السبت ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠٢٣
بقلم جورج سلوم

مهفهفة الثياب

في خيمتي المعزولة أضمرَتْ أن يكون اللقاء، ووافقتُها، وكنت أظنّ بأني سحبتٌها من قصرها، وأجبرتُها على أن يكون اللقاء بأرضي وبين جمهوري، ولا أرضَ لي، إذ أني اعتزلتُ في البقعة الحديّة بين الحدود، وأيضاً لا جمهور، لأني ارتضيت العزلة عن الخلق.

وسارَتْ على قدميها وبكعبها العالي طويلاً حتى نأت عن الطريق الدوليّ المعبّد ودلفَت إلى المنطقة الفاصلة بين الحدود، هناك ركنَت سيارتها التي تعجز عن المضيّ في الطريق الوعر المؤدّي لخيمتي.

وما تلفّتَت يمنةً ولا يسرة، ولا حسبَتْ حساباً لمخاطر وحدتها في انتباذتها المخيفة عن العابرين.

ألا تخافين حرس الحدود ورقابة آلات التصوير التي لا تنام؟

أوَما تخشين قطّاع الطرق والمهرِّبين والهاربين والملثّمين الرابضين لأمثالك؟

ألا ترتعدين من عصف الريح التي تتلاعب بشعرك وأذيال معطفك؟

ألا تتوجّسين من الشمس الآيلة للغروب وما يتلوها من ظلمات ودياجير ومحاذير؟

ألا ترين أنّ كعبك العالي ليس لهذا الطريق الترابي الذي لم يسلكه غيري وكلبي؟

على كل حال، التزمي بالطريق الذي اختطّته قدماي ولا تحيدي عنه فتخوضي في مخاضة الألغام المزروعة على الشطين!
وها أنتِ تتسارع خطواتك بين الحقول الزراعية التي هجرها فلّاحوها اليائسون، لأن ثمار الشرّ فاقت ثمار الخير وزرع البذور النقية خنقته الطفيليات المتسلّقة الدبقة. وها هي ظلال الأشجار تتنكّب طريقكِ كالأفاعي المتوجّسة، وها هو كلبي ينبح محذّراً من زائرٍ غريب، وها هو مسدّسي محرّر الزناد مستعدّاً لتوجيه اللوم والتقريع لمن يقضّ مضجع وحدتي.

وهاتفانا المحمولان هما الوحيدان اللذان كانا على علمٍ بمقدمك عبر الطريق الموحِش، فانطلقتُ لاستقبالك، ولحمايتكِ من المتطفلين وشذّاذ الآفاق.

لا سلام، ولا كلام، بل ترَكَتْني أحمِلُها كما يحمل العريس عروسَه في الممرّ المفضي إلى غرفتهما في الفندق، ثم يدفع باب الغرفة بقدمه، ليلقي بعروسته على السرير الوثير في الفندق الفخم الذي شهد حفل زفافهما، ثم يعود إلى باب الغرفة فيقفله ويتأكّد ثانية من إقفاله، ثم يعلّق على الباب عبارة (يرجى عدم الإزعاج)!

ومن الذي سيزعجنا في خيمتي المعزولة التي لا تلتقطها خرائط غوغل؟

إلا كلبي الحارس الذي لا أخجل منه

ألقيتُها، ولا من فراش وثير ألقيها عليه في خيمتي المعزولة، إلا من شريحة اسفنجية متآكلة رقيقة، تنتأ من تحتها حصوات الأرض الترابية غير الممهّدة. فأزاحت كتبي وأوراقي المنثورة، دفعَتها عنها، وظلّ بعضها تحتها لكثرتها، كمن يفترش أرضاً غطتها أوراق الخريف الصفراء.

وكم قيل لي إنّ أوراقي وكل كتاباتي صفراء، ساقطة!

ما هذه الخرق البالية التي تخيطها أيها المجنون؟ هذا ما قالته ساخرة!

وقلت مجيباً وكلي ثقة بمنطلقاتي النظرية، أنا أخيط علماً لثورتي، ولكني محتارٌ بالألوان التي تعبّر عن مضاميني، ومحتار بالشعارات التي سألصقها وبعدد النجوم التي سألصقها. فإن رسمت صليباً معكوفاً على رايتي صرت نازياً، وإن وضعت جمجمة وعظمتين صرت قرصاناً.

قالت وهي تبتسم ساخرة، ارسم قلباً أحمر اللون ويخترقه سهم فتصبح ثورتك عاطفية وانقلابك سيقيم دولة للحب، ولا توجد دولة في الأمم المتحدة تتخذ علماً كهذا!

وأين المشجب الذي ستعلّق عليه معطفها الأنيق في خيمتي الفوضوية؟ إلا من بقايا كرسي مهلهل مكسور الرجل ومسنود بصخرة سوداء كي لا ينهار.

وحذاؤها الأنيق بكعبه العالي لا يُعتبَر من الثياب، لذا لا داعٍ لخلعه أيتها العروس.

مهلاً، دعيني أقوم بواجب الضيافة وكوبٌ واحدٌ بقهوته الباردة نتقاسم الارتشاف منه وتضحك إذ تستطعم فيه مذاق الشاي أيضاً، لأنّ الكوب الوحيد الذي أشرب فيه كل المشاريب غير مشطوف كما يجب.

والمدللة مهفهفة الثياب كانت كالمخطوفة في خيمتي المعزولة

كالمسبيّة من قصر أبيها شيخ القبيلة إلى خيمة صعلوك خائف ولم تستنجد السبية بحراسها الكثر، لأنها أصلاً هي التي خطفَت نفسَها وهربت منهم إلى كوخٍ حقير تخجل حتى خيول أبيها من المبيت فيه وكانت الفرسة الأصيلة مغمضة العينين، مستسلمة للحصان الشرود الحرون الذي ما انصاع لسوط مروّض الجياد، ولا قَبِلَ لجاماً في شدقه، ولا سيراً يقوده، ولا سرجاً على ظهره وصهيل الخيل في خيمتي المعزولة جاوبَه نباح الكلب الذي خجل من المشهد الجميل، واستدار خارجاً ينبح بشبق المحروم، فلا يجاوبه إلا رجع الصدى بين موجات الريح التي تخللت سجف الخيمة حتى كادت لتقلعها، ثم ألوت باحثة عن رداء السكون المجنون.

وعُدنا من معركتنا الفاصلة كمنتصرَين، ومعركة الحب هي الوحيدة التي ينتصر فيها كلا المتقاتلَين!

وكانت محمولةً كالمثخنة بالجراح بلا نزف، كالمُحتضَنة الآمنة مغمضة العينين، مطوّقةً رقبتي بذراعها، حتى وصلنا إلى سيارتها وركبتُ معها طوعاً وكلبي المطياع وقادت بنا إلى سايس الخيل ذي السوط الجلّاد، وأفهمَتْه بأني طيّعٌ الآن بلا سوط ولا صوت.

ومن يومها، رضيتُ باللجام في فمي، وبالسرج على ظهري وما عدت أتمرّد ولا أتذمّر، لكنّ صهيلي كان مسموعاً، ومسموحاً كعطاس من احتقن أنفه بعد إصابته بالزكام، لأنّ البرد كان مسيطراً على مدى الأيام.

وما عدْتُ أسأل عمّن ركبني ويركبني منذ ذاك الوقت، لأنّ الوجوه كانت بلا ملامح. لكنّ الأحذية الثقيلة التي دُسّت بركابي كالخناجر اللمّاعة كانت متشابهة، أهمها حذاء زوج المخطوفة.

إن ركوب الخيل فيه سيطرة كاملة على الحصان، واستعبادٌ كامل، ذاك ما قرأته في فلسفة الترويض. فاللجام الحديدي في فمك، والسوط على رقبتك، والسرج على ظهرك، والمسامير في حوافرك، والحذاء في الركاب ينخز بطنك.

ما أثقلكَ من راكبٍ أيها الزوج، يا سيد القصر، وكيف تحتملك مهفهفة الثياب، الرقيقة، سيدة القصر؟

وسكنتُ بعدها في اسطبلٍ بجوار قصرها، وكانت تتسلّل إلي، وكانوا يسمعون صهيل الخيل في جنح الليل، ويعتبرونه عطاساً بسبب البرد المهيمن على طول الزمان.

وكنت مستمراً بخياطة علم ثورتي، ودهشتُ للألوان الكثيرة من مزق الخرق البالية التي أضيفها كل يوم للعلم الذي صار كبيراً.

اختصر بعض الألوان أيها المجنون، فعلمك صار كألوان الطيف، وقد يظنونك من المثليين متعددي الألوان.

فكرة جيدة، ولا توجد دولة للمثليين بعد في هيئة الأمم.

عندما زرتُ مؤخّراً خيمتي المعزولة متفقّداً أوراقي، كانت أثراً بعد عين، ووقفتُ على الأطلال كامرئ القيس، وتذكّرتُ بأني الآن بلا لجام في الفضاء الرحب، وأنشدْتُ ما أنشدت بمهفهفة الثياب.

وسألني كلبي ذات ليلة عن قضيّتي الكبرى التي تمرّدتُ لأجلها، وسألني عن جور الاستعباد وحيف الاستبداد وشعاراتي الثورية ومنطلقاتي النظرية، فعرضتُ عليه لجامي الذي أخرسني، وسرجي الذي يركبني، وأعلنت له بأني تنازلت عن كل شيء من أجل مهفهفة الثياب.

لقد كنت أناضل من أجل التشاركية والمساواة وتقسيم خشاش الأرض بالعدل بين السادة والسواد، وها أنا حققتُ أهدافي المعلنة بالاشتراك العادل مع سيد القصر بمساكنته في قصره ولو كان في الاصطبل، وبالإشراك الذي يغني عن جوع بمهفهفة الثياب سيدة القصر.

حدّثنا عن ثورتك، وعن شعاراتك، وإيديولوجية الثورة التي سنجاهد من أجلها!

قالوها لي في الاجتماع الأول التأسيسي للحزب الجديد

وكنت كمؤسّسٍ للحزب بلا أفكار مسبقة، وبلا أهداف مبيّتة، وبلا شعارات معلنة. هناك حزبٌ جديد قيد التخلّق، نعم، وهناك ثورة قيد الإندلاع، أيضاً نعم، وهناك جمهور متعطش للثورة، وهناك قائدٌ ومؤسس للحزب الواعد.

كمولود جديد سيولد من رحم البؤس، ولا اسم له، آباؤه كثر ولكن من سيتبنّاه!

لم يكن لدي سوى رايتي ذات الخرق المخيطة الموصولة، التي أضيفها يوماً وأستأصلها يوماً آخر.

عندما رفعت رايتي الجديدة أمام جمهوري، كانت مصنوعة من مزق ناعمة، شفافة، مهفهفة، لأنها لم تكن إلا من بقايا أثواب مهفهفة الثياب.

وارتفع العلم الشفيف على صاريته وسط مجلس قيادة الثورة مقطّبي الجبين
وانحنى الجميع بإجلال أمام العلم الذي لم تضربه الريح بعد ليرفرف
وأقسم الجميع على مبايعة العلم ذي الروائح العطرية النفاذة
نريد أعلاماً أخرى نتوازعها في ساحات النضال، لنموت ونستشهد تحت راياتنا المرفوعة.
نعم سآتيكم بها من بقايا مهفهفة الثياب!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى