السبت ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم مروة كريديه

الإعلام العربي في عصر العنف

"إنَّكم تتكلمون عِندمَا تُوصد دونكم أبواب السلامِ مع أفكاركم"

جبران

لا شك في أننا كشعوب عربية نتقن فن الكلام ونفتخر بأننا صُنَّاع الحرف والخطب العصماء والمعلقات، فمؤتمراتنا السياسية منها بما فيها القمم وندواتنا الفكرية أمست عبارة عن"مَكْلمَة"تداعب انفعالات الشعوب وتُسكّن آلام الانهزمات الفكرية والعملية على حدٍّ سواء، ولعل وسائل الاعلام والفضائيات تعد أحد أهم منابر دوامة المكلمة تلك.

وثَمَّةَ مراحل مفصلية في عمر الشعوب لا تمحوها الأزمنة وتَعاقب الأيام، ولعلنا في زمن بلغ الدمار مداه حتى استحق هذا العصر لقب"عصر العنف"بامتياز، الذي يتبلور من خلال تجليات عدّة أهمها الصراعات المسلحة وما يُصنف في دائرة العنف المباشر ناهيك عن العنف والقمع الفكري والروحي والاجتماعي والسياسي التي تغرق فيه الشعوب وتعاني ويلاته الامم لا سيما أمم العالم الثالث.

في عصر العنف هذا يضعف إعلام المنبر وتضمحل ثقافة الحوار وتتلاشى الصحافة الحقيقية الحرة، والسبب الرئيس هو سيطرة متاريس عنف الفساد الاعلامي التي تتجلى عبر نماذج تعد الأكثر رواجًا والاكثر ربحًا تتبلور على الشكل التالي :

• فضائيات الإرشاد اللاهوتي والعقائدي وهو"إعلام الكبت"الذي يكرس الخطاب اللاهوتي الدوغمائي والذي غالبًا ما يضع الامور في إطار المحرمات والغيبيات التي لا تناقش.

• فضائيات السُخْف والتسطيح و"إعلام العري السلبي"وهو اعلام"الكبت المضاد"و الذي لا يشكل في حقيقة الأمر سوى صورة أخرى مضادة للكبت السياسي والجنسي والديني وهو بمثابة متنفس للشباب ولاحتقتان الشعوب من رداءة الوضع القائم.

• فضائيات الإعلام الرسمي الموجه أو"الاعلام الوصائي"الذي تحرص على تقديم ألمع صورة للسلطة السياسية الحاكمة...

• فضائيات الاعلام المتحزب العنصري او"إعلام الجدار"وهي الفضائيات الإخبارية التي تمنح نفسها حق مصادرة الحقائق واطلاق الاحكام وتخوين الافراد والمجتمعات واعلان النتائج..

هذه النماذج وان تمايزت صورها من"إعلام الكبت العقائدي المؤدلج"إلى"إعلام الكبت المُضاد التافه"إلا انها جميعها ولدت من رحم اليأس والاستسلام والانعزال وتعمل على تكريس الذهنية الانفعالية وتسطيح الكائن الانساني وتحويله الى سلعة، وأمست الشاشة مستوعب نفايات فكرية وفنية على السواء، وتحول دورها من أداة فاعلة في الحوار بين الثقافات، إلى أداة تفتيت مدمرة تغذي العصبيات والعنصرية والمذهبية والعرقية حتى ضمن الشعب الواحد، وما مشهد الاعلام العراقي واللبناني عنا ببعيد، فالخطاب الاعلامي الحالي يساهم بشكل مباشر في إنتاج مجتمع مشحون طائفيا ويحوله الى ارض خصبة للحروب الأهلية، بحيث اصبح اعلام القمامة العنصري أداة تسويق لثقافة طاعة الأيديولوجيات المتصارعة والمذهبيات المتناحرة.

كما وقعت معظم الفضائيات في التكرار والمشابهة في لحظتنا الثقافية وامست البرامج متشابهة الى حد بعيد في ظل تكرار الضيف الرمز نفسه وفي ظل شيوع نمط الإعلامي الجاهز المتورط بإعادة إنتاج ظاهرة المواضيع المكررة, وأمسى الإعلامي -خصوصًا في الفضائيات العربية المشهورة - يمارس عقلا مركزيّا تكرست عوامله الوجودية والإجرائية بفعل انحسار عوامل ثقافة النهضة على حساب ثقافة الشك بالآخر التي تلقى رواجًا كبيرًا في زمن الانكفاء على الهوية.

إن سمات الاعلام العربي اليوم تتميز بالاستعراض على حساب الموضوعية، والردح على حساب النقاش، والتخوين على حساب حق التنوع والتعدد، والتضخييم والتهويل على حساب التقييم والنقد، والاتهامات والشتائم بدل الدلائل ؛ هذه السمات منبعها احتقار الانسان وحقه في الاختلاف تحت شعار حريّة الذات احيانا، في حين ان التعاقد الاعلامي الديموقراطي الحر يفترض ان الحرية ليست مسؤولية تجاه أحد ما، بل هي مسؤولة بحد ذاتها.

وتبقى التساؤلات: أي منتج فكري تريد وسائل الإعلام أن تقدم ؟؟؟ وهل هذه الوسائل منتجة لعقليات منفتحة مبدعة قادرة على خلق فرص التعايش والمشاركة في البناء السوسيولوجي؟؟؟ والعمل السياسي ؟؟؟وهل تساهم مساهمة فاعلة في تطوير وتنمية الفكر النقدي؟؟؟والتفاعل الحضاري وطرح القضايا بشكلها العقلاني؟؟؟؟؟؟

إننا نحتاج إلى إعادة بلورة برامجنا للانتقال بها من طور السلبية الفكرية الى طور الفعل الحضاري ونشر الوعي والارتقاء بالانسان من مستوى الغرائز الى مستوى التحليل، وذلك لا يكون الا من خلال إنقاذ السياسي من خرايه الايديولوجي والثقافي من أزمته الفكرية الحادة وانقاذ الاعلامي الميديائي من تكراره، وايجاد بيئة تهيئ العوامل الموضوعية لتمية فكرية وعملية منتجة، للنهوض من حالة الاستسلام الفكري الى حالة المعرفة ثم الى مرحلة الوعي فالابداع فالارتقاء.

وإذا ما أمعنا النظر والفكر في شؤوننا وآلام شعوبنا المثقلة بالتخلف واعباء التشرد والمرض لوجدنا أن هناك استسلام للعجز ونقص حاد في درجة الوعي وتراجع فكري واضح، فهناك قاسم مشترك عند كافة الشعوب المتخلفة هو العجز عن إدراك المنظومة الطبيعية والقانون الذي يحكم البيئة وهو أمر جعلها تقف خلف متراسها الثقافي الديني في صراع داخلي دائم مع تعدديتها الأصلية، ربما الثورة على هذا العجز تعد المحرك للتحرك والاقبال على اكتشاف مكنونات الكون من خلال استقراء علمي معقلن، فجوهر الحريات هو تحدّي العنف والقمع بما فيه الفكري والتخلص من العصبيات، وعندها يسكن السلام أفكارنا.

ربما كلنا معنيين في رفع شقاء العنف عن انفسنا والمسؤولية لا تقع فقط على وسائل الإعلام بل على كافة مفردات التركيبة المجتمعية، فتتحول عندها إلى أداة للابتكار والإبداع والخلق لا أداة للتضليل، بالإضافة الى أداء وظيفتها في مناخ تسوده حرية الرأي والتعبير, وتشارك فيه كل الكفاءات القادرة على الإبداع والتجديد والتواصل مع الآخر، وهو ما يوفّر فرَصَ انخراطٍ متوازنٍ ومتكافئ في ما يصطلح عليه بمجتمع المعلومات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى