السبت ٣ شباط (فبراير) ٢٠٢٤
بقلم عزيز القاديلي

الأندلسية أو البحث عن ملاذ

العناوين تخلق حالة من التباس الدلالة و انزياح في المعنى، إنها بؤرة توثر، أو مفترق طرق بين انسداد أفق الدلالة و انفتاحه، إذ بقدر ما تقوم بنوع من التعتيم على المعنى فإنها تشير خفية إلى بعض طرقه الغامضة، إنها ظاهر لوجه خفي، أو إخفاء لوجه ظاهر، فهي التي تتملك المعنى الذي يبحث عنه القارئ عوض أن يمتلك القارئ معانيها، فهي سر بلا أسرار، و المكان المتفاوض بداخله عن دلالات النص و الذات يتوسطهما العالم كمرجع هارب باستمرار، و المكان الذي يتفاوض بداخله عن دلالات النص و الذات، و بينهما يتوسط العالم كمرجع هارب باستمرار، ذلك ما يحدثه في الذات المتلقية عنوان المجموعة القصصية " الأندلسية"[1] للناقد و القاص الدكتور مصطفى الدقاري، لقد تمكن أخيرا من تجريب متعة القص أو أنه أيقظها بعد غفوتها، و في ظرف سنتين أو أكثر استطاع أن يفسح المجال للقاص أو الحاكي أن يولد و ينبعث من رماد الذاكرة، و يصحو مخترقا سطوح الوعي و الإحساس. لقد امتلك هذا الحاكي كاتبنا و خلق عنده سيولة أنجبت هذه المجموعة القصصية، فأغلب النصوص تنتمي إلى هذه السنة و بعضها الآخر و هو قليل يعود إلى سنوات سابقة.

إن ما يثير قارئ " الأندلسية" هو عنوانها، فهو صفة لموصوف محذوف ثم إن مؤشر التعريف يحاول نقل هذه الصفة من المجهول إلى المعلوم، من العام إلى الخاص، من غير المحدد إلى المحدد، إننا أمام مشار إليه معروف بالنسبة للكاتب الضمني، و هذا يجعل القارئ يتساءل: من تكون هذه الأندلسية التي يعرفها الكاتب الضمني و يجهلها القارئ؟ أو قد نقول من تكون هذه الأندلسية التيس يريد كاتبنا الضمني أن يوهمنا بأنها معروفة؟ هل هي امرأة/فتاة تنتمي إلى فضاء ثقافي جغرافي تاريخي يدعى الأندلس؟ثم ما المقصود بالأندلس التي تنتسب إليها هذه الأنثى؟

بالرجوع إلى القصة التي تضمها المجموعة القصصية يمكن لنا أن نكتشف مجموعة من الدلالات و الأحداث، فهي آخر قصص هذه المجموعة، و ربما لأهميتها جعلت كذلك، لكن أين تكمن هذه الأهمية؟

يمكن اعتبار هذه القصة لقطة أو مشهدا لحدث يقع في ثوان معدودات، السائقون على متن سياراتهم ينتظرون اشتعال الضوء الأخضر للانتقال من السكون إلى الحركة، من التوتر إلى الانطلاق، داخل هذا الإطار ينقل لنا سارد مشارك ينتمي إلى زمرة السائقين، موقفه من عالم السيارات المحيطة به، عالم معاد يسبب الضيق و القلق و العذاب. إن السارد محاط بسائقين متوترين عنيفين،إذ ما إن يشتعل الضوء الأخضر حتى يمارسوا عنفهم ضد الآخرين، يستعجلون الانطلاق. أمام هذا العالم يلتقي بأندلسيته و هي على متن سيارتها، يعجب السارد بهذه الأنثى التي لم يحدد لنا سنها أو ملامح وجهها، سوى أن لها شعرا أندلسيا ذهبيا ملولبا، و ما أثار انتباه السارد أكثر هو تلك المجسمات الحيوانية التي تؤثت عالم السيارة و تلوح برأسها في اتجاه السارد. إنها مخلوقات جميلة، يحبها الأطفال و لا يفارقونها، لكن الغريب في هذا المشهد الذي لم يدم سوى بضع لحظات أنه اختفى فجأة ليتركنا السارد وجها لوجه أمام قبح العالم و عنفه إلى درجة أننا نتساءل هل المشهد حقيقي أم إنه حلم يقظة؟

إن هذه القصة / اللقطة تحفل بالعديد من الأسئلة/ الدلالات، بل و الإسقاطات. فالسارد يقسم العالم إلى مجموعة من الثنائيات: عالم أحمر/ عالم أخضر، فالأول يحيل على حالة التوقف لكنه توقف يخفي في أحشائه غليانا، نرفزة السائقين، منبهات الصوت، علية القوم، و لا أحد ينظر إلى الآخر أو يلوح إليه، إننا أمام حالة عدائية. أمام العالم الأخضر فهو حالة الانطلاق و التحرر إنه الأندلسية ذات الشعر النافر و الكثيف، إن أهمية هذه الأندلسية كونها تحيل على أمرين أساسيين: كونها أنثى، ثم المجسمات التي تحيط نفسها بها تحيل على الطفولة و البراءة. لقد خلقت المجسمات نوعا من التقارب بين السارد و هذه الأندلسية، ثم إنها جعلته ينتقل من حالة الغياب إلى حالة الحضور، أو من حالة عدم الإحساس بوجوده في هذا العالم إلى حالة الإحساس بأنه موجود " أحسست مع هذه المخلوقات أنني أوجد". فهذا المشهد على بساطته يكشف لنا عن حالة وجودية يمر بها السارد و يعايشها، إن العالم بعنفه و قساوته و لامبالاته يدمر في السارد الإحساس بوجوده، لكن أمام حالة من تبادل الاهتمام يسترجع السارد إحساسه بوجوده، من هنا يمكن إبراز أهمية هذه الأندلسية، لقد نقلت السارد من حالة الإحساس بالضياع و الفقد و الإمحاء إلى حالة الإحساس بالحياة من جديد، و يمكن أن نستنتج أيضا أن القصة تحيل على ثنائيات عميقة هي الواقع/الحلم. فالواقع بكل قساوته و فظاعته و توتراته يدمر الذات
و يجعلها تنسى كينونتها، أما الحلم فإنه يجعل الإنسان يسترجع هذه الكينونة المفتقدة إلا أنه حلم قصير الأمد ما إن يزول حتى يعود الواقع و يسترجع سيادته على الذات و قهره لها.

إن أهمية هذه القصة تكمن في قدرتها على اختزان ثنائية الواقع/الحلم التي تخترق باقي قصص المجموعة، لأن ذات السارد تعيش صراعا ليس مع عالمها الداخلي، بل مع عالم خارجي قاس و عدائي، و لهذا فهي تبحث عن ظل، و عن حماية، و ليس هناك أفضل من الحلم باعتباره ملاذا من قساوة هذا العالم.

و بناء على هذا يمكن القول أن الأندلسية ليست سوى دال يصنعه حلم يقظة ليحمي الذات من تشرذمها و ضياعها، أو يحميها من الإحساس بالقهر و العذاب، إنها دال على عدم التوافق و الانسجام بين عالم خارجي قاهر، و عالم داخلي مقهور. و للتدليل على هذا الاستنتاج يمكن أن نلقي نظرة خاطفة على باقي عناوين قصص المجموعة لنجد ما يلي: هروب- لحظة – الملاذ الأخير- ألم محايث-... و يمكن على إثر ذلك أن نصوغ استنتاجا بسيطا من خلال خلق نوع من التركيب بين هذه العناوين: إن حلم اليقظة ملاذ أخير و هروب للحظة من آلام محايثة ناتجة عن ظلمة الوجود و طوق الانكسار و قهر الزمن و الضباب، بحثا عن إكسير الحياة و استرجاعا لقبلة...

و إذا كانت المجموعة تحفل بهذه التيمة التي ناقشناها أعلاه، فإنها تستخدم تقنية المشهدية أو أسلوب اللقطة، و هذا يلتقي مع ما لاحظه القاص و الناقد سعيد بوكرامي، إذ قال بأن هذه المجموعة القصصية تشتغل على السرد البصري، تقدم للسارد ما يرى، لكن هذا المرئي يتجاوز السطحية لينفذ إلى دواخل الشخص و يحرك الأعماق، و يسبر الأغوار، إننا أمام عمل يلغي الحدود بين الذاتي و الموضوعي، و يجعل الحياة شبكة من المرئيات و اللامرئيات، الحاضر و الغائب، الواقع و الحلم.

إن الأندلسية يمكن اعتبارها إضافة جديدة في مسار القصة المغربية، كما أنها بداية موفقة في مسار الكتابة القصصية بالنسبة للقاص المصطفى الدقاري.

[1] المصطفى الدقاري. الأندلسية.منشورات أجراس.الطبعة الأولى 2008


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى