الأربعاء ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بقلم الكبير الداديسي

الأستاذ ذلك الرسول الذي كاد يصير قتيلا....

إلى عهد قريب كان المعلم في بلادي رمزا للمهابة والوقار، ومصدر للعلم والأنوار،به يشيد المفكرون والعلماء و الصحابة و الأنبياء، فقيلت في المعلم أقوال مأثورة كثيرة، منها قول الرسول (صلعم)"إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النمل في جحرها وحتى الحوت في جوف البحر ليصلون على معلم الناس الخير"وشبه علي بن أبي طالب العالم بالنخلة دائما (تنتظر متى يسقط عليك منها شيء) ومنهم من وضع المعلم في مكانة الأنبياء والرسل، وألبسوه من الصفات ما لم يوصف به غيره، فرأى فيه البعض طبيب المجتمع، الواقي من الأدواء والشرور، يبني العقول التي بدونها لا مستقبل للإنسانية لما له من قدرة على تحويل الظلام إلى نور، وتنوير العقول، له دائما أكثر مما يقول، وقد أفاض الفكر النهضوي في العالم العربي في الحديث عن أهمية العلم ووظيفة المعلم في إصلاح أحوال البلاد والعباد، باعتبارهم العلم الوسيلة الوحيدة لإخراج الأوطان من التخلف، وإنقاذ البلاد مرهون بدور المعلمين وأهل العلم يقول الشاعر المغربي محمد السليماني:

بني العلم الرعاة ألا أفيقوا
فإن الشاة في وسط الذئاب

ولسنا هنا بصدد مناقشة أهمية العلم ووظيفة المعلم في الحياة وإنما همنا رصد هذا التحول في النظر للمعلم وكيف استحالت صورة المعلم صورة مضببة وباهتة.

لعل من خير ما قيل في المعلم شعرا ما نظمه أمير الشعراء أحمد شوقي (توفي أحمد شوقي في 1932م) عندما قال:

قم للمعلم وفّـــــه الــــتـــبجـــيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي
يُبـــني ويُنشـــئ أنفسا وعقولا
الجهل لا تحيا عليه جماعة
كيف الحياة على يدي"عزريلا"
وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة
جاءت على يده البصائر حولا
وإذا أصيب القوم في أخلا
قهم فأقـم عليهم مأتـمـا وعويلا
ناشدتكم تلك الدماء زكيّة
لا تبـعثوا للبــرلمان جــهــولا

فجعل من المعلم أشرف وأجل البشر وسما به إلى درجة الرسل (كاد أن يكون رسولا) لذلك فهو يستحق التقدير والتبجيل..وذلك ما أكده الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة، الذي انبرى للدفاع عن المعلم في وجه من يحتقر مهنته معتبرا المعلم المسؤول على خلق وشحذ الطاقات التي تحتاجها البلاد يقول:

أرى جلّ أصحابي ازدروا بوظيفتي
وقـــالوا: هــمــوم كــلها ووجائع
وقد زعموا عمري مع النشء ضائعا
وتالله، ما عمري مع النشء ضائع
سيروون عني العلم والشعر بُرهة
وتطلع للإسلام منهم طلائع
فمنهم خطيب حاضر الفكر مصقع
ومنهم أديب طائر الصّيت شائع
ومنــهم ولــوع بالقــوافي لفكره
بــدائه في ترصــيفها وبــدائع
ومنهم زعيم للجزائر قائد
لــه في مجــالات الجهاد وقـــائع.

وإذا كان المعلم قادرا على فعل كل ذلك فإنه يفعله بإخلاص وتفان في العمل، لأنه على استعداد لأن يحترق من أجل إسعاد الآخرين وإنارة طريقهم قال أحد الشعراء في المعلم داعيا له، وواصفا المعلم بأحسن النعوت وأفضل الشمائل:

يا شمعة في زوايا"الصف"تأتلق
تنير درب المعالي وهي تحترق
لا أطفأ الله نوراً أنت مصدره
يا صادق الفجر أنت الصبح والفلق
أيا معلّم يا رمز الوفا سلمت
يمين أهل الوفا يا خير من صدقوا
لا فضّ فوك فمنه الدر منتثر
ولا حرمت، فــمــنك الخـــير مندفق
ولا ذللت لغرور ولا حليف
ولامست رأسك الجوزاء والأفق
يد تخط على القرطاس نهج هدى
بها تشرفت الأقلام والورق
تسيل بالفضة البيضا أناملها
ما أنضر اللوحة السوداء بها ورق

بل أكثر من ذلك وجدنا من الشعراء من يعتبر المعلم أصل كل فضيلة في المجتمع كما تجلى في قول عبد الفتاح غازي في قصيدة"أنت المعلم"من ديوان"شمس لا تغيب"

فاعلم أنك أصل كل وجودها
هو فيض علمك شاع في الأكوان
أنت المعلم أصل كل فضيلة
أنت الإمام سبقت بالإحسان

وقال في قصيدة أخرى يخاطب ابنته ومن خلالها كل الأطفال والشبان بضرورة الإحسان للمعلم لما له من أفضال على النشء يقول في قصيدة (لا يا بنتي)

ولتحسني صنعا أيا ابنتي
لمعلم في رقة وجنان
يعطيك أعظم سلم للمرتقي
بالعلم ترقى همة الإنسان
لا تجحدي لمعلم أفضاله
فالشمس لا تخفى بالغربال

كثيرة إذن هي القصائد التي خلدت فضل المعلم، وتغنت برسالته، ومنها قول محمد الدومي الذي عدد بعض تلك الفضائل في قوله:

تبني العقولَ بإصرارٍ وتضحيـــةٍ
فتستنيرُ على أفكارِها النُّسُـمُ
يا أيّها العَلمُ المعطاءُ، أمتُنـا
من دونِ رشدِكَ في غيٍّ فتنهدمُ
للهِ درُّكَ كم علمٍ تعلمُـــهُ
حتى تعافى على أنغامِهِ الفَهِــمُ
فأنتَ فضلٌ لأقوامٍ لهمْ أمــــلٌ
في الفكرِ تعلو وفي الآدابِ تُحتـَـرَمُ
وأنت تسمو إذا الدنيا بهم عصفـتْ
رغمَ القيودِ وهولَ الخطبِ تقتحـمُ
فتستنيرُ دجى الدنيا ومعقلُهـا
بالعلمِ دوماً فيصفو العيشُ والدسمُ

هكذا رأى معظم الشعراء المعلم: الإنسان الباني، المنير المستنير، الهادي، بل المنقذ إذا ما عصفت الأهوال بالناس والأمم استمع لشاعر يخاطب معلما:

فأنتَ فضلٌ لأقوامٍ لهمْ أمــــــلٌ
ي الفكرِ تعلو وفي الآدابِ تُحتـَـــرَمُ
وأنت تسمو إذا الدنيا بهم عصفــــتْ
رغمَ القيودِ وهولَ الخطبِ تقتحــــمُ
فتستنـــيرُ دجى الدنيا ومعقلُهـَـــــا
بالعلمِ دوماً فيصفو العيشُ والدســمُ

ومن الشعراء من نظم شعرا ليعترف بتأثير المعلم على حياته وكيف كان المعلم سبب كل ما حققه من نجاحات.

لــولا المعلم ما قرأت كتابـــاً
يوما ولا كتب الحروف يراعي
فبفضله جزت الفضاء محلقا
وبعلمه شق الظلام شعاعي

ولأن معلما هذه صفاته وفضائله، فإنه حظي بمكانة هامة عند الشعراء، فدعوا إلى تحيته والوقوف تقديرا له لأنه باني الحياة، وسيد الدنيا، قال شاعر:

حيُّوا المعلمَ ما دامتْ عزائمُــــــــهُ
تبني الحياةَ وفيها المجدُ يُغتنَـــمُ

هو المنارُ إلى الدنيا وسيِّدُهـــــا ورائدُ الركبِ في التعليمِ والعَلـــمُ

لكن، مقابل ذلك الزخم الهائل من الأشعار والأقوال المأثورة في فضل المعلم، يلاحظ أن مادية العصر،وتخلي المعلم عن رسالته النبيلة، وجريه وراء الماديات في عصر يعاني أزمة قيم كل ذلك وغيره جعل عامة الناس، وخاصتهم، ومنهم الشعراء طبعا، يغيرون من نظرتهم للمعلم، فغدا محط سخرية و تهكم، ينظرون إلى كل الفاعلين في التعليم باستصغار يصفون المهنة باحتقار، فبعدما كان الأطفال المتعلمين بتطلعهم رمزا للبراءة، أضحى عدد من الشعراء يرون فيهم موزا للبلادة فها هو شاعر يرى فيهم بهائم يستحيل تعليمها، والمعلم يقف عاجزا عن أداء مهمته يستجدي عطف الناس لأن تعليم البهائم فوق طاقته وهو مجرد بشر وليس رسولا يقول:

دَفَعُوا إليْه بهائِمًا وَعُجُولا
ليُقيمَ مِنها أنْفُسًا وَعُقُولا
يا قَوْمُ رفقًا بالمعــــلِّمِ إنَّهُ
مِنْ جِنْسِكُمْ بَشرٌ وَليْسَ رَسُولا

وذاك شاعر آخر يرى في التلميذ المتعلم حمارا لأنه لايستوعب ما يعلمه إياه المعلم فيخطئ في تطبيق القواعد اللغوية يقول:

فأرى"حمارا"بعد ذلك كله
رفع المضاف إليه و المفعولا

ولم تقتصر هذه النظرة على الشعراء بل تسللت إلى المعلمين أنفسهم، فأمسوا يحتقرون مهنتهم، ويعتبرونها مصدر مشاكلهم، وسبب تعاستهم تدفع بعضهم إلى الانتحار، وهذا المعلم والشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان (ولد في نابلس بفلسطين في 1905م و توفي في الثاني من ماي سنة 1941م). يعارض قصيدة أحمد شوقي، فلنستمع إليه كيف جعل من وظيفة التعليم أم المصائب منتقدا تعظيم شوقي لشأن لمعلم يقول:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي:

"قم للمــــعلم وفّه التبجيلا"
ويكاد يقلقني"الأمير"بقوله:
"كاد المعلم أن يكون رسولا"
لو جرّب التعليم شوقي ساعة
لقضى الحياة شقاوة وخمولا
حســــب المعـــلم غمة وكآبة
مرأى الدفــــاتر بكـــــرة وأصيلا
مئة على مئة إذا هي صلحت
وجد العمى نحو العيون سبيلا
ولو أنّ في التصليح نفعا يّرتجى
وأبــــيك لم أك بالعـــيون بخيلا
لكن أصلح غلطة نـــحوية
مثلا وأتخذ"الكتاب"دليلا
مستشهدا بالغر من آته
أو"بالحديث"مفصّلا تفصيلا
وأكاد أبعث"سيبويه"من البلى
وذويه من أهل القرون الأولى
فأرى"حمارا"بعد ذلك كله
رفع المضاف إليه والمفعولا
لا تعجبوا إن صِحت يوما صيحة
ووقعــت بيــن"البنوك"قــتيلا

وهي نظرة تعكس الإحباط الذي أصبح يعيشه المعلم، وكيف تحول بين عشية وضحاها من شبيه الرسل وباني الحياة و ضامن ومكرس القيم الكل مقتنع ويقسم أن لا قيم في المجتمع بدون معلم:

عهداً قطعنا على علمٍ بأنفسنِــا
لولا المعلمُ ما دامتْ لنا قيــمُ

إلى رمز التعاسة والمعذبين في الأرض ويكفيه غما أنه يقضي حياته في تصحيح ومطالعة دفاتر لا يستفيد منها شيئا:

حســــب المعـــلم غمة وكآبة
مرأى الدفــــاتر بكـــــرة وأصيلا

لكن رغم كل ذلك يكاد يتفق معظم الشعراء على أن في احتقار المعلم تهديدا صارخا وخطيرا لمستقبل المجتمعات العربية، مادام التطاول على المعلمين تمهيدا لسيادة الفساد والجهل ومن تم غياب الأمن وصفاء العيش كما يقول الشاعر:

ما كانَ إلا أباً للنشءِ محتضنـــاً
لِمَ التطاولُ والبهتانُ والتهــمُ
إنَّ المعلمَ إنْ حُطَّتْ مكانتـُــهُ
سادَ الفسادُ وكانَ الجهلُ والنقــمُ
وَعُكِّرَ الأمنُ في الدنيا وزخرفها
لا العيشُ يصفو ولا ساغتْ به اللقــمُ

وهذا شاعر آخر يستنكر احتقار المعلمين ورجال العلم فيرى أن لا خير يرجى من بلاد المعلم فيها محتقر، عند قوله:

من بات يبني صروح العلم يرفعها
يسومه الكل طعنا ثم يصطبر
قل للأساتيذ أنتم كنز أمتنا
بئس البلاد بها الأستاذ يحتقر

وأنه مهما قدم للمعلمين فلن يوفاهم حقهم، ولن تجزى مآثرهم:

معلمَ العلمِ هل تُجزى مآثرُكــــم
وأنتَ تمحو ما قد أبلى وتبتسـمُ

في الختام يتضح إذن أن هناك تغييرا جذريا في منظومة القيم، ساهم فيه مادية العصر وعولمة القيم وتعدد الوسائط، مما غير في نظرة الناس لعدد من الثوابت ومن ضمنها نظرتهم للمعلم الذي لم يعد مصدر المعرفة الوحيد، بل يبدو للناس أن ما يقدمه المعلم في عالمنا العربي متجاوزا وبطرق عتيقة ووسائل متهالكة جعلوه موضوع النكتة ورمزا للقيم البالية المتجاوزة، وأثر ذلك على نفسية المعلم ووظيفته بعد أن سحبوا منه رسالة التربية وقصروا عمله في التلقين والتعليم، وبعدما كان يشكل القدوة، ويشعر بقداسة الرسالة التربوية أصبحت مهنة التعليم تشعره بتفاهته. وربما استساغ الذوق العام هذه النظرة الدونية للمدرس، لكن أن يصبح ذلك المدرس ضحية العنف والاعتداء بالسلاح الأبيض من تلامذته أمام تهليل زملائهم، فذلك سرطان سينخر المجتمع برمته من الداخل، والويل الويل لمستقبل أمة تحتقر مربيها و (بئس البلاد بها الأستاذ يحتقر)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى