السبت ١٥ تموز (يوليو) ٢٠٠٦

الأسبوع الأخير لهالة كوثراني..

رواية ما بعد الحرب وما بعد المدينة

في <الاسبوع الأخير> الرواية الأولى لهالة كوثراني تبدأ الراوية قصتها بحلم وتختمها بحلم. كأن بيروت مكان الرواية لا تتسع سوى للأحلام. كأن الحياة الحقيقية هي هناك وليس هنا.

ولكن ما هو هناك؟ ما هو ذلك المكان الذي ستسافر اليه الراوية هل هو الخليج بالفعل؟ أم مكان آخر تحاول رسم معالمه ولا تفلح سوى بالحلم؟ تعيش الراوية في بيروت وتحلم بمكان آخر. هكذا تصفّي الراوية علاقتها بالمدينة، كذلك بأصدقائها ورجالها. لا يعرف القارئ الكثير عن هؤلاء الرجال، فما هم سوى حجة تستعملها الروائية لوصف علاقة مبتورة للراوية بالمدينة، وذلك عبر علاقات غائمة، مشوشة، وغير مكتملة تحكي عنها الراوية في أسبوعها الأخير في بيروت. من كمال الرجل الناضج الذي يمثل الى حد ما ذاكرة المدينة الى عامر، وسيم، وليد، ويوسف. شخصيات تمر بسرعة ولا نعرف عنها الكثير سوى ليلى، تلك الشخصية المؤثرة والتي بشكل أو بآخر رافقت الراوية منذ بداية النص وحتى آخره. قد تكون ليلى، احدى شخصيات الرواية، هي الوجه الآخر للراوية. شخصية تحمل تناقضات المدينة وخيباتها وكلامها الذي لم يقل.

لا أبالغ إن قلت ان عمل كوثراني هو نص لا يخضع لمرجعية روائية. وهو ليس عن ذاكرة الحرب بل عمّا بعد الحرب. الا ان الكاتبة لا تهدف في عملها هذا الى تقديم ماذا هناك من بيروت ما بعد الحرب. رغم ذلك نجحت في تقديم رؤية عميقة لمدينة غير مكتملة. كأن لا معنى للمدينة بعد، كأن المدينة اخترعت معنى لها بفعل الحرب وفقدت ذلك المعنى الآن في زمن السلم وأتى النص بمثابة احتجاج على مدينة لا هوية لها ولا أبعاد.
معنى آخر للحرية

تقوم الراوية بتصفية حساباتها مع بيروت ومع العلاقات والجسد والحب والصداقات، وذلك أسبوع واحد قبل سفرها الى دبي للعمل. انه أسبوع تصفية الحسابات حيث الكتابة تحل محل الحياة برمتها. حيث لا أمل سوى في الهجرة أو الكتابة. تريد الراوية أن تهاجر حيث العمل والمال وحيث الحياة الحقيقية لمدن بنيت على الرمل. تكتب بانتظار تلك الهجرة. الهجرة والكتابة صنوان لحرية تبحث عنها الراوية. حرية الجسد، حرية اللاخوف، حرية الحركة، حرية أن تُرفض من العالم الخارجي وأن لا تهاب هذا الرفض. حرية أن تجد من يحبها وأن تجد من يكرهها. انها حرية اللاخوف. تقول الراوية:

<لأنه لن يكون حقيقيا في حياتي سيكون جزءا من نصي>. تحل الكتابة مكان الحياة الحقيقية في مدينة لا تحتاج الى كثير من الأقنعة كي تكون غريبة عن ساكنيها وعمّن يكتب فيها. الغربة والكتابة توأمان.

تلك المرأة الراوية التي تجاوزت الثالثة والثلاثين تتأرجح همومها بين صورة المرأة التي تحلم أن تكون أماً وزوجة وأن تبني عائلة، وبين أن تعيش حلماً آخر لحرية ترغب فيها بقوة عبرت عنها كلما تسنى لها في النص. تقول: <أدخلت صورة طفل يشبهني إلي، طفل غير حر. كان لا بد في تلك اللحظة من أن أبدأ بالكتابة بدلا من أن أعيد كتابة السيناريو نفسه: أحمل ثم ألد ثم أموت. أفلا يشبه هذا السيناريو كل السيناريوهات>. لا تريد راوية كوثراني حياة مكررة مبتسرة، بل تريد حياة متجددة وما غير الكتابة وسيلة لذلك. إنها نموذج جديد لشابة تعيد خلط أوراق العلاقات والتقاليد والنظرة السائدة حول عمر المرأة والزواج والعائلة. هذا لا يعني أنها تسعى الى ثورة على السائد كما رأينا في أنا أحيا، بل يبدو أن هم الراوية هنا، التي بالقياس الى عمرها حفيدة أو ابنة لراوية أنا أحيا، هو سبر غور علاقتها بالمكان وبالناس كأفراد سمتهم الغالبة وحدتهم في مدينة لا تنام تقريبا. خلافا لرواية أنا أحيا لا يهم الكاتبة ما يفكر به أو يقوله الأب، ذلك انه تقريبا غير موجود في الحاضر. انه رمز لسلطة ما عاد لها وجود سوى في تذكر مرير لتاريخ بائد لا تعرفه الراوية ولا يعني لها شيئا. الأب ينتمي الى ماضٍ لم يفلح الخروج من إطاره فأصبح يشبه صور المدينة القديمة. تلك الصور التي صارت الى حد ما صلته الوحيدة بعالم ينهار أمام ناظريه ولا يفلح في التأثير به أو تغييره. أما الأم فتحاول الجمع بين تناقضات عدة، بين الماضي والحاضر، بين التقاليد والرغبات إلا أن نجاحها غدا رهن رغبات الابنة وحساباتها الفردية. بهذا المعنى أيضا لا تشبه حرية راوية كوثراني أي حرية قدمتها كاتبات الأجيال التي سبقت، ذلك أن حرية الراوية هنا ليس الخروج عن إرادة الأب أو المجتمع أو القيم بل البحث عن أجوبة لأسئلة تنهش الرأس ولا تجد لها جوابا. انها حرية وجودية للكائن الفرد.

حرية ما عادت رغبة في الخروج من بيت يشبه سجناً، بل رغبة في العودة إليه، ذلك المكان المنهار، أو البحث عنه واختيار غرفة النوم مكاناً ضيقاً للعزلة وللكتابة، ومصادقة التلفزيون ذلك الرفيق الوحيد لحرية اختارتها الراوية.
تجربة المدينة
يقدم النص موضوعين أساسيين: الخروج من المدينة وقرار الكتابة. هما مرتبطان لأن أحدهما شرط الآخر.

تحاول كوثراني كتابة بيروت ما بعد الحرب. انها محاولة شجاعة لكتابة المكان. الكتابة تغدو بديلا عن المدينة. عند الرحيل تقول الراوية: <يجب أن أكتب كي تنجح خطتي في اختراع مكان لي. مكان أستطيع أن أقول إنه مكاني وانني أنتمي اليه>. ثم تقول في مكان آخر: <لم أجرب العيش في مدينة غير قلقة ومستسلمة لأصوات تذكرها دائما بأنها تعيش وضعاً استثنائياً. لم أعرف الطمأنينة....>.
اذا كانت الرواية اللبنانية الحديثة طغت عليها صفة رواية الحرب، فإن نص كوثراني يعد من حق رواية ما بعد الحرب. اذا كان من وصف لنص هالة فهو انه نص جيل ولد في الحرب وكبر مع غياب المدينة. نص يعكس ذاكرة خراب الروح وخراب المدينة. لكن ما لفتني في نص كوثراني انه لا يحمل غنائية نوستالجية، ولا هو منقطع عن ذاكرة المدينة في آن. بهذا المعنى قدمت كوثراني صورة جديدة للذاكرة بعيدة عن النوستالجيا، رغم أن معظم روايات العقد المنصرم قدمت النوستالجيا والذاكرة توأمين.

علاقة الراوية مع المدينة هي علاقة ضبابية. كأن الكره والحب اللذين تكنّهما للمدينة تخاف الذهاب بهما حتى النهاية. لكنها علاقة ارتطام وصراع في آن. تلعب الكتابة دوراً في توضيح تلك العلاقة وفي فكفكة تعقيداتها. تبحث الراوية عن منفذ يحررها من تلك العلاقة عبر الخروج من المدينة. إنها محاولة أولى لرسم الحدود بين الجسد وبين العالم القريب، بين السجن وبين الحرية. هذا الرسم يحمي الجسد من ارتطام يومي بالعلاقات والقيم والأمكنة والأحلام المرسومة سلفا، يحميه من الخواء.
هذا النص الجميل الذي يذكرنا برواية مرحبا أيها الحزن لفرانسواز ساغان، وببدايات غادة السمان في بعض جمله، يقدم المدينة كشخصية أخرى حاضرة وغائبة معاً. نص يرسم <بورتريه> موجعاً لجيل منقطع عن خارج المدينة. جيل لم يأت من مكان آخر ليحتل المدينة كما في روايات الأجيال التي سبقت. إلا انه جيل منقطع عن المدينة أيضا، ذلك أنه ورث الخسارة ولم يحتل شيئا آخر بالمقابل.

جيل المدينة المبتورة بامتياز، تلك المدينة التي ما عادت تشبه نفسها كما تصفها راوية كوثراني والتي <ازداد جمالها إلا أنها فقدت عافيتها>. جيل لا يبكي بيروت الماضي الا أنه في نفس الوقت لا يستطيع التخلص منها. جيل يفتش عن مدينة تتذكر شرط ان لا تمنعها الذاكرة من أن تحيا. جيل يصرخ أننا نعيش في مدينة تشبه جثة، نريد تركها كما يجدر بنا إلا أننا لم نحسن حتى الآن إنجاز البكاء عليها. جدلية العلاقة بين الماضي والحاضر، بين الرحيل والبقاء، بين الحرية والسجن، صفة تفرض نفسها في نص لا تصدق راويته رغم عالمها الغارق في يأسه ان <الانهيار لا يتبعه أمل، والظلم لا ينتهي والملل لا حل له>.

نقرأ في الرواية الكثير من الغضب المكابر والخفي. الغضب من المكان ومن الأهل ومن العلاقات ومن الحب كذلك من تلك الحياة المبهرجة الزائفة التي أودت بحياة شابة، هي ليلى، اعتقد الجميع انها سعيدة وتحيا حتى الثمالة إلا ان الراوية ترفض البكاء وترك نفسها عارية أمام الحزن. تشبه المدينة مهرجا حزينا ولا مكان للبكاء فيها. تلك المدينة التي لم تبك حربها بل <تزينت لكنها اعتلت>. لم تبك المدينة تجربتها ولا أمواتها ولا حروبها، وأتى جيلها الحالي ربما ليتمثل بها حيث لا بكاء ولا دقيقة مصارحة واحدة. الراوية كالمدينة تكابر وترفض البكاء أو حتى الإفضاء. هي لا تكون نفسها إلا في الكتابة.

أحسب أيضا أن بيروت لا تكون نفسها إلا من خلال ما يرويه عنها الروائيات والروائيون.

رواية ما بعد الحرب وما بعد المدينة

حميدان يونس - عن السفير اللبنانية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى