الجمعة ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم جورج سلوم

الجمعة العظيمة

الموعد من السادسة إلى التاسعة من ليل الجمعة، اللقاء سيتمّ في مكانٍ يُدعى الجلجلة أو الجلجثة على سفوح أورشليم التي ستكون مظلمة بذلك الوقت، هناك تواعَدْنا عبر هواتفنا الجوّالة، لأنّ الموعد يجب أن يتمّ، والصلْب يجب أن يتم، لماذا؟ ..لا لشيء، إلا لأنه مكتوبٌ في الأسفار المقدّسة.

ذهب كلٌّ منّا لوحده، وبدون موكبٍ يرافقنا، كلصّين يلتحفان عباءة الليل. وكنّا قبلها قد صلّينا مُسبَقاً وطويلاً ومطوّلاً في بستان الزّيتون، وكان ملاك الحب ثالثنا بأجنحته الوردية، وعسى أن يبشّرنا بأنّ موعدَنا الدمويّ قد ألغي فلا نشرب من ذاك الكأس. ولكنه بقيَ صامتاً، وكأنه يبارك ذلك الموعد المزمع بإرادة سماوية، فسلّمنا أمرنا إلى الله وقلنا خافضي الرأس مرتفعي القلوب، كما قال المسيح قبيل صلبه (لتكن مشيئتك يارب لا مشيئتي أنا)!

وانطلقتُ نحو الجلجثة، وأجفان الناس قد أثقلها النُّعاس وركبها الكرى، لم أحمل صليباً في طريقي، مع أن العادة المتّبعة أن يحمل الآيلُ للصلب صليبَه الخشبي على منكبيه ليصلبونه عليه. أما الآن فصليبي كان حبيبتي التي سأصلب نفسي عليها، فتحملني وتحتملني وتتحمّل وزري الثقيل.

لقد اتّجهْتُ نحو مكان اللقاء بخطاً وئيدة، الظلامُ الدامس مخيّم ولا أرى أبعد من أنفي كنا خائفَين أن يرانا الناس عندما سنُصلَب، نعم سنُصلَب معاً، وقد حكمْنا على أنفسنا بذلك وليست محكمة بيلاطس البنطيّ الرومانية
لم نشفِ عمياناً أو نقمْ أمواتاً، ولم نجترح معجزاتٍ مستحيلة، لم نبشّر بدينٍ جديد إلا دين الحب، لكنهم رفضوه ودحضوه وأنكروه كالكفر المبين، فهربنا من الناس لنَصلبَ أنفسنا (لأنّ الناس أعموا عيونهم لكي لا يشاهدوا، وسدّوا آذانهم كي لا يسمعوا)

لم أشاهدْها وهي تصعد التلّة، بل سمعتُ وقع خطواتها خفيفة الوطء، خائفة، مرتجفة، وكأنها ستُقدِم على ما لا يُحمَد عقباه قطراتُ الندى تصفعني في هذا الليل البهيم، والخطوات تقترب، والحجارة تئنّ من وقع خطواتنا المضطربة المتردّدة نحن لا نرى شيئاً لأنّ الظلمة كانت أضعافاً مضاعفة، كستائر من ليل مطبّقة على بعضها طبقاتٍ وطبقات. ابتعد عنا يا إبليس ولا تقف خلف الكواليس ودع ملاك الحب يرافقنا فقط، وكنّا نسمع فقط فحيح الريح وحفيف الأرواح كموسيقا جنائزية. وتوقّفَت الخطوات المقتربة وقد أصبحَتْ قريبةً مني بلا شك، فوقفتُ وفتحت فمي وحاولت أن أصرخ فلم يطاوعني لساني كنت أريد أن أصيحَ بصوتٍ ينشقُّ له ستار الهيكل
(إيلي ..إيلي لماذا شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تركتني) هكذا صاح المسيح المصلوب من علياء صليبه!

ومددتُ يدي نحو الأمام بأصابعَ مفتوحة تريد أن تمسكَ الجسدَ المتجسّد أمامي، وتداخلت أصابعي بأصابعها، فشعرتُ بقشعريرةٍ كهربائية تسري في أوصالي، وأحسستُ بالدم يندفع إلى وجهي، لا بدّ أنه احمرّ خجلاً
لكني تجلّدتُ، وأمسكتُ الجسدَ الروحيّ بكلتا يديّ، وضغطتُ عليه بأصابعي المتشنّجة، فشعرت بأنها تغوص فيه ورفعته على ظهري، هذا هو صليبي الذي سأحمله. وانطلقتُ به في موكبٍ ملوكيّ، هلّلتْ فيه سعُف الزيتون والورود الذابلة والجماجم المدفونة في القبور التي تسايرنا على طولِ الطريق، إلى أين تمضي بي؟

هكذا قالت

نحو الجلجثة، وهذا ما قلته
كانت تصيح
(مباركٌ الآتي باسم الرّب)، هللويا

قلت هامساً:

ها قد وصلنا

لقد انتظرْنا هذه اللحظة منذ ثلاثٍ وثلاثين سنة، وكان مكتوباً منذ تكوين الخليقة أننا سنُصلَب هنا، وسألتها
هل أنتِ مستعدةٌ للصلب؟

فأومأت برأسها علامة الإيجاب، وما رأيت موافقتَها وما سمعت رفضَها.

كان بإمكانها أن تهرب، لكنها كانت موافقة على التضحية، وهي القربان الذي سيتم تقديمه على مذبح الحب. وكان بإمكان كيوبيد أن يستبدلها لي بامرأة أخرى تشبهها، لكنها كانت هي صليبي.

وخلعنا ملابسنا، ورميناها على قارعة الطريق حتى يتقاسمَها الناس ويقترعون عليها وارتدينا ثياباً قرمزيّة، كما جرى على مسرح الصليب.

قالت

(أنا عطشى)

وقالها المسيح أيضاً فأعطوه اسفنجة مبللة بالخل ليبلل ريقه
فأدنيت شفتيّ من شفتيها وقبّلتها قبلة قاسية كان لها طعم الخلّ أيضاً
كانت الساعة قد قاربت السادسة، فسمعتها تتمتم

(لقد حان الوقت)

ورأيتها تتوسّد الأرض وتفتح ذراعيها بشكل الصليب، وغرستُ أصابعي في يديها وقدميها كالمسامير، ثم طعنتها بحربتي في جنبها فتدفّق دمٌ وماء من الجرح الرّهيب، ورأيت أنا ذلك (وشهِدْت به وشهادتي صحيحة)
انتفضَ الجسد المرمري المرميّ على صليب العذاب
وعاينته يتلوّى من الألم

ثم سمعتُ بعضَ كلمات تفوّهت بها

(لقد تم الآن كل شيء)!

كانت جمعة عظيمة، وقالوا إنها ماتت من هول الصليب، وقالوا إنها قامت منتصرة في اليوم الثالث، وكان ملاك الحب شاهداً على ذلك.

هذا ما جرى، وما زالوا يحتفلون كل سنة بالجمعة العظيمة، جمعة الحب، حيث يضحّي المحبّ بنفسه من أجل أحبائه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى