائر كيف تمحى
جيوش البغي تعطينا ضرابا
إن هذا النداء المباشر للعراق، لتفجير الثورة التي انفجرت بالفعل فيما بعد، في 1958، قد حدا بالشاعر نفسه في وقت لاحق للمشاركة في إنشاء حركة "الأرض" التي لعبت دوراً أساسياً في المقاومة داخل فلسطين المحتلة.
في تلك المرحلة بالذات التي امتدت من ثورة مصر في 1952 الى عام 1960، كان الشعر الغالب في الأرض المحتلة هو الشعر الملتزم بالصيغة الكلاسيكية من حيث الشكل، وبما يشبه الخطابية من حيث النبرة، منسجماً في ذلك مع الزلزال الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي كان يجتاح المنطقة العربية، في الوقت نفسه الذي كان ينسجم فيه مع مرحلة أولية من مراحل تطوره ونشوئه.
في تلك الفترة بالذات غنى شعراء عرب عديدون ثورة الجزائر، فبالإضافة للشعراء الذين ذكرناهم توجد قصائد طويلة لراشد حسين وأبي أياس، ومحمود دسوقي وجمال قعوار وحنا أبو حنا، وابن الرامة، وعصام عباس، وفوزي الأسمر، وغيرهم (8)، ولكن مما لا ريب فيه أن محمود دسوقي قد دخل الى تفاصيل التفاصيل، بكل شيء يتعلق بالعرب، أكثر من سواه.
طابع تلك المرحلة يلخصه راشد حسين في قصيدته:
سنُفهمُ الصخر إنْ لم يفهمِ البشرُأن الشعوب إذا هبّتْ ستنتصرُدمُ الجزائر صدرُ الفجرِ كعبتُـــــــــهونارُه فوق صدر البغي تستعرُويقول حنا أبو حنا في قصيدة طويلة اسمها "رسالة من مناضل جزائري الى ولده":ولدي! لأجلك قد حملتُ سلاحيولأجلِ رغدك ثورتي وكفاحيورأيتُ شعبي سيلَ نارٍ دافــــــقٍمتوثبٍ في موكب الأرياحوإذا اللهيب، بريقُ عينك ساطعــاًوعيونُ شعبي الثائر الطمّاحفلأجل تحرير الجزائر ثورتـــــــــــيولأجل رغدك وثبتي وكفاحي
ولكن، كما رأينا، فإن الصياغة الفنية، التي جاءت في هذه المرحلة على هذه الصورة الخطابية لم تكن على حساب المضمون، ولقد استطاعت تجارب شعراء المقاومة، من خلال الممارسة، أن تطور الشكل الى الصيغة المعاصرة الحديثة، وفي هذا النطاق جرى التطوران: الشكل والمضمون، في اتساق وانسجام ولم ينحر أحدهما الآخر، فيما ظلت جذور الالتزام والمعاداة في أصلها هي الرابط الجوهري في هذا التطور.
وعلى هذا الأساس، تلقى الشاعر مثل توفيق زياد كارثة الخامس من حزيران 1967 مرة أخرى على هذا الصعيد، بثبات:
ثم . . ماذا بعدُ؟ لا أدري، ولكنْكلُّ ما أدريه أن الأرضَ حبلى والسنون . .ثم يقول:فارفعوا أيديكمُ عن شعبنالا تُطعموا النار حطبْكيف تحيون على ظهر سفينةْوتعادون محيطاً من لهب؟وينتهي الى القول:كبوةٌ هذيوكم يحدثُ أن يكبو الهمامْإنها للخلف كانتْخطوةٌمن أجل عشرٍ للامام!
وفي الحقيقة، فإن البعد العربي في الأدب الفلسطيني كان دائماً ظاهرة أساسية، وليس ارتباط أدب المقاومة الفلسطيني الراهن بهذا البعد، وتعميقه ووعيه، إلا استمراراً لتلك الظاهرة تاريخياً، ولكن هذه الملاحظة هي عنوان لموضوع آخر.
لقد رأينا، باختصار، أولاً كيف يرتبط أدب المقاومة في فلسطين المحتلة الى بعد اجتماعي ويطرح ولاءه للطبقة الكادحة التي على أكتافها تعلق لمقاومة بنادقها ومصيرها (9).
ورأينا، ثانياً، كيف يحافظ أدب المقاومة على هذا الارتباط الاجتماعي التقدمي في ممارسته لبعد آخر من أبعاده وهو بعد الالتزام بالثورات التحررية في العالم.
ورأينا، ثالثاً، كيف يرتبط أدب المقاومة ببعده العربي ارتباطاً عضوياً راسخاً، دون أن يفقد وضوح نظرته الاجتماعية في هذا الارتباط، ومع إدراك عميق لمعناه وضرورته وأصالته.
ورأينا أن هذه الارتباطات تحدث ضمن إطار من الالتزام بقدسية الكلمة والايمان الذي لا يتزعزع بدورها وقيمتها والتمسك بمسؤولياتها كسلاح أساسي في حركة المقاومة التي تشمل معنى أوسع بكثير من مجرد المقاومة المسلحة.
ولكننا قلنا أيضاً أن هذه الارتباطات الثلاثة، في إطارها من الالتزام الفني المسؤول، تظل تدور حول محور أساسي هو التصدي الشجاع للمعركة المباشرة، اليومية والقاسية والباهظة الثمن، مع العدو المحتل الذي يجثم بثقل مباشر على صدر الوجود العربي، في فلسطين المحتلة.
فكيف يعبر أدب المقاومة عن هذه المسؤولية المباشرة، وكيف يخوض معركتها، دون أن يفقد ارتباطاته الاجتماعية والعربية والدولية؟
إن أدب المقاومة في هذا النطاق، غزير الانتاج، وإذا كانت الظروف التي يعرفها الجميع تحول دون تعقب دقيق لحركة الانتاج هذه على جميع المستويات، فإن ما يتوفر بين أيدينا الآن يكفي كنموذج.
لقد رأينا كيف تصدى توفيق فياض في مسرحيته "بيت الجنون" من خلال صيغة فنية متقدمة الى المهمة المباشرة للمقاومة، حين تخلص من تشوشه في لحظة مواجهة ناصعة الوضوح، قرر فيها، مباشرة وبحسم، أنه لن ينسى، وأنه يرفض الاقتحام المعادي، وأنه سيقاتل وحده.
سنرى محمود درويش في لحظة مواجهة مماثلة، تشكل نوعاً فذاً من الصحو الدائم، حين يقول، رافضاً التنصل مهما كانت براعة الصياغة:
ذليلٌ أنت كالأسفلتذليلٌ أنتيا من يحتمي بستارة الضجر!وثمة لحظة مماثلة، عند سميح القاسم:. . وأخافُ، أخافُ من الغدرمن سكينٍ يُغمدُ في ظهريلكني . . يا أغلى صاحبْرغم الشك، ورغم الأحزانْأسمع اسمع وقع خطى الفجرِ
عبر هذا الصحو، الذي يعي تماماً جوهر المواجهة، وقف شعر المقاومة العربي في فلسطين المحتلة مؤرخاً ليوميات المقاومة الجماهيرية، جاعلاً من انتكاساتها وعذابها وقوداً لتجديد توق ملتهب.
في قصة قصيرة لفوزي الأسمر، اسمها "رمال ودموع" يروي هذا الكاتب الشاب ال1ي ولد وعاش في بلدة "اللد" قصة عربي حاول قتل سائق تراكتور إسرائيلي، والمعضلة النسبة للمحكمة هي أن السائق الإسرائيلي لا يعرف ذلك العربي، ولم يسبق له أن قابله ولا يعرف سبباً للمحاولة.
بالنسبة للعربي فإن المسألة لها تفسير ومبرر، فقد شهد عن بعد ذلك السائق يربط جذع شجرة زيتون كان يملكها، وترمز بالنسبة له الى تاريخ عائلته، محاولاً انتزاعها من أرضها، وحين اندفع نحوه ليقتله كان في الواقع يرمي الى الدفاع عن عرضه وشرفه.
وتنتهي القصة نهاية مفاجئة حين ترفع المحكمة جلستها لتدارس الحكم الذي ستصدره على العربي.
وهذه "النهاية – الإشكال"، هي موقف واضح ومن نوع حاسم، فحكم المحكمة لا يهم على الإطلاق، وأساس القضية موجود ومحلول – في القصة نفسها، والنهاية هي أبعد ما تكون عن علامة الاستفهام التي يخيل للقارئ أنها موجودة في السطر الأخير منها.
لا توجد علامة استفهام في هذا الصدد، وإن كانت القصائد والقصص والمسرحيات التي أنتجها أدباء المقاومة تحفل بها من حيث الشكل، إلا أنها لا تعني إلا نوعاً من "الاستفهام الذاتي"، إذا جاز التعبير، غايته الأساسية التأكيد بأنه يوجد جواب واحد فقط.
لقد رأينا نموذجاً لهذا "الاستفهام الإثباتي" في النماذج التي قرأناها من مسرحية توفيق فياض "بيت الجنون" وهو استفهام – كما قلنا – لا يقصد الى التساؤل بقدر ما يقصد الى إثبات أنه لا يوجد أي طريق آخر.
وهو استفهام من نوع:
ثم ماذا بعد؟ لا أدري ! ولكن
كل ما أدريه أن الأرض حبلى . . والسنون
كما يقول توفيق زياد في قصيدته "كلمات عن العدوان" التي كتبها في أعقاب حرب حزيران 1967.
وهو تساؤل من ذلك النوع الذي ضمنه حبيب قهوجي في رثاء كتبه عام 1957، لشهداء كفرقاسم:
جنكيزخان تثاءبت أيامُه؟
أم جندُ هتلر للدمار ضواري؟
وتتكرر الصيغة نفسها، في قصيدة أخرى، لراشد حسين في ذلك الوقت، يرثي فيها شهداء قرية صندلة:
مرج ابن عامر، هل لديك سنابلُأم فيك من زرع الحروب قنابلُ؟أم حينما عزَّ النباتُ صنعتَ منلحم الطفولة غلةً تتمايلُ؟ويطوّر محمود درويش هذه الصيغة الى درجة حاسمة:يا وجه جدي!يا نبياً ما ابتسمْمن أيِّ قبرٍ جئتنيولبستَ قمبازاً بلون دمٍ عتيقفوق صخرةْوعباءةً في لون حفرةْ؟يا وجه جدي!يا نبياً ما ابتسمْمن أي قبرٍ جئتنيلتحيلني تمثال سمّ؟الدين أكبر!لم أبعْ شبراً، ولم أخضعْ لضيْملكنهم رقصوا وغنّوا فوق قبركفلتنمْ!صاح أنا، صاح أنا، صاح أناحتى العدم . .
ولكن بعيداً عن هذه المسألة الجزئية التي توقفنا عندها بسبب تكرارها وترددها في شعر المقاومة، فإننا نلاحظ ظاهرة هامة عامة، وهي توفر درجة متقدمة من التحدي الواعي، القادر على تحويل العذاب الى حافز ثوري.
لقد لاحظنا ذلك بوضوح في القصائد التي كتبها شعراء المقاومة في فلسطين المحتلة في أعقاب العدوان الأخير، ولكن هذه الظاهرة في الحقيقة تأخذ طابع القاعدة، سواء في مواجهة العذاب الشخصي، أم الجماعي، نهاية بالمستوى القومي.
فمن السجن كتب محمود درويش أروع قصائده وأكثرها توهجاً بالأمل والإصرار والتحدي، وهي قصيدة تذكرنا برسالة حنا أبو حنا التي بعث بها حين كان سجيناً في الرملة عام 1958، يقول محمود درويش:
من آخر السجن طارت كفُّ أشعاريتشدُّ ايديكمُ ريحاً على نار. .أقولُ للمحكم الأصفاد حول يـــــدي:"هذي أساورُ أشعاري وإصراري!"في حجم مجدكمُ نعلي، وقيدُ يديفي طول عمركمُ المجدول بالعار.في اليوم أكبر عاماً في هوى وطنيفعانقوني عناق الريح للنار!يقول ذلك لأنه يؤمن أن:المغني على صليب الألمجرحُه ساطعٌ كنجمقال للناس حوله:كلُّ شيءٍ، سوى الندم . .هكذا متّ واقفاًواقفاً متّ كالشجر!ولسميح القاسم قصيدة اسمها "رسالة من المعتقل":أماهُ ! كم يؤلمُني !أنك تجهشين بالبكاءإذا أتى يسألكم عني أصدقاء . .لكنني أومن يا أماهْأومنأن روعة الحياةتولدُ في معتقليأومن أن زائري الأخيرَ لن يكونخفاشَ ليلمُدلجاً، بلا عيونلا بد أن يزورني النهار . .
وللقاسم قصيدة طويلة من أربعة أناشيد عنوانها الرئيسي "من وراء القضبان". وقد حالت الظروف دون معرفة النشيدين الأوسطين في هذه القصيدة اللذين صودرا ومنعا بالقوة، ولكن المناخ العام للنشيد الأول والأخير يثبتان ما ذهبنا اليه.
هذا على صعيد شخصي . . أما على صعيد جماعي فقد غنى شعراء الأرض المحتلة الأحداث اليومية التي مر بها شعبهم الأسير، وقد رأينا قبل قليل كيف سجل حبيب قهوجي وراشد حسين مجزرتي كفرقاسم وصندلة، ورأينا أمثلة أخرى في قصص زكي سليم درويش، وعطاالله منصور، وفوزي الأسمر وسجل الشعر الشعبي بدوره أحداثاً يومية (10) وتصدى للعملاء في نوع من التشهير الذي كبلهم وشل نشاطهم فعلاً، وكذلك في حالات رثاء وتشجيع (11). وقد تابع محمود درويش قضية النازحين بصوروة فريدة، ونظم سميح القاسم عدة قصائد عن مجزرة كفرقاسم، واحدة منها لا نعرف إلا مطلعها، وحال الحكم العسكري الإسرائيلي المفروض على العرب دون وصول آخرها، أما قصيدته الثانية، عن كفرقاسم، التي ألقاها في تجمع شعبي ذهب الى القرية المنكوبة للعزاء في الذكرى العاشرة وحال الجنود الإسرائيليون دون وصولهم الى القرية، فقد أدت الى تظاهرة شعبية عنيفة.
وبالنسبة لمجزرة كفرقاسم فقد شكلت نقطة انعطاف اساسية في الموقف المقاوم لشعراء الأرض المحتلة العرب، إذ من النادر ألا يأتي ذكر كفرقاسم كشهادة دائمة على المقاومة.
لمحمود درويش، كما رأينا، أناشيد كاملة في ديوانه الأخير "آخر الليل" عن كفرقاسم باسم "أزهار الدم" يخاطب فيها الشهداء الخمسين الذين جزروا في تلك القرية عشية العدوان الثلاثي على مصر، وفيها يتحول الشهداء الخمسون الى أوتار تعزف صمود الشاعر:
لمغنيك على الزيتون، خمسون وترْومغنيك أسيراً كان للريحوعبداً للمطرْ. .ومغنيك الذي تاب عن النومتسلّى بالسهرْسيسمي طلعةالورد، كما شئت: شرر!سيسمي غابة الزيتون في عينيك:ميلاد سحر!وسيبكي، هكذا اعتاد،إذا مرَّ نسيمٌ فوق خمسين وترْآه ! يا خمسين لحناً دموياًكيف صارت بركةُ الدم نجوماً وشجرْ؟الذي مات هو القاتلُ، يا قيثارتيومغنيك انتصرْ
ثم يقول:
كفرقاسم!إنني عدتُ من الموت لأحيا، لأغنيفدعيني استعر صوتي من جرحٍ توهّجْوأعينيني على الحقد الذي يزرعُ في قلبي عوْسجْإنني مندوبُ جرح لا يساومْعلمتني ضربةُ الجلادأن أمشي على جرحيوأمشي، ثم أمشي، وأقاوم!
ومثلما عاد محمود درويش في قصيدته هذه الى "كفرقاسم" بعد عشر سنوات من المجزرة، يعود سميح القاسم – بعد عشر سنوات أيضاً – الى المكان ذاته في ديوانه "دمي على كفي":
. . . وزهيرات من البرقوق في صدر امرأةْوعيون مطفأةْوعويل غارق في رهبة المأساة عائمْوأنا ريشةُ نسْرٍفي مهبِّ الحزن والغيظ:إله لا يساوم!* * *يوم قالوا: سقطوا قتلى وجرحىما بكيتْ!قلتُ: فوجٌ آخر يمضيومن بيتٍ لبيتْرحتُ أروي نبأ الغلة في العام الجديدْومن المذياع أنباءٌ عن العام المجيدْ:"مصرُ بركانٌ، وكلُّ الشعب يحمي بور سعيدْأيها الأخوة، والنصرُ أكيدْ . . "يوم قالوا: سقطوا قتلى وجرحىسحتُ، والأدمعُ في عيني: مرحىألفُ مرحى!يوم قالوا، ما بكيتْومضتْ بضعةُ أيامٍ على عيد الضحاياوأتيتْ . .وتلقّاني بنوك البسطاءْوتلونا الفاتحةْوعلى أعين أطفالِكِيا أم العيون الجارحةْيبسَ النهر وماتتْ في أغاني الحمائموأنا، يا كفرقاسمْأنا لا أنشدُ للموت، ولكنْ:ليدٍ ظلتْ تقاومْ!ولحنا أبو حنا قصيدة طويلة عن كفرقاسم أيضاً،قالها بعد عامين من المجزرة، أبرز مقاطعها:كيف العزاءُ؟ وكيف يسلو الويل شعبٌ ثاكل؟عصفت بروحته الخطوبُ وصارعته نوازلما زال يحملُ جرحه في صدره . . ويطاولوتسيرُ في درب الدماء، على خطاه، غوائل. . إن السبيل الى العزاء تكاتفٌ وتكافلونداء أرواح الضحايا: فليهبَّ الغافل!
* * *
ولهؤلاء الشعراء، الدرويش والقاسم وأبو حنا، قصائد عن الحكم العسكري كقضية يومية يعاني عرب الأرض المحتلة منها، وعن الجواسيس الذين يندسون في التجمعات العربية، وعن سلب الأراضي من الفلاحين العرب، والى آخر ما هنالك من قضايا يومية.
ولسميح القاسم بالذات قصيدة لافتة للنظر: "كرمئيل"، وهو اسم المدينة التي ابتناها الاسرائيليون في الجليل، فوق أراض سلبوها من عرب قرى "دير الأسد" و "البعنة" و "نحف"، ضمن خطتهم لتهويد الجليل . . وقد أطلق القاسم على هذه المدينة اسم "مدينة الحقد والجوع والجماجم":
صباحَ مساءْيطالعُنا وجهُها والسماءْونبسمُ، لا بسمة الأغبياءْولكنها بسمةُ الأنبياءْتحداهمُ صالبٌ تافهٌيغطي الشموس ببعض رداء . .* * *غداً يا قصوراً رستْ في القبورغداً يا ملاهيغداً يا شقاءْسيذكرُ هذا الترابُ سيذكرأنّا منحناهُ لون الدماءْوتذكرُ هذي الصخورُ رعاةًبنوها بأدعيةٍ من حداءونذكرُ أنّا . .* * *هنا سفرُ تكوينهم ينتهيهنا، سفرُ تكويننا، في ابتداءْ!
إن الأمثلة في هذا النطاق أكثر من أن تحصى، وتتوفر منها لدينا كمية هائلة باتت تدعو بإلحاح الى إصدارها في ديوان يضم شعر المقاومة، الظاهرة الأكثر توهجاً ومعنى في حياتنا الثقافية الراهنة.
لقد كان شعر المقاومة، وأدبها على العموم، متفائلاً منذ البدء، ولم يكن هذا التفاؤل ضرباً في الفراغ، أو وهماً مقامراً، وإلا لتصدع خلال عشرين سنة من الأسر والعذاب. ولكنه كان نتاجاً معافى وشديد المراس لإدراك عميق لأبعاد المعركة وانتساباً أصيلاً لجماهيرها الحقيقية وقضاياها، هدف المقاومة وأداتها في آن واحد.
لقد انطلق شعر المقاومة من أرض الالتزام ومن التزام الأرض، وكشف عن طريق الممارسة والمواجهة أعماقه وأبعاده، وحقق في هذا النطاق – برغم كل المصاعب التي لا تصدق – توهجاً فخوراً من حيث المضمون والشكل على السواء، يضعه بلا تردد في مقدمة الحركة الثقافية العربية الراهنة.
ولذلك فإن أدب المقاومة، وقد ربط نفسه الى أصوله وعرف آفاقه والتزم بارتباطاته الأصيلة، لم يعرض ظاهرة التخلي، ولا التنصل، ولا العتاب والعويل، كان يمارس إدراكه لدوره ومسؤولياته، ولا يحجب نفسه عنها وراء "ستارة الضجر" أو المزايدة الرخيصة أو المزاح الذي تزلزله أصغر ريح، فهو لم يكن رفاهاً، ولكنه كان دائماً "التزاماً" بالسلاح والجمال والمثل، معاً.
وهذا وحده الذي يجعل شاعراً مثل محمود درويش، وحده تقريباً في قارتنا العربية الشاسعة، يتلقى كارثة الخامس من حزيران (يونيو) 1967 بثبات وصمود ويجعلها حافزاً:
وطني!يعلمني حديدُ سلاسليعنف النسورورقة المتفائل . .ما كنتُ أعرفُ أن تحت جلودناميلاد عاصفةٍوعرش جداولِ!سدّوا عليّ النور في زنزانةٍفتوهجتْ في القلبِشمسُ مشاعلكتبوا على الجدران رقم بطاقتيفنما على الجدرانمرجُ سنابلوحفرتُ بالاسنان رسمك دامياوكتبتُ أغنية الظلام الراحلأغمدتُ في لحم الظلام هزيمتيوغرزتُ في شعر الضياء أنامليوالفاتحون على سطوح منازليلم يفتحوا إلا وعود زلازليلن يبصروا إلا توهج جبهتيلن يسمعوا إلا صرير سلاسليفإذا احترقتُ على صليب عبادتيأصبحتُ قديساًبزي مقاتل!