

الحب أثمن من ثَدْيٍ مَبْتُورٍ يا ميشيل!
من سَرْدِيَاتِ أسفارٍ في تضاريس الروح

لِثَاِني مرة يذهب إلى مأوى "دار أفولكي" في سيدي كاوكي نواحي مدينة الصويرة. المرة الأولى كانت في فصل الصيف، كان المأوى مليئا بالسياح الأجانب، الكثير من الثرثرة والصخب. لم يكن مهيئا لهذا النوع من الأجواء. قبل أن يحجز غرفة في هذا المأوى عبر الهاتف، هيأ برنامجا مفصلا يتضمن الكتابة والقراءة والرياضة والسباحة. كان في حاجة للهدوء لتنفيذ برنامجه، لكن الهدوء غير متاح حين تقيم في مأوى يشغله السياح الأجانب. لذلك غَيَّرَ برنامجه وتفاعل مع السياح الفرنسيين، فرقص مع جاكلين، وتحدث طويلا مع إفيان. كانت الخرجات الجماعية بواسطة الكواد والسباحة في البحر ممتعة جدا، لكنها حرمته من الاختلاء بنفسه، ولم يكتب الفصل الثاني من الرواية التي كان قد شرع في كتابتها منذ شهر يوليوز. لكنه احتفظ من مأوى دار أفولكي بذكريات جميلة جدا، وقرر العودة إليه.
استغل عطلة شهر أكتوبر ليقضي بعض الأيام في ذلك المأوى. فصل الخريف ليس فصل السياح. أكتوبر ليس كأي شهر آخر، إنه شهر الارتكان إلى الذات، شهر استكمال المشاريع المؤجلة. لذلك لم ير أي داع للحجز المسبق، كان متأكدا أن مأوى دار أفولكي لن يكون ممتلئا في هذا الشهر من السنة، لكنه تفاجأ بأن كل الغرف محجوزة طيلة الأسبوع.
التقى إبراهيم؛ شاب في الثلاثين من العمر، يمتطي دراجة هوائية قديمة، ويقدم خدمات للسياح الباحثين عن مأوى أو غرف للكراء في شاطىء سيدي كاوكي. أخبره إبراهيم أن هناك مأوى غير بعيد بأثمان مناسبة. واقترح عليه أن يدله على المأوى مقابل ثلاثين درهما. كان المأوى عبارة عن منزل بهندسة بدوية وتقليدية باذخة تتداخل فيها الكثير من الألوان والمنمنمات التي تحيط بالنوافذ والأبواب، أو تتجسد رسوما على بعض المداخل أو في بعض الغرف على شكل لوحات زيتية لمشاهد طبيعية. مدخل المأوى عبارة عن تشكيلات حجرية متفاوتة الطول والقصر والأشكال. وفي الواجهة الحجرية الرئيسية يوجد باب مقوس بألوان متنافرة وفاقعة. لكن حالما تدخل إلى المأوى تفاجئك احتفالية الألوان وأصالة الديكور التقليدي وجمالية الأعمدة البنية في الأسقف والزليج البلدي في الأرضية والوجه البشوش للسي الحسين وهو يرحب بالوافدين، ويقدم بنفسه كؤوس الشاي. من شرفة المأوى المفتوحة على طول مساحة السطح والمطلة على الطبيعة والسماء، تتراءى زرقة البحر تخالطها أمواج بيضاء.
كان عليه أن يقطع أكثر من ستمائة كيلومتر ليصل إلى مدينة الصويرة. المسافة بين المدينة التي يقيم فيها ومدينة الصويرة طويلة جدا، لكنه يحب المسافات الطويلة. يحب السياقة لساعات وساعات مختليا بنفسه لا رفيق له سوى الطريق، وموسيقى شوبان، وهدير المحرك، وصوت احتكاك العجلات بالإسفلت، والهدهدة التي تحدثها نوابض السيارة عند كل تمايل أو اهتزاز. أثناء تلك الرحلات يتأمل الحياة والوجود، وتأتيه الكثير من الأفكار التي لا يَتَصَيَّدُها عقله حينما يكون غارقا في التفاعلات الاجتماعية. لا يستطيع البقاء حبيس تلك التفاعلات مدة طويلة. يحتاج دوما لفترات استرخاء. وحين تأتيه رغبة الاختلاء بنفسه يحب أن يذهب إلى أماكن بعيدة لكي لا يلتقي أشخاصا يعرفهم أو يعرفونه. يحب خلال فترة إقامته في تلك الأماكن أن يكون غريبا بين الغرباء، مجردا من أي التزام إزاء أي شخص، متحررا من طقوس التفاعل والتعامل مع الأقنعة. علمته الحياة أن الناس وَاجِهَاتٌ، كائنات مزيفة، حقيقة شوهاء. الاختلاء بالنفس استرجاع للذات، تَخَفُّفٌ من أثقال التفاعلات الاجتماعية. يحب حالات الصفاء الروحي التي تتاح له حين يختلس من الحياة لحظات استرخاء هادىء بعيدا عن الخلق، مستوحشا من العالم، مستأنسا بنفسه، مستكينا للذة الانعزال. تلك هي الفترة المفضلة لديه من أجل الكتابة، وإعادة ترتيب أفكاره، والتفكير في مشاريعه الشخصية.
بعد أن غير المدينة وعاد إلى مدينته كان عليه أن يتكيف مع شكل جديد من أشكال الحياة العائلية والنفسية والاجتماعية والمهنية. أجواء العائلة نعمة، هبة إلهية. كان عليه أن يعيد اكتشاف مدينته التي تغيرت كثيرا. وكان عليه أن يعيد اكتشاف نفسه بعد أن قطع مسارات طويلة بعيدا عنها لسنوات طويلة. يحادث نفسه: الانتقال من مكان إلى مكان يشبه الانتقال من تاريخ إلى تاريخ، من حياة إلى حياة. المسافة منظور، مَدْعَاةٌ موثوقة لرؤية الأشياء بشكل مختلف، مراجعة المسار والمسير والمصير، اكتشاف ما كنت عليه وأنت تظنه نفسك، واكتشاف حقيقة الآخرين في مرآة المسافة الجغرافية التي تفصلك عنهم وتفصلهم عنك. في ضوء السنين التي قضيتَها بعيدا عن أشياء كانت في داخلك لكنك كنت تجهلها، تبدو الحياة مختلفة كثيرا عما كنتَ تظنه أو تعيشه، تبدو الحياة مشهدا غير مألوف لا يتسع لما في قلبك من نور يلهمك إياه الله. يحصل لك شيء شبيه بما يسمونه الصحوة؛ لحظة الاستنارة التي ينكشف لك فيها كل شيء، لحظة الإدراك التي تنقشع فيها الحجب لترى ما لا يُرَى، لِتُبْصِرَ لا بالبصر بل بالبصيرة.
يعاود استرجاع ملامح الوجوه التي كانت تؤثث حياته فَتُطَالِعُهُ وجوهٌ طيبة لأشخاص رائعين ما زال على اتصال بهم رغم البعد والمسافات، ووجوه أخرى لم يكن فيها من الوجوه غير الأقنعة، ولم تنكشف له منها سوى بشاعة القلوب السامة والنوايا الحاقدة. حينما يجد الإنسان نفسه أمام عدسةِ مُصَوِّر، لا يرى ذاته، بل ينشغل برؤية من يلتقط له الصورة، كأن عينيه تبحثان عن انعكاس الآخر فيه. لكن، عند تأمله للصورة بعد التقاطها، يواجه نفسه وكأنه يراها لأول مرة، يتفحص ملامحه وهيأته، ويغوص في تفاصيل وجهه كأنه غريب عنه، شخص آخر يسكن مظهره، مختلفٌ لكنه مألوف، مُغَايِرٌ لكنه يعكس جزءًا منه، كأن الصورة نافذة عريضة على ذاتٍ تُقِيمُ في هيئةِ شخص سواه. وكذلك المسافة، حينما تبتعد ترى الأمور من بعيد، تراها كما هي على وجه الحقيقة وليس على الوجه الذي كنت تراها به حين كنت قريبا منها، متأثرا بحضورها، سعيدا بطيبتها أو منخدعا بقناعها. الانتقال من مكان إلى مكان لا يغيرك بل يغير منظورك، يكشف لك تلك الزوايا التي كانت ماثلة هناك، لكنها كانت محجوبة عنك لأنك لم تكن مهيئا لرؤيتها. الكثير من الضوء يعمي العيون، والقليل من الضوء يُعَتِّمُ الرؤية، لذلك لا تكون بصيرا إلا حين يكون النور على قدر ما تستطيع عيونك وبصيرتك تَحَمُّلَهُ. حين تُغَيِّرُ المكان تُغَيرُ المنظور، تُغَيرُ الرؤية، تُغَيرُ زاوية النظر فتنكشف لك الزوايا المضيئة أو المظلمةِّ ُفي الأشياء التي كنت تراها، وفي الأشخاص الذين كانوا يبدون لك طيبين، وفي نفسك التي كانت تبدو لك نفسك.
حينما وصل إلى المأوى الذي دَلَّهُ عليه إبراهيم كانت الشمس على وشك الغروب. دفقات من الرياح الباردة تتدافع فتبدو الأشياء وهامات الناس متكومة على بعضها. لم يكن في المأوى سوى ضيفين أجنبيين: مواطن فرنسي في أواخر الخمسينيات من عمره برفقة زوجته الأربعينية. هدوء لذيذ يعم المكان، دفء وسكينة وجمالية بسيطة لكنها أخاذة، مُلْهِمَة، جماليتُها تغشى الروح. أصوات الأمواج تصل خافتة إلى شرفة المأوى، وتتسرب عبر نافذة الغرفة التي يقيم فيها في الطابق الأرضي. يعشق ذلك النوع من السكينة، يعشقه حقا، يجد فيه شيئا من نفسه، ذلك الشيء الذي يفتقده حينما يكون منشغلا بصروف الحياة. السكينة هي اطمئنان الروح، هي اللحظة التي تعانق فيها روحُكَ شيئا لا يشبه الأشياء، حالةً لا مثيل لها في الحالات.
السكينة هي تلك الألفة الروحية النادرة التي لا تجدها إلا في امرأة غير عادية أو في بعض الأمكنة البعيدة التي توافق حقيقتك. ولذلك يحب رومانسية الأماكن البعيدة التي تحتضنه بألفة وسكينة غامرة. حتى طعم الطاجين الصويري جعل وجبة العشاء تلك الليلة غنيمة لا تسد الجوع فقط بل تفعم الروح بلذة حالمة، تُزَوِّدُهَا باشتهاء الحياة.
ما أعجبه في المأوى هو الأجواء الهادئة والسكينة العجيبة التي تُفْعِمُ الروح، خاصة خلال الأمسيات. انفتاح المأوى على السماء حيث تتلألأ النجوم كأنها قناديل نورانية منذورة أبديا للدوام والبقاء يُشعِره بأن هناك فسحة واسعة لأسفار الروح، لارتحالات الفكر وهو يتأمل الوجود والموجود، يعيد بناء وعيه بالعالم للإقامة فيه على الوجه الذي تشتهيه النفس ويطمئن إليه الخاطر. العالم ليس ما يبدو لنا من خلال سطحيته الرتيبة والخادعة بل هو الكامن هناك، الماثل في عمق الأشياء، المنفلت من الرؤية بالعين، القابل للانكشاف بنور البصيرة. الذهاب إلى عمق الأشياء، إلى النقطة الأعمق من كل شيء أو الدرجة الأعلى من كل وعي، تلك هي الرحلة الحقيقية، وذلك هو السفر الذي يكون سفرا للروح، وتجليا للعقل وقد صار مَلَكَةَ استنارة، مَدْرَجَ حُلُولٍ في لَطَائِفِ الرُّؤَى والالْتِمَاعَات.
تعرَّف على السائحين الفرنسيين اللذين يقيمان في المأوى. ميشيل ممرض متقاعد، وكاترين زوجته ربة بيت. فرنسيان من الجيل القديم. لباس كلاسيكي، وتصرفات فيها تحفظ. يتناولان عشاءهما بصمت، يمشيان على الشاطىء بصمت. لا يبدو عليهما حماس السياح. تخيم عليهما غرابة كأنهما ينتميان إلى زمن آخر. شيء خَفِيٌّ وغامض يلقي بثقله على طريقة تفاعلهما فيما بينهما. نظراتهما لا تلتقي، حركاتهما ثقيلة، يبدوان منفصلين عن بعضهما ومنفصلين عن العالم الذي يحيط بهما. ينتميان إلى عالمهما الخاص، غارقان في الصمت كأنهما جزيرتان نائيتان في محيط لا تُعَكِّرُ صَفْوَهُ ضوضاءُ البشر.
على طاولة الإفطار جرى بينه وبينهما حوار تعارف. بدت كاترين شاردة الذهن، أما ميشيل فقد بدا مستعدا للحديث كأنه ينتقم من الصمت بالثرثرة، ويستعيد انتماءه للعالم من خلال الإفراط في الكلام. تحدث عن حبه للمغرب، وعشقه لمدينة الصويرة وشاطىء سيدي كاوكي. حدثه عن مدينة فيشي التي يسكن فيها في فرنسا، قال له: مدينة فيشي جنة أرضية.
تعجب كثيرا وهو يسمع من ميشيل هذا الكلام، وتذكر مروره بمدينة فيشي منذ أكثر من عشرين سنة. قضى أسبوعا عند أحد أقربائه في مقاطعة "بِيلْ رِيفْ" على بعد كيلومترين تقريبا من مدينة فيشي. لم تَبْدُ له فيشي جنة كما يقول ميشيل، بدت له كئيبة جدا تحت رداء الثلج. وبدت له مقاطعة "بيل ريف" موحشة وحزينة. شوارع مهجورة تستوطنها وحشة فصل الشتاء، وأشجار مجردة من أوراقها، مُجْدِبَةٌ كأنها هاماتٌ نحيلةٌ تلتحف العراء. ساحات يغطيها الثلج وتستوطنها هَبَّاتُ ريح باردة. لا دفء هناك. مجرد برد قاتل وَجَوٍّ قاتم وسماء عابسة متلبدة بالغيوم كأنها في حداد. لكن أغرب ما أثار اندهاشه هو المقهى الذي يجلس فيه المهاجرون المغاربيون: مقهى كئيب بدوره، لا جمالية فيه، صورة كئيبة لفئة اجتماعية كئيبة ومهمشة. قال له أحد أقربائه وهو يرافقه في جولة في مدينة بيل ريف الصغيرة: في هذه المدينة، الكثير من الشبان المغاربيين لهم سوابق عدلية، ويسمى كل واحد منهم "حالة اجتماعية" un cas social، إما لأنه أمضى فترة في السجن أو لأنه محكوم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ، أو لأنه عاطل عن العمل أو لأنه مدمنٌ أو لأنه مَيَّالٌ إلى إحداث المشاكل والشغب، وخاضع باستمرار لمراقبة الشرطة.
استمر ميشيل في الحديث عن نفسه ومدينته. وظل يستمع إليه ويتساءل: من هذا الغريب الذي يحدثني عن نفسه ومدينته على طاولة الإفطار في المأوى؟ لماذا يبدو متعطشا للحديث عن نفسه كأنه يريد كشف هويته للحصول على اعتراف أو تقدير، أو ربما للحصول على دفء الحوار مع شخص يُولِيهِ سمعَه فيُشعره بالاهتمام؟
حادث نفسه كعادته: الناس عادة متعطشون للاهتمام، يبحثون عن أنفسهم في الآخرين، يكسرون الصمت الذي يثقل قلوبهم بالدردشة مع شركائهم الاجتماعيين. يهربون من أنفسهم بوسائل مُرَاوِغَةٍ، يتجنبون رؤية حقيقتهم وحقيقة احتياجاتهم في مرآتهم الداخلية، يبحثون عن الإعجاب والاعتراف في عيون الآخرين، يبحثون عن انعكاس مُشَرِّفٍ في مرايا الغرباء والأقرباء لأن مرآتهم الداخلية تكون غالبا مرآةً مشروخة تفضح لهم الشرخ الذي يقيم في أعماقهم، تُظهر لهم كل ما يستوطنهم من ضعف وهشاشة وخوف ووحدة ووحشة وبشاعة وانعدام الإحساس بالأمان؛ كل شيء يبحث عنه الإنسان يكشف نقيضه فيه: البحث عن الأنس يكشف الإحساس العميق بالوحدة والوحشة، والبحث عن السعادة يكشف الإحساس العميق بالتعاسة، والبحث عن الحب يكشف الإحساس العميق باكتمال ناقص، والبحث عن القوة يكشف إحساسا عميقا بالهشاشة والضعف، والبحث عن التحكم والسيطرة يكشف إحساسا بالاستقواء لتعويض العجز واحتقار الذات، والبحث عن الأمل يكشف الإحساس العميق بيأس قاتل ودفين، والبحث عن إدمان الجنس يكشف إحساسا عميقا بالدناءة والرخص، والبحث عن الإعجاب يعكس إحساسا عميقا بقلة القيمة. كل ما يبحث عنه الإنسان يعكس الشيء الناقص فيه أو المَعِيبَ في شخصيته. هذه حقيقة المعادلة الإنسانية، وهي معادلة مدهشة لا سبيل إلى تدبيرها فكريا أو روحيا أو عقليا أو انفعاليا إلا بوصفها موضوع اندهاش لا حدود له.
في اليوم التالي من وصوله إلى المأوى وصلت أسرة صغيرة من ثلاثة أفراد: الأب وزوجته وبنتهما سلوى. أسرة قادمة من مدينة "وجدة"، من أقصى شرق المغرب. وصولهم أحدث حركية عجيبة في المأوى؛ حماس الرجل وزوجته عجيب، متدفق، استعراضي وصاخب. أثناء وصولهم كان جالسا في بهو المأوى منشغلا بقراءة كتاب "جينيالوجيا الأخلاق" لنيتشه. توقف عن القراءة، نظر إليهم باندهاش. يزعجه الصخب الذي يُحْدِثُهُ البشر. تذكر قولة الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو (الصخب يملأ العالم، لكنه لا يزيد الحياة شيئًا). لكن صخب تلك الأسرة بدا جزءا من عشقهم للحياة؛ صخب نابع من الأعماق، يزيد حياتهم حياة، يزيد حضورهم حضورا، يجعلهم مرئيين لأنفسهم في مرآة الناس.
يندهش دائما أمام الحالات والتحولات الإنسانية؛ الدهشة التي تعتريه وهو يتأمل العالم والناس شيء لا يستطيع وصفه. يندهش من تلك الدهشة نفسها التي تملأ كل زوايا حواسه وإدراكه وعقله، وتتدفق إلى دواخله، وتبدي له غرابة العالم والبشر. الاندهاش سلوك طبيعي في شخصيته. جَاهَدَ كثيرا للتخلص منه لكنه لم يفلح في ذلك. لا يستطيع أَلَّا يندهش أمام كل ما يراه أو يسمعه أو يحسه. قرأ كثيرا عن الدهشة ليفهم السر، لكنه لم يقتنع بالكثير مما قرأ، بل استسخف الكثير مما يقال عن الدهشة؛ استسخف ربط الدهشة بالفلسفة عند أفلاطون الذي اعتبر أن الفلسفة تبدأ بالدهشة، وعند أرسطو الذي يرى أن كل شخص له حكمة فهو شخص مندهش، وحتى عند ديكارت الذي اشار في بعض كتاباته إلى أن الدهشة المقترنة بالشك هي بداية الفلسفة.
الاندهاش –في نظره- حالة انفعالية وروحية وليست حالة فكرية أو فلسفية. لو كانت الدهشة حالة فلسفية لاندهش الكثير من الفلاسفة من غرابة أو عمق الأفكار التي يقدمونها للناس. الاندهاش درجة غير عادية من الانفعال أمام انعكاس صور الأشياء والأشخاص والعالم في مرآة الروح. قد يتحول ذلك الانعكاس إلى أفكار، لكنها دائما أفكار ناتجة عن تأويل روحي لأمور تستغربها الروح.
من أجمل وأغرب الأوقات التي استمتع بها مع ضيوف المأوى تلك الجلسة الساهرة الجميلة التي جمعتهم في إحدى الليالي حول نار الحطب في الشاطىء. كانت تلك الجلسة من تنظيم إبراهيم. اقترح تلك الجلسة مقابل ألف درهم تتضمن نارا حطبية، وتنشيطا موسيقيا، وكؤوس القهوة والشاي، والطاجين في وجبة العشاء، وخيمة وزرابي أمازيغية، ووسائد قديمة لكنها مريحة. بدت تلك الجلسة باذخة وخرافية: الليل، والشاطىء، وهدير الأمواج، والسماء المزدانة بالنجوم، وأشخاص غرباء جمعتهم جلسة غير متوقعة حول حطب مشتعل على إيقاع آلة "الْوْتَارْ" التقليدية التي يعزف عليها إبراهيم، منظم الجلسة.
بدت له كَوْمَةُ الحطب المشتعل نارًا ونورًا، طاقةً عجيبة تستهلك نفسها بِمَهَلٍ على مرأىً من أشخاص عابرين في حياة بعضهم. بدت إيقاعات "الْوْتَارْ" وهي تلامس أسماعه كأنها أصداءُ ترانيم قادمة من جوفِ عالمٍ سحيق، غريب وبعيد. وبدا له وجه إبراهيم -وهو يجلس القرفصاء، يحتضن آلته الموسيقية ويعزف عليها باستغراق روحي عميق- مرآةً لمتاعب السنين: وجهُ شابٍّ في الثلاثين من العمر لكن في عينيه أشباحُ مآسٍ وأَرْتَاقُ حكاياتٍ من حزن وفقر وحرمان وألم دفين.
يتساءل: لماذا تكشف العيون أَثَرَ المآسي الخفية التي تتوراى خلف زيف الابتسامات؟
تَأَمَّلَ ميشيل وهو يدخن غَلَيُونَهُ بانتشاء، ويرسل نظراته بعيدا كأنه يتأمل العالم من خلال الدخان الذي ينفثه من أنفه، ويَخرج بعضٌ منه من فمه ويتصاعد نحو الأعلى أو تُبَدِّدُهُ الريح التي تهب من تجاويف صخور الشاطىء التي يحجبها الظلام. سأل نفسه: هل ما زال الناس يدخنون الغليون؟ شيء ما في نظرات ميشيل يوحي أنه يرى تَبَدُّدَهُ الخاص في تَبَدُّدِ دخان الغليون؛ شيء ما في ملامح ميشيل يوحي بأنه الدخان الذي يتلاشى، التبغ الذي يحترق، الغليون القديم المتقادم الذي لم يعد مُوضَةَ هذا الزمان.
تَأَمَّلَ كاترين وهي تضع يديها متشابكتين على صدرها كأنها تخفي سرا أو تَتَوَقَّى فضيحة. شعرها الكستنائي المنسدل على كتفيها تلاعبه الريح؛ حَدَسَ أنه شعر مستعار شبيه بشعرٍ مستعار كانت تضعه امرأة عابرة في حياته. بريق عيني كاترين يلتمع بفعل انعكاس ضوء النار المنبعث من الحطب المشتعل. نظراتها تبدو فارغة، لا دفء فيها ولا حياة، خالية من أي إحساس إنساني؛ عيناها مجرد فتحتين شبيهتين بمرآتين تلمعان بالبريق المنعكس من نار الحطب، نظرات ميتة تعكس موت روحها؛ ذلك الموت الغامض الذي لا تجده أبدا إلا في أعين بعض النساء اللواتي يسكنهن الفراغ في الداخل. أحس بها وهي تنظر إلى الحطب المحترق نظرة شاردة كأن النار التي تأكل الحطب هي ذاتها التي تلتهم روحها، روحها المعذبة، حكايتها السرية الرابضة في أعماقها السحيقة، نسختها الدفينة التي تنكشف خلسة في نظراتها الشاردة، تلك النظرات التي تلتمع حينا ثم لا تلبث أن تخبو كأنها بقايا روح معذبة اختارت أن تنطفىء.
تَأَمَّلَ سلوى وهي جالسة بجانب أمها لالة خديجة، ملتصقة بها، تلقي رأسها بِغُنْجٍ ودلال على كتفها. بدت له مثل طفلة تحتمي من غدر الزمان بحنان الأم، بالحب الذي لا يفنى، بالصدر الذي يُشفق ويَرحم. بدت سلوى وهي تمسك عكازها كأنها تستودعه قَدَمَها العرجاء، إعاقتها الشوهاء، نقصها الذي يُؤلم ويُحزن. تذكر لحظة دخولها إلى المأوى لأول مرة مع والديها؛ امرأة في أواخر العشرينيات من العمر، جميلة وأنيقة ومُحَجَّبة. عيون واسعة وبشرة ناعمة وقدم عرجاء. بدا المشهد مغرقا في التناقض، مُعبِّرا عن مفارقة ظالمة. انعكاس ضوء النار على ملامح وجهها يزيدها جمالا، يُحِيلُ بياض بشرتها إلى حمرة فاتنة. نظراتها عميقة كأنها تختزن كل خفايا النفس الإنسانية، كل أسرار العالم، كل صفاء الروح الذي لا تجده استثناء إلا في امرأة بملامح طفولية. علم أنه لن ينسى أبدا تلك النظرات. وحَدَسَ أن خلف تلك النظرات أَلَمٌ أوجَع القلب والروح، وجرحٌ عميق أَحْدَثَ الفوضى في الوجدان.
تأمل السي إسماعيل وزوجته لالة خديجة. في ملامحهما طِيبَة، وفي ابتساماتهما العفوية المتدلية من شفاههما فرحة مشعة. نظراتهما تتقافز في كل اتجاه كأنها تحتوي العالم والناس، تُلاَمِسُ الأشياءَ ملامسةً مُتَفَهِّمَة كأنها نظراتُ تَسَامُحٍ ومحبة سَخِيَّةٍ بدون مقابل. لا حزنَ يُثْقِلُ نظراتهما، لا سحابةَ قلقٍ تتراءى في أعينهما الصافية. خلف مظهرهما الوديع تتخايل أصداء حكايات السنين ووعثاء الحياة. وفي سلوكهما وصخبهما شيءٌ من مرح الأطفال، بعضٌ من براءة الناس الطيبين الذين لم تفسد سَلِيقَتَهُمُ الأيام. أَحَبَّ تلك الطيبة التي تنبع من كل شيء فيهما، وأحب تلك النظرات المتحفِّزة السعيدة التي تتدفق من أعينهما باتجاه ابنتهما سلوى؛ نظراتُ مَحَبَّةٍ غَامِرَة، حبٌّ غير مشروط، حب الأب والأم لفلذة كبدهما؛ الحب الذي لا تفنيه السنون، الحب الذي يظل حيا في القلب مقيما في الفؤاد إلى الممات.
حَادَثَ نفسه كعادته: الناس مرايا وواجهات، مشاهد تعتمل فيها حركية باطنية لا تُرَى، لكنها حركية مهموسة، خفية، حابلة بِهَسِيسٍ كالصدى، ذلك الصدى الذي لا يكون شبحَ الصوت بل غَرْغَرَةَ الصرخات التي تقبع في التجاويف المُعْتِمَة، تجاويفِ القلب والذات والروح. حقيقة الناس ماثلة جوهريا في عيونهم وابتساماتهم. العيون مرآة الروح، مرآة الوجع أو الطاقة، مرآة المكر أو البراءة، مرآة الصدق أو الكذب، مرآة الجبر أو الانكسار، مرآة الحزن أو وَهْمِ السعادة، مرآة الطهر أو الخَلاعة. حقيقة الناس تتراءى في خفايا عيونهم وابتساماتهم، أما كلام الناس فليس إفصاحا بل حيلة تلفظية تواصلية واجتماعية للإبقاء على الحقيقة حبيسة الدواخل؛ كل كلاٍم فِعْلُ تشويش، أسلوبُ تَعْمِيَةٍ، وسيلةُ إخفاءٍ متعمَّد للظل القابع هناك، الظل الكامن في الدواخل الموصدَة، الماثل في الأعماق التي تسكنها الظلمات ولا يَطَّلِعُ عليها إلا الله.
العيون والابتسامات تقول كل شيء؛ إنها المرآة التي تكشف الظل الداخلي الذي تحدث عنه كارل يونغ؛ إنها الكتاب الذي يمكن أن تتهجى فيه هيروغليفيات العوالم المحجوبة خلف ثنايا الوجوه، تلك الهيروغليفيات التي لا تغدو مكشوفة إلا لمن أتقن روحانية التَّهَجِّي والقراءة الحدسية أو المستبصرة. يحب تأمل عيون الآخرين ليعثر فيها على ما تخفيه الدواخل، لكن أحيانا يتجنب النظر في عيونهم عن عمد لكي لا يُشعِرهم بأنه قد كشف حقيقتهم. قراءته الحدسية للعيون نادرا ما تخطئ، لذلك يثق فيها كثيرا، كثيرا جدا.
استفاق من تأملاته الداخلية. مَدَّ بصره باتجاه الشاطىء. تراءت له الأمواج وهي تتدحرج على الرمال كأنها تستعيد قصة عناق أَبَدِيٍّ بين البحر وضفته الرملية. صَدَحَ إبراهيم بأغنية أمازيغية متأوِّهة. صَمَتَ الجميع. كان صمتا مَهِيبًا؛ حالةً استثنائية من حالات التخلي العذري عن الكلام. نغمات آلة الوْتَارْ وبُحَّةُ صوت إبراهيم وهو يغني مغمض العينين أَضْفَيَا على تلك الجلسة الليلية لمسة جمالية سوريالية، روحانية متعالية، فخامة شعورية منذورة للبقاء أبديا في الذاكرة كأجمل لحظة من لحظات العمر. الحطب يحترق، واحتراقه يضيء عتمة الليل، ينشر الدفء في الشلة التي تبدو في حالة تخدير كلي تحت تأثير لذةِ أغنيةٍ هائمة.
طلب من إبراهيم أن يترجم له كلمات الأغنية الأمازيغية إلى العامية العربية المغربية. أخرج قلما من جيبه وشرع في كتابة كلمات الأغنية في مذكرته التي لا تفارقه محاولا تحويل ما يقوله إبراهيم بالعامية إلى العربية الفصيحة. طلب منه ميشيل وكاترين أن يترجم لهما الكلمات إلى الفرنسية. وبدا التأثر على وجه كاترين وهي تنصت إلى الترجمة. في أجواء تلك الجلسة الليلية، بدت تلك الكلمات أكبر من دلالتها، أثقل من كل الكلمات التي يَصْدَحُ بها عاشقٌ فقير مثل إبراهيم؛ إبراهيم الذي لا يملك سوى آلته الموسيقية وصوته الحزين ليغني أغنية حزينة لامرأة لم تكن هناك لتسمعها.
ساد الصمت؛ ذلك النوع من الصمت الذي يختلي فيه كل شخص بنفسه؛ صمتٌ ثقيل، موحش، مغرق في استبطان الذات. الحطب يحترق ليضيء، وأفراد الشلة يصمتون ليخاطبوا ذواتهم العميقة بكلامٍ خَبِيء. تَعَجَّبَ كيف تُحْدِثُ كلماتُ أغنيةٍ عاطفية كل ذلك الأثر الوجداني في النفوس. أخرج إبراهيم سيجارة من جيب سترته. دخن بصمت وانتشاء وهو يقلب الحطب لتستعير النار. قامته القصيرة ونعله البلاستيكي وثيابه الرثة ووجهه النحيل المُتَغَضِّنُ بآثار الفقر والحرمان، كل ذلك يجعله مشهدا مألوفا ومُحزنا من مشاهد الحياة المنتشرة في ثنايا هذا الوطن. في نظراته انكسار، وفي حركاته تثاقل كأن جسده مفرغ من فورة الحياة. لا تُلاَمِسُ وَجْهَهُ ابتسامة، لا تَعْتَمِلُ في عينيه الْتِمَاعَة، مجرد كائن حزين مُخْتَزَلٍ تراجيديًا في بقايا إنسان. قَدَّمَ كؤوس الشاي وهو يصدح بموال أمازيغي مؤثر وحزين ثم أضاف بعض قطع الحطب لتقوية جذوة النار قبل أن يسترسل من جديد في الغناء بصوت عميق كأنه قادم من تجاويف نفس تحترق.
خَيَّمَ الصمت على الجميع. وحده هدير الموج يلقي صخبه الرتيب في المسامع المشدودة كليا لموال إبراهيم. انعكاس ضوء النار على الوجوه منحها حمرة مهيبة، وَمَنَحَ العيون بريقا فَغَدَتْ مثل قناديل صغيرة مشعة بنورٍ عجيبٍ تَتَلاَمَحُ فيه حكاياتٌ محجوبة وأصداءُ أسرار خفية. دفء النار في ظلمة الليل وبرودة الريح التي تهب في ربوع الشاطىء يمنحان الشلة الشعور بتجديد عُرَى الصلة المتقادمة مع الحياة. توقف إبراهيم عن الغناء. سادت فترة صمت ذاهل. بدا الليل غامضا، وبدت أمواج البحر وهي تتهادى على الشاطىء كأنها رقصة أبدية يعانق فيها الليل مياه اليَمِّ المالحة. تَطَاوَلَ الصمت، وانشغل كل فرد من الجماعة بصمته الخاص، يحادث نفسه أو يتأمل الليل والحطب المشتعل أو يتطلع للنجوم البعيدة المتباعدة التي تلمع في أديم السماء. فجأة، صرخ السي إسماعيل رب الأسرة الوَجْدِيَّةِ: "لم نَأْتِ إلى هنا لنصمت، انظروا إلي، سأرقص!".
شَغَّلَ موسيقى الرّْكَّادَة التي تُعرف بها المناطق الشرقية في المغرب، شَغَّلَهَا على هاتفه، ثم انتفض واقفا كَطَوْدٍ عتيد، كَهَبَّةِ إعصار. أخذ عكاز بنته سلوى، وانخرط في رقصة حربية تُرْعِدُ جسمه كله، تبعث فيه هَزَّاتٍ قوية متتالية ومتوحشة. يمسك العكاز بالطريقة التي تُمْسَكُ بها البندقية في رقصة الركادة. الموسيقى الحماسية تتدفق من الهاتف، والسي إسماعيل يرقص بعنفوان، يحرك كتفيه بقوة وصلابة، ويضرب رمل الشاطئ بقدمه بقوة فتتناثر حبات الرمل في كل اتجاه، وتنغرس آثار قدمه في الشاطىء مُخَلِّفَةً حُفَرًا غائرة. صَدَحَتْ زوجته لاَلَّة خديجة بزغرودة مدوية، وساندتها ابنتها سلوى بزغرودة حادة تصادت بغرابة في صمت الشاطىء. بدا الاستغراب والذهول على ميشيل وزوجته كاترين. وبدت السعادة في وجوه السي إسماعيل وزوجته لالة خديجة وبنتهما سلوى، فانضمتا إلى الرقصة. بدت سلوى برجلها العرجاء هَامَةً منكسرةً لكنها تقاوم بكامل قوتها لكي تساير إيقاع موسيقى الركادة.
تأمل المشهد باندهاشه المعهود. مشهد الأسرة الوَجْدِيَّة وهي تؤدي رقصة الركادة في جوف الليل وفي ضوء نار الحطب لا يشبهه أي مشهد. احتفالية حماسية سوريالية. غرابة صادمة ولذيذة في الوقت نفسه. شَعَرَ برغبة هوسية في الانضمام للرقصة، أمسكَ بِيَدَيْ ميشيل وكاترين، جذبهما للمشاركة في الرقصة. تمنَّعا قليلا وهما يضحكان كطفلين. لم يترك لهما فرصة للهروب. انخرط الجميع في الرقصة الجنونية. انضم إبراهيم. كَوَّنُوا صَفًّا مُتَرَاصًّا. تقدم السي إسماعيل الصف، يحرك جسده وعكاز بنته سلوى، والجميع يقلد حركاته، لالة خديجة وسلوى تزغردان، ميشيل وكاترين يُصدران صرخات حماسية وضحكات صاخبة، وإبراهيم يُصدِر من جوفه صرخة غريبة كعواء الذئاب، يُخرج الألم، كل الألم الذي في داخله.
انتابته سعادة غامرة وهو يرقص مع الراقصين. شعر بأن تلك اللحظات التي جمعت غرباء من كل فج في رقصة ليلية على ضوء نار الحطب في شاطىء سيدي كاوكي لم تكن مجرد حادثة منذورة للنسيان كأنها زمن بدون روح، لحظةٌ بدون جذور في الذاكرة والوجدان، هنيهةٌ ضائعة ومتلاشية في سيرور الأيام العابرة بدون أَلَقٍ أو بريق. بدت له تلك الرقصة الليلة لحظة لا تشبهها أي لحظة من اللحظات الرتيبة التي تملأ حيز الحياة اليومية التي يغرق فيها عامة الناس وهم يظنون أنهم أحياء. لا يدري كيف تفاعل الآخرون مع الرقصة، لكنه عاشها كحالة شعورية قصوى فيها ألفة وغرابة، فيها سعادة تضيء الوجوه وتراجيديَا خفية تُضْنِي الروح: حركات سلوى وهي ترقص وتتعثر بقدمها العرجاء، توشك في كل مرة على السقوط، فتسندها أمها وكاترين، يساعدناها على الوقوف، يمنحانها الإحساس بأن الرقصة لا تكتمل إلا بها، يُشعرانها أن الرقصة أقيمت من أجلها، يُضَمِّدَانِ الجرح العميق الذي يسكن قلبها: جُرْحُ الْعَرَجِ الذي يُشعِرها أنها امرأة جاءت للحياة بقدم شوهاء. رقصت سلوى تلك الليلة وهي تصرخ من السعادة. ومن عينينها الجميلتين تتدفق دموعٌ أَبْكَتِ الجميع؛ دموع سخية تتدحرج مثل لآلئ بلورية ينعكس فيها ضوء الحطب الذي يحترق. بكى السي إسماعيل وهو ينظر إلى دموع ابنته، وبكت لالة خديجة، وبكت أيضا كاترين، وحتى هدير الموج بدا كأنه يبكي مع الباكين. لن ينسى أبدا ذلك المشهد. سيظل جزءا من تاريخه وتاريخ أولئك الذين التقى بهم عابرين وودَّعَهُمْ وقد غَدَوْا أصدقاء.
ذَكَّرَتْهُ تلك الرقصة برقصة زوربا في رواية "زوربا اليوناني" للفيلسوف والروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس؛ الرقصة التي تترجم فلسفة الحياة كما يراها زوربا وهو يرقص رقصته الغريبة، كأنه يطاول بها الحياة، يتحرر بواسطتها من كل القيود، يرمم من خلالها انكساراته، كأن الرقص هو السبيل الوحيد لمواجهة تراجيديا الحياة، فيصرخ بقوة وهو يخاطب صديقه: "لقد خسرنا كل شيء، ما الذي بقي لنفعله؟ لنرقص!".
في تلك الليلة، لم تكن تلك الرقصة الجماعية على الشاطىء مجرد حدث احتفالي من أحداث حياة عادية؛ كانت رقصة منذورة للإقامة الأبدية في الذاكرة. السي إسماعيل، الجندي المتقاعد، لم يبق له من سلاحه سوى عكاز بنته يستعمله كما يستعمل الراقصون البندقية التقليدية في رقصة الركادة. الجندي بدون سلاح لا يكون جنديا أبدا، لكن السي إسماعيل كان جنديا متوافقا مع حياة التقاعد، يسافر مع زوجته لالة خديجة وبنته سلوى، يثير الصخب والحياة حيثما حَلَّ وارتحل كأنه يقول للعالم والناس: "أنا هنا"؛ يرقص بفخر وعنفوان رقصة الركادة الحربية بعكاز بنته العرجاء. يخبر العالم أنه ما زال محاربا، يخوض غمار الحرب في رقصة جنونية تحمل أصواتا مكتومة من حروب الأزمنة القديمة، ويبكي بخشوع وهو يرى الدموع تتدفق كالنافورة من عيني بنته سلوى.
ما أحدثته تلك الرقصة الليلية في أجواء الشلة كان عجبا. لم يكن ذلك البكاء الجماعي شفقة عفوية صادقة على سلوى فحسب، بل كان أيضا نوعا من ذلك التطهير الذي تحدث عنه أرسطو. بعد انتهاء الرقصة سادت حالة من الغرابة التي ارتسمت على ملامح الجميع. بدا على وجوههم عدم التصديق: كيف بكوا وهم يرقصون؟ كيف أحدث فيهم بكاء سلوى كل تلك الشفقة التي سالت دموعا؟ استمرت كاترين في البكاء بصمت، واستمر السي إسماعيل ممسكا بعكاز سلوى وهو في حالة صمت وذهول. ميشيل يدخن الغليون وإبراهيم يحرك الحطب لتضطرم النار. أما سلوى فقد تملكتها ضحكة هستيرية غريبة. ظلت تضحك بِهَوَسٍ وهي تعانق أمها، تتعلق بعنقها، تحشر رأسها في صدرها الأمومي بعنف، وتصيح: أنا لست عرجاء، لا أريد شفقتكم...أكره قدمي المشوهة، أكره العكاز...أتمنى أن أموت...
ثم انهارت مجددا بالبكاء، بكاء لم يَرَ له في حياته مثيل...
الصمت الذي خيم على الشلة لم يكن مثل أي صمت. كان موتا للكلام، انتفاءً كُلِّيًّا لكل حركة، ثباتا موجعا في اللحظة القصوى من التأثر والألم. بدا المشهد سِيزِيفِيًّا، سُورْيَالِيًّا، كأنه حَدَثٌ قادم من أعمق مخزونات الوجع الذي تحتمله تراجيديا الحياة. ذهولٌ مُفْجِعٌ مُرْتَسِمٌ على ملامح الوجوه. تَثَاقُلٌ في الحركات والسكنات ونظرات العيون. حتى النار خَبَتْ كأنها كائن مُتَمَاوِتٌ يوشك أن يُسْلِمَ الروح. بدا كل شيءٍ ظلاما، وكل صوتٍ أنينًا، وكل هَبَّةِ ريحٍ غُصَّةً أليمة تعتصر الفؤاد.
لم يستطع تحمل المشهد. ابتعد عن الشلة باتجاه الأمواج. شعر بها تتدحرج على قدميه. أحس ببرودتها الليلية؛ برودة مثل برودة هذه الليلة الغريبة التي لم تكن له في الحسبان. غرق في حالة قصوى من الذهول. بدا له الأمر مجرد كابوس، لَوْثَةٍ مَنَامِيَّة، جَاثُومٍ حُلْمِيّ، مأساة مزيفة. تمنى لو يستفيق، لو يستعيد نفسه، لو يتخلص من هول هذا المشهد الذي هز كيانه. تمنى لو لم يلتقِ بميشيل ولا كاترين ولا السِّي إسماعيل ولا لالة خديجة ولا سلوى ولا إبراهيم. تمنى لو لم يأت إلى شاطىء سيدي كاوكي. شعر برغبة في العودة إلى المأوى. كل ما يريده هو أن ينام...أن يغرق في النوم...أن ينسى كل شيء، أن ينفصل عن كل هذا المشهد السوريالي الذي لم يكن له في الحسبان...أن ينسى حتى ملامح وجه تلك المرأة التي أَرْعَشَتْ روحَه ورَجَّتْ أركان قلبه ذات حب قديم، ولم يحتفظ منها سوى بذكرى ملاكٍ مَمْسُوسٍ بِرُوحِ شيطان.
لكن شيئا ما ظل يشده إلى البقاء. شيء ما يشعره أن ليس من حقه أن ينسحب، ليس من حقه أن يترك الشلة فيبدو لهم بمظهر الهارب الجبان. نظر خلفه باتجاههم، رأى إبراهيم يضيف المزيد من الحطب للنار بحركاته البطيئة المتثاقلة، ورأى سلوى تتوسد فخذ أمها، وميشيل ينفث الدخان وهو يدخن الغليون. وبدت له النار المتوقدة مثل نور متوهج ينازل الظلام في حرب خاسرة. حَادَثَ نفسه كعادته: الحطب يحترق لكي يضيء، والإنسان يحيا لكي يَسْعَدَ أو يتألم، والأيام تمضي لكي تستمر الحياة، وحوادث الزمان تُنَاوِشُنَا لكي نتعلم، كل شيء يمضي بالإنسان إلى حيث ينبغي له أن يكون، كل شيء يعاند الإنسان لكي يقويه أو يضعفه، يؤلمه أو يسعده، يميته أو يحييه، يضحكه أو يبكيه. أين هي البطولة إذن؟ من أين تتدفق طاقة الحياة يا سلوى؟ من رقصكِ المتعثر وأنت تبكين أم من ضحكتك الهستيرية وأنت تحشرين رأسك في صدر أمك التي لا تملك لك شيئا سوى الشفقة والتعاطف والألم؟
فجأة، نهض إبراهيم بتثاقله المعهود. توسط الجماعة وانخرط في أداء مسرحي بحركات ورقصات جنونية مضحكة. بدا كائِنًا غريبا منبعثا من عالم آخر. هيأته الرثة وقامته القصيرة وملامح الفقر البادية عليه تمنحه غرابة مدهشة. أداؤه المسرحي انتزع الابتسامات من الجميع، ثم شيئا فشيئا تحولت الابتسامات إلى ضحكات، ثم صارت الضحكات قهقهات تؤثث زوايا الليل وتتصادى في ربوع الشاطىء. لم تكن حركات إبراهيم الغريبة مضحكة في ذاتها بل اسْتِمَاتَتُهُ البطولية في إضحاك الشلة بأداءٍ تَهْرِيجِيٍّ فاشل هو الذي أحدث موجة الضحك الذي جلجلت أصداؤه في زوايا الليل البهيم.
حَادَثَ نفسه كعادته: يا لغرابة هذه الحياة! إبراهيم يجعل من نفسه أضحوكة ليُضحك الغرباء، ليجعل هذه الجلسة الليلية ناجحة، طَمَعًا في أن يمنحه أعضاء الشلة بعض البقشيش فوق الألف درهم التي اتفق معهم عليها. حقا ما أغرب هذه الحياة! من أجل المال قد يتحول الرجل إلى مهرج أو تتحول المرأة إلى عاهرة أو يتحول شعب كامل إلى قطيع أو يتحول العالم كله إلى ساحةِ حربٍ أو وَكْرِ فسادٍ أو عَرِينِ إبليس. يا لِحَقَارَةِ الإنسان!...يا لِضَآلَةِ الكائن!...
فجأة وضد كل تَوَقُّعٍ، بدا الجميع سعداء كأنهم ما بَكَوْا وهم يرقصون. بدا هذا التحول جنونيا، غير قابل للتفسير، مُنْفَلِتٍ من الفهم، مُتَعَالٍ عن أي نوع من التحولات الطبيعية التي تحدث عادة في السلوك الإنساني. كانت حالة الاندهاش التي خالطت عقله وفكره قوية لدرجة أنه قال لنفسه: لا بد أنني عالق في رفقة أشخاص مجانين. لا يمكن أن يحدث هذا الذي حدث إلا لدى أشخاص فيهم إما شيء من الجنون أو بعض من البطولة القصوى أمام غرابة الحياة والمصير.
انتسجت علاقةُ أُلْفَةٍ دافئة وحماسية بين أفراد الجلسة الليلية. شَعَّتِ الوجوه بابتسامات نورانية. ارتسمت في العيون نظرات فيها سَنًا وبريق، فيها سر خفي من أسرار النفوس التي تستعيد فجأة نَضَارة الحياة. تساءل في دواخله: هل الانتقال من حالة إلى حالة تعبير عن تحول أم عودة غير متوقعة لحقيقة الذات الأولية، تلك الحقيقة المنسية؟ أفراد الشلة بعد الرقصة ليسوا ما كانوا عليه قبل الرقصة. أين الحقيقة وأين القناع؟ أين الصوت وأين الصدى؟ أين الحد الفاصل بين الما-قبل والما-بعد؟ ما الحد الفاصل بين الضحك والدموع؟ بين الألم والأمل؟ بين العَرَجِ والوقوف ببطولة وشموخ؟
حَادَثَ نفسه كعادته: الناس كائنات متحوِّلة، منذورة أبديا للتقافز من حالة إلى حالة بحثا عن صيغةِ تَوَافُقٍ مع ما يتوهمون أنه سعادة أو اكتمال أو حياة عظيمة أو تجارب تستحق أن تعاش أو الهروب من رقصةٍ باكية في جوف الليل وهَدْأَةِ الشاطىء. تذهلني تلك التحولات، لكنها لا تفاجئني أبدا لأنها حقيقة الكائن البشري الذي يبحث أَبَدِيًّا عن نفسه خارج نفسه، يؤمن بوجود شيء لا وجود له ويسميه "السعادة"، يصدق شيئا غير موثوق ويسميه "العقل"، يَتُوقُ لشيء لا قدرة له على تَحَمُّلِهِ ويسميه "الحقيقة". الكائن البشري يصنع أوهاما ويصدقها، يبدع مسميات ويقيم فيها ذهنيا، يستهلكها تواصليا، يُشَخِّصُ بها ما يظن أنه حياته وواقعه ومساره ومصيره. هناك الكثير من الوهم في دواخل الإنسان، لكنه وَهْمٌ ضروري وبطولي لأنه وَقُودُ الكائن، طَوْقُ نَجَاتِهِ من الجنون والانهيار. رقصة الركادة التي قادها السي إسماعيل رقصة حربية لكنها صارت حدثا احتفاليا حَلَّ فيه العكاز محل البندقية. أليست تلك الحفلة الليلية تجسيدا لاحتفاليةِ وتراجيديَا الحياة نفسها؟ كيف تتحول البندقية إلى عكاز أو العكاز إلى بندقية؟ كيف يتحول العجز الجسدي لسلوى إلى وقوفٍ شامخ في رقصة لها تاريخ ومرجعية شبه أسطورية؟ كيف تتحول كاترين من امرأة كئيبة وصامتة إلى امرأة تتدفق مَرَحًا وسعادةً كالسيل بعد رقصة باذخة وبكاءٍ غزير؟ كيف يتحول ميشيل من شخص يرى العالم من خلال دخان الغليون إلى رجل يمسك يد زوجته ويقبلها بحب وحنان كأنه يلامس هدية سماوية؟ كيف يعوي إبراهيم عواء الذئاب بعد أن غَنَّى بحزنٍ إنساني شَفِيفٍ أغنيةَ حبٍّ أمازيغية؟ وكيف يتحول إلى أضحوكة من أجل إمتاع أشخاص يضحكون عليه أكثر مما يُضحِكهم أداؤه التهريجي الفاشل؟ كيف يترافق الرقص مع البكاء؟ كيف تنبعث من مشاعر الشفقة على سلوى مشاعر المشاركة الوجدانية التي تطهر الروح وتُحْدِثُ الألفة بين الغرباء؟
لم تكن تلك الليلة مثل أي ليلة. عاش في حياته ليالٍ جنونية كثيرة، وأحداثا ليلية عنيفة، ومغامرات همجية غريبة، وحالات اندهاش مُرِيع وفظيع، لكن غرابة هذه الليلة مختلفة، ليس لأنها غريبة في ذاتها بل لأن التحولات الوجدانية والنفسية والسلوكية التي حصلت فيها تُحْدِثُ لديه ذلك الاندهاش الذي يبقيه في حالة صدمة فكرية: كيف يرقص الناس وهم يبكون تعاطفا مع فتاة عرجاء؟ كيف ينتقلون من الحزن الذي يُذْبِلُ الوجوه إلى القهقهة البلهاء كأنهم أشخاص معتوهين؟ كيف يتحول إبراهيم من شاب يبحث له عن دور هامشي وصغير في عالم الخدمات السياحية إلى أضحوكة ومهرج ليُضحك الغرباء؟ كيف يتحول ميشيل وكاترين من كائنين حزينين وصامتين صمت القبور إلى كائنين طافحين بالحب والمرح وعشق الليل والبحر والرقص ونجوم السماء؟ أين تكمن طاقة التحول لدى الإنسان؟ هل تكمن في قيمة التحول نفسه أم في الدافع الصريح أو الخفي للانتقال المفاجىء من حالة إلى حالة، من وضع إلى وضع، من شعور إلى شعور، من بلاهة إلى بلاهة، من رقص إلى بكاء، ومن جِدِّيَّةٍ إلى تهريج؟!...
جاءت امرأتان من عائلة إبراهيم تحملان أطباق العشاء. حدث ذلك النوع من الاستنفار الذي يحدث عادة عند التهيئ للأكل بعد معدة خاوية. أكل الجميع بدون أن يفكر أي منهم في غسل يديه. الجوع بوابة الشراهة: الجوع للأكل يُوَلِّدُ شَرَاهَةَ الاِزْدِرَاد، والجوع للغنى يُوَلِّدُ شراهة المال، والجوع للحياة يُوَلِّدُ شراهة الاستمتاع، والجوع للقوة يُوَلِّدُ شراهة التحكم والسيطرة، والجوع للسعادة يُوَلِّدُ شراهة تحصيل المستحيلات.
أثناء العشاء تناول إبراهيم آلة "الوتار"، ورافق إحدى المرأتين وهي تغني أغنية العِيطَة الشعبية بصوت مُتَهَدِّجٍ ورخيم. أفراد الشلة يأكلون، وإبراهيم والمرأة يُشَنِّفَانِ أسماعهم بالغناء. حَادَثَ نفسه مرة أخرى: الطبقية التي تَحَدَّثَ عنها ماركس تتراءى في كل حدث إنساني، في كل احتفال أو حِدَادْ؛ البعض يأكل والبعض الآخر يؤجلون الأكل إلى حين الحصول على أجر هزيل مقابل خدمات ثمينة.
بعد الأكل تفرق الجميع كأنهم أبدًا ما اجتمعوا. أَخْمَدَ إبراهيم النار. هبت ريح باردة: ريحُ أكتوبر المُفْعَمِ بِسَرْدِيَاتِ فصل الخريف. تَكَوَّمَ الجميع على أنفسهم، وعادوا يَحُثُّونَ الخطو صامتين باتجاه المأوى. وخلفهم ظَلَّ الشاطىء كما هو دائما ممتلئا بروعته وكثافته وغموضه، تُعَرْبِدُ فيه الريح الليلية والأمواج وأشباحٌ سرمديةٌ لا تُرَى.
لما دخل إلى غرفته الدافئة في المأوى، نزع كل ملابسه، ووقف عاريا تماما تحت رشاش الحمام. المياه الدافئة تلامس جسده، تتدفق عليه كأنها رحمة إلهية. أغمض عينيه بتلذذ وانتشاء، وترك جسمه يتلقى دفقات الماء الساخن، فشعر أنه يغتسل من كل شيء: يغتسل من دهشته أثناء جلسة تلك الليلة في الشاطىء، يغتسل من تعب الجهد الكبير الذي بذله في العمل خلال الأشهر الأخيرة، يغتسل من ذكريات قديمة تستبيح قلبَه كلما اختلى بنفسه ليلا، يغتسل من ذكرى الحزن الذي رآه في عيون سلوى وميشيل وكاترين والسي إسماعيل ولالة خديجة وإبراهيم. انتعاشٌ جميل ومُسْتَطَابٌ يدغدغ جسمه، يُشعِره بسعادة غامرة. تَطَلَّعَ من نافذة الغرفة إلى أَدِيمِ السماء، بدت له نجوم شهر أكتوبر أكثر نورانية من كل نجوم الفصول. صفاء السماء يبعث الطمأنينة في الروح، يُسِرُّ إليها أن هناك رَبًّا في ذلك المدى السماوي اللامتناهي القَصِيِّ والبعيد. سكينة غامرة تملأ روحه. هدوء الليل امتدادٌ للهدوء الذي يعتمل في أعماق فؤاده. لكن لم يغمض له جفنٌ تلك الليلة. ظلت حالة الاندهاش تلازمه، تُثْقِلُ عليه، تُحدِث في عقله وفكره استنفارا وغرابة.
في جوف الليل، وفي الصفحة التاسعة والتسعين بعد المائة من دفتر مذكراته كتب ما يلي: الليل ظُلْمَةُ الطبيعة، غَسَقُ الروح. ليل الطبيعة يَنْجَابُ وينجلي، وليل الكائن يبقى، تستديمه أسبابٌ غامضة، تغذِّيه الرؤى والاستيهامات والذكريات والتخيلات. كل ما يحيط بكَ مرايا، تتهجى فيها غرابة الكائن. تُعَايِنُ العالم والناس، تلقي عليهم نظراتك المتفحصة أو الشاردة، وترى فيهم ما لا يرونه في أنفسهم، تسمع منهم ما لا تقوله ألسنتهم لكن تلهج به النظرات المتدلية من أعينهم الضاحكة أو الدامعة. للضحكات صخبٌ يُجَلْجِلُ في المسامع. ضحكات أفراد الشلة ذكرى لا تُنْسَى، وجلسة الشاطىء التي جمعتهم حول نار حطبية لحظةٌ أبديةٌ برمزية إنسانية لا تتكرر في الحياة مرتين. تلك الأمور البسيطة التي بدت مجرد أفعال إنسانية عادية في تلك الجلسة الليلية كانت بطولة إنسانية في نظره. مشهد سلوى وهي تجاهد بكل ما فيها من قوة من أجل الرقص بدون عكاز كان مشهدا بطوليا. بكاؤها وهي ترقص كان لوحةً سوريالية، مُفَارَقَةً ممعنة في الغرابة، مثيرة للإعجاب، مُحَفِّزَةً على التفكير والتأمل. رقصة السي إسماعيل وزغرودة لالة خديجة على إيقاع رقصة الركادة الحربية، واستماتة إبراهيم بحركاته المسرحية التهريجية من أجل إسعاد أفراد الشلة؛ كل ذلك بدا له بطولة من تلك البطولات الصغيرة التي يقوم بها الناس من أجل مُعَافَسَةِ تراجيديا الحياة. ما يصدر عن الناس في حالات التَّعَرِّي الانفعالي والروحي هو حقيقتهم، ويا لها من حقيقة مُذْهِلَة!..لَمْ آتِ إلى سيدي كاوكي لأتعاطف أو أتواصل، لكن الأحداث التي يبدو أنها تحصل صدفة غالبا ما تكون مرآةً لأشياء تَعْرِضُ نفسها عليك لترى فيها نفسك، لتتأمل فيها بعضا مما اختبرْتَهُ أو ما يجدر بك أن تختبره في هذه الحياة. أشد ما أكره في الرجل هو أن يتحول إلى مهرج لإضحاك الآخرين؛ وأكثرُ مَنْ أَحْتَقِرُ من الرجال هو الرجل الذي يَتَسَفَّلُ من أجل إضحاك امرأة. الرجل الذي يرضى لنفسه أن يكون مهرجا قد يرضى لنفسه أي شيء حقير. لكن ما يشفع لإبراهيم لِيَسْلَمَ من احتقاري له هو فقره الذي يضعه في تلك الحالة الهشة النابعة من الحاجة للآخرين للحصول على بعض النقود التي تخفف عنه وَصْمَةَ الفقر والحرمان. الفقر حقا مَذَلَّةُ الرجال!...
أَشْعَلَ عشرة شموع، وأَطْفَأَ مصباح الغرفة. يعشق إشعال الشموع في خلواته، يصطحبها دائما معه في كل رحلة لقضاء بعض الوقت في فندق أو مأوى بعيدا عن مدينته. لا تخلو أدراج مكتبه أبدا من الشموع، ولا تخلو حقيبة أسفاره منها أبدا، كما لا تخلو من علبةِ قِطَعِ الجبن التي يعشق تقديمها بسعادة غامرة للقطط التي يصادفها في مطعم أو مقهى أو رحلة من رحلاته المتعددة. الشموع مرتبطة في حياته بقصة جنونية قديمة، بِليالٍ دافئة رَيَّانَةٍ لا مثيل لها في كل ما عاشه من لَيْلاَتْ. لم يستطع نسيان تلك القصة أبدا، لم تتمكن ذاكرته من التنكر لأحداثها رغم أن قدرته على النسيان مرعبة. للحنين لوعةٌ تُشَرْذِمُ الروح، تَهُدُّ الكيان. بعض القصص لا تنتهي أبدا حتى حين تبدو منتهية، وبعض الوجوه لا تتوارى حتى حين تذبل في الذاكرة كل ملامح الوجوه العابرة. تَأَمَّلَ ضوء الشموع وهي تغالب ظلام الغرفة، وتخايلت له مشاهد قادمة من الزمن السحيق، من عمق مرحلة الزمن الجامعي الجميل، من ثنايا العهد الذي مضى وانقضى لكن أثره في القلب والروح بَاقٍ ما يزال كأنه وَشْمٌ على ظاهر اليد، وَشْمٌ غائر، غائر جدا، مَاكِثٌ في أغوار القلب وأعماق الفؤاد. مَنْ هناك في مَكَامِنِ القلب؟ لمن ذلك الوجه الأنثوي الذي ينبعث من رميم الذكرى؟ لمن تلك الابتسامة المتوهجة التي شَعَّتْ زمنًا ثم أَوْهَنَ سَنَاهَا البِعَادْ؟ الدخان الخفيف الذي يتصاعد من الشموع يتراقص وهو يتعالى قليلا قبل أن يتبدد ويصير هباءً كذكرى منسية. هدير أمواج البحر يتسرب خافتا إلى هدوء الغرفة، فيبدو آتيا من عالم آخر، منبعثا من حيث لا شيء ولا مكان. أَشْعَلَ سيجارةً وملأ رئتيه من دخانها بعمق وانتشاء. نادرا ما يدخن، ولا يدخن أبدا إلا في مثل هذه الحالات التي يكون فيها متنعما بلذة الاكتفاء بنفسه ليلا على ضوء الشموع بعيدا عن شقته وعن عائلته ومدينته في مأوًى ساحلي أو جبلي. استلقى على السرير، وأرسل نظراته عبر زجاج النافذة المقابلة، يتأمل السماء كأنه يراها لأول مرة، يتهجى فيها لغة الرسائل الإلهية التي يبحث عنها في كل شيء، في كل وجه، في منعطف كل طريق، في مُبْتَدَإِ كل حكاية أو نهايةِ كل شوط أو دهشةِ كل لقاء أو غُصَّةِ كل وداع أو مُسْتَأْنَفَاتِ كلِّ مَسِيرْ. موسيقى لَيْلِيَاتِ شوبان تتدفق بنغمات هادئة وحالِمَةٌ من هاتفه، تداعب روحه، تُحدِث فيه ذلك النوع من الافتتان الذي يملأ كل مساحات القلب، كل أبعاد الروح، كل زوايا الذهول الكامنة سرا في أعماق الفؤاد. ترافقه هذه الموسيقي في صمت الليلة الخريفية الرابعة التي يمضيها في هذا المأوى المطل على شاطىء سيدي كاوكي، فيشعر بتلك السكينة النادرة التي تفعم قلبه، وترعش روحه، وتعلو به في ملكوت الرؤى والتأملات. يعشق تلك الطقوس التي يوفرها لنفسه بين الحين والآخر ليشعر بالصفاء الذهني وليعيد ترتيب مقاساته كأنه يعيد نَحْتَ أبعاد كيانه من جديد. دفء الغرفة، وضوء الشموع، وموسيقى شوبان، وصمت المأوى، وسكينة الليل، وفخامة السرير المَخْمَلِيّ، ونجوم سماء شهر أكتوبر هِبَاتٌ ربانية. يعشق تلك اللحظات التي تبدو فيها الحياة منسجمة انسجاما كليا مع إحساسه الروحي العميق بالسكينة واللذة والمتعة وإعادة الاتصال بنفسه كأنه يعانق بِرُوحِهِ حِيَاضَ السماء. يجد سعادته هناك. السكينة حالة روحية متعالية، مَدْرَجٌ من مدارِج الارتقاء إلى حالة التَّنَعُّمِ القصوى بروعة الحياة؛ تلك الروعة التي لا تكمن في الحياة نفسها، بل في طريقة الإحساس بها وعيشها.
الليل دوما مساحةُ َتَأَّمُّلٍ وَسَهَرٍ وَسَمَرٍ وَتَسْوِيدِ صفحاتِ المذكرات. الليل احتفالية الشموع وحلولٌ في الذات وإنصاتٌ لذيذ إلى هسيس الأصوات القابعة في أغوار الوجدان. الساعة الثالثة والنصف ليلا. تَنَاوَمَتْ جفونه. تَثَاقَلَتْ. تَغَامَضَتْ. وشيئا فشيئا شعر بأنه يغفو. يُدْلِجُ في نَوْمَةٍ هنيئة تأخذه من نفسه ومن العالم. حينما استيقظ كانت أشعة الشمس تضيء الغرفة. نظر إلى ساعته. الساعة الحادية عشرة والربع. استحم بخفة ونشاط. وذهب لتناول وجبة الفطور.
يتجنب دائما تفقد هاتفه خلال فترة الصباح. لا يحب أن يضيع صباحاته في قراءة الرسائل النصية أو مشاهدة الفيديوهات أو قراءة المراسلات في حساباته على المنصات الاجتماعية. يتلقى بعض المكالمات أحيانا في هاتفه الذي يسميه "الهاتف العام" لأنه مخصص لعلاقاته العامة، لكنه قَلَّمَا يرد عليها كلها. أما المكالمات التي يتلقاها في هاتفه الثاني الذي يسميه "الهاتف الخاص" فيرد عليها عند أول رنة لأنه يعلم أنها رنات معارفه الأوفياء والعائلة والأحبة. لا يتفقد أبدا هاتفه العام أثناء أسفاره، يبقيه مغلقا. يتجنب إضاعة وقت استجمامه في التقافز عبر المنصات الاجتماعية ومواقع الأنترنت والمكالمات التافهة. ولذلك استغرب كثيرا حين دخل إلى بهو المأوى وشاهد سلوى وكاترين وميشيل وحتى لالة خديجة غارقين في تفحص هواتفهم، منقطعين عن بعضهم، محشورين في انجذاب غبي وذاهل إلى هواتفهم التي تأخذ منهم العمر والحياة والزمن، وتأخذ منهم أنفسهم، وتُوهِمُهُمْ بأنهم أحياء واجتماعيون ومتواصلون ومتفاعلون، وتُشعِرهم بأنهم أشخاص مهمون في شبكة واسعة من الأصدقاء الافتراضيين المزيفين. تناول فطوره بلذة وحماس وشراهة ثم خرج من المأوى باتجاه شاطىء البحر. الشوق إلى البحر والشاطىء لا يشبهه أي شوق، إنه احتفال، غنائية رومانسية، تَسَامٍ بالعقل والفكر والقلب والروح إلى مقام التَبَتُّلِ والابتهالات على إيقاع لسانٍ يسبح بعظمة الله.
كلما أخذته أسفاره إلى الشاطىء في أي قرية أو مدينة يتأمل البحرو يقول "سبحان الله"، ثم يكرر في دخيلته قولة لإسحاق نيوتن: "لا أعرف كيف أبدو للعالم، لكنني أرى نفسي كطفل يلعب على شاطئ البحر، أَلْهُو بين الحين والآخر، وأجد حصاة ملساء أو صَدَفَةً أجمل من المعتاد، بينما يكمن أمامي محيط الحقيقة العظيم غير المُكْتَشَفْ".
أول مرة قرأ فيها هذه القولة كانت أثناء زيارته لشاطىء "القصر الصغير" بين تطوان وطنجة منذ ست عشرة سنة. من أروع وأجمل الشواطىء التي زارها. تعرف في ذلك الشاطىء على طالبين من مدينة تطوان. دار بينهم حديث حماسي كأنهم يعرفون بعضهم منذ عهود، سبحوا معا في مياه البحر، ودعاهم لوجبة الغذاء على حسابه، فنشأت بينهم ألفة جميلة. أهداه أحدهما كتابا باللغة الإسبانية. فاعتذر عن قبول الكتاب وقال له إنه لا يفهم الإسبانية، لكن الطالب أصر على إهدائه الكتاب. ضحك واعتبر الأمر مزحة، لكن الطالب التطواني لم يكن يمزح. فقبل منه الكتاب. تفحصه ووجد في أعلى الصفحة الأولى قولة إسحاق نيوتن مكتوبة بقلم الرصاص. شعر أنها تعبر حقا عما يشعر به كلما زار شاطىء البحر. ومنذ تلك اللحظة تَعَوَّدَ دائما على ترديد تلك القولة عند زيارته لأي شاطىء، كما تعود أيضا على أن يلتقط من رمال أي شاطىء يزوره صَدَفَةً أو حصاة على شكل قلب ويضعهما في جيبه أو حقيبته. وحينما يعود إلى منزله يضعهما في كيس بلاستيكي صغير مع ورقة صغيرة يكتب عليها انطباعا أو ملاحظة أو إشارة أو حدثا أدهشه أو فكرة نالت إعجابه أو أثارت استغرابه أثناء تفاعله مع الأشخاص الذين التقى بهم في الشاطىء. يضع على كل كيسٍ تاريخ زيارته للشاطىء واسم الشخص أو الأشخاص الذين التقى بهم أو زار الشاطىء بصحبتهم، ثم يضع الكيس بجانب الأكياس الأخرى. يعتني بتنظيمها فوق طاولة حائطية مخصصة لهذا الغرض في غرفة مكتبه.
حينما غير المنزل والمدينة طلب من النجار أن يصنع له طاولة خشبية يعتليها مستطيل زجاجي. وضع الطاولة بمحاذاة شرفة غرفة المكتب لتلامسها أشعة الشمس كل صباح. فَرَشَ في أرضية المستطيل الزجاجي طبقة سميكة من الرمل الذي جلبه من أحد الشواطىء، ووضع فوقه الأكياس الصغيرة بعناية كأنها كنوز ثمينة. أحصاها بفخر وحنين، فوجدها ثلاثة وتسعين كيسا، لكل واحد منها حكاية وتاريخ وذكرَى وُجٌوهٍ وملامح وأحاديث ومسامرات أو مجرد نظرات متبادلة. توقف عند أحد تلك الأكياس، تأمله كأنه يراه لأول مرة. لم يكن في ذلك الكيس شيء، لا صَدَفَة ولا حصاة ملساء على شكل قلب، بل مجرد ورقة صغيرة مكتوب عليها بقلم أحمر: "علاقة سامة وغريبة. امرأة متلاعبة بوجه ملاك" بدون اسم ولا تاريخ ولا ذكرى ولا ملامح. تعذر عليه تذكر ملامح المرأة المعنية بتلك الملاحظة الغريبة. كانت مجرد لَوْثَةٍ سوداء مرت في حياته دون أن تترك أي أثر جميل يتذكرها به. حاول تذكر وجهها وهو يتأمل الكيس، لكنه تفاجأ أنه لا يستطيع تذكر ملامحها بعد أن حذف كل صورها من هاتفه. ابتسم تلك الابتسامة الغامضة التي تتدلى أحيانا من شفتيه حين يكتشف جانبا غريبا من جوانب الطبيعة الإنسانية، وحادث نفسه: غريب كيف تتحول اللقاءات العابرة إلى مَحْضِ أحجارٍ أو أصدافٍ بحرية في أكياس بدون قيمة!...وغريب كيف تتحول لقاءات أخرى إلى مجرد صدَى علاقةٍ سامة وملامحِ وجهٍ طمسته الأيام وتخطّاه القلب ونسته الذاكرة!...
شاطىء سيدي كاوكي ليس أجمل الشواطىء التي زارها، لكن فيه جاذبية مبهمة وغامضة. يشده منظر القوارب الزرقاء المستلقية على الشاطىء. يحب طيبة الصيادين. تَعَرَّفَ على أحدهم. دعاه إلى كأس شاي بطيبة الصيادين البسطاء الذين ترتسم على وجوههم حكايات البحر ومتاعب السنين. قَبِلَ الدعوة. تبادل معه حديثا حول حياة الصيادين. يحب طرح الأسئلة حول تجربة الحياة التي يعيشها الأشخاص العاديون الذين لم تخالط عقولهم النظريات والأفكار والتحليلات الجامعية والأكاديمية. لا تهمه معلوماتهم الشخصية، بل تجربتهم الحياتية ونظرتهم للحياة وخفايا طبيعتهم الإنسانية التي تثير في دواخله طاقة الاندهاش والغرابة والذهول. يعشق تلك العفوية التي تصدر من الناس البسطاء. يمكن أن يعاملهم برفق وتسامح وطيبة كأنهم أطفال بريئون، لكنه يصبح مترفعا جدا وقاسيا جدا تجاه الأشخاص الذين يبدون متصنعين. يكره التصنع. يعرف أن التصنع هو أشد وأسوأ وأخبث الأقنعة التي يمكن أن يلبسها إنسان، ويستغرب كيف يمكن لبعض الناس أن يعيشوا طول حياتهم بأقنعة، ويتساءل بذهول لماذا لا يستطيع بعض الناس أن يعيشوا بوجوههم الحقيقية؟ حقا لم يستطع عقله أبدا أن يفهم لماذا يملك بعض الناس تلك الدرجة المقيتة من المكر والخبث والسخافة التي تدفعهم للعيش بوجه غير وجههم الحقيقي؟
أمضى بقية يومه في الشاطىء. زار قبة سيدي كاوكي. تحدث مع الصيادين. التقط بعض الصور معهم. التقى بإبراهيم. جلسا فوق صخرة تلامسها أمواج البحر. بدا الشاطىء خاليا من الناس. فصل الخريف لا يغري الناس بالسباحة أو ارتياد الشاطىء. حكى له إبراهيم بعض فصول حياته. ولد في مدينة خْنِيفْرَة، وحين بلغ العاشرة من العمر، جاءت به أمه إلى مدينة الصويرة لتعيش مع عائلتها بعد أن ذهب زوجها إلى الصحراء مع كتيبته العسكرية. حكى إبراهيم قصة حياته وهو يدخن سيجارة محشوة بالحشيش. شاب ثلاثيني بدون حياة زوجية، بدون عمل دائم وثابت، بدون تكوين تعليمي أو مهني، بدون رؤية للمستقبل؛ أمله الوحيد أن يتزوج سائحة أجنبية تأخذه إلى أوربا: أوربا الحلم، أوربا الجنة، موضوع كل آماله واستيهاماته ودعواته. أريد الذهاب إلى أوربا من أجل أمي وأختي الصغيرة. هكذا تحدث إبراهيم عن أوربا، تحدث عنها وفي عينيه بريق عجيب وحزن بدون اسم، ثم غرق في صمت مهيب قبل أن يقول: هل سبق لك أن ذهبت إلى أوربا يا أستاذ؟ نظر إلى إبراهيم. أشفق عليه. ورغم أنه سافر إلى أوربا وأمضى فيها ما يقرب من سنتين متنقلا بين ألمانيا وهولندا وفرنسا فإنه فضل أن يقول له: "لم أسافر أبدا إلى أوربا يا إبراهيم". لم يُرِدْ أن يُشعِره بمزيد من الحزن. أراد أن يقنعه بأن ليس كل الناس ذهبوا إلى أوربا، وأنه ليس الوحيد الذي استعصى عليه الذهاب إليها. لم يَشْعُرْ بأنه كذب على إبراهيم بل جَنَّبَهُ المزيد من الحزن، وربما الكثير من الحقد والغيرة.
طيلة حياته، في كل العلاقات الإنسانية التي حصل فيها نوع من التقارب بينه وبين الأشخاص الآخرين، حتى أولئك الذين يبدون سعداء ومحظوظين، اكتشف أن في حياتهم مَآسٍ وأحزانا وقصصا كئيبة. أحيانا كثيرة يتجنب الاقتراب من الآخرين لكي لا يكتشف فيهم ذلك الألم الدفين الذي يملأ دواخل كل إنسان. يشعر فعلا بالعجز حين لا يستطيع مد يد العون لهم. يكتفي بالتعاطف معهم. وفي أحيان كثيرة يشعر بالحزن من أجلهم. وذلك يرهقه كثيرا، وقد يُشْعِرُهُ بالذنب والتقصير كأنه المسؤول عن كل مآسي العالم.
أخرج ثلاثمائة درهم من جيبه. تمنى لو كان في جيبه قدرا ماليا أكبر. لكنه ترك محفظته في المأوى. سلم الثلاثمائة درهم لإبراهيم. تأمل وجهه الدميم، وأسنانه المهدمة، وشفتيه اللتين اسودتا من كثرة التدخين، وجسمه النحيل، وقامته القصيرة، وثيابه الرثة، وقال في نفسه: هل هناك معجزة كافية لتجعل سائحة أجنبية تقع في حب إبراهيم وتأخذه معها إلى أوربا؟
أخذ إبراهيم الثلاثمائة درهم وهو في قمة الامتنان والسعادة. لم يكن ذلك القدر المالي كبيرا لكن فرحة إبراهيم به كانت أكبر كأنه تَلَقَّى غنيمة ثمينة. نظر إليه بعطف وإشفاق، وتمتم بينه وبين نفسه: يَا لِضِعَةِ الرجال في بلدان الغبن والخسارة!!!...
في المساء جمعه حديث مع سلوى. اقتربت منه في بهو المأوى. كان جالسا يكتب بعض انطباعاته اليومية. سألته إن كانت تزعجه. رحب بها بابتسامته المعهودة. جلست. ساد صمت قصير. بدا عليها بعض التوتر. سألها: هل أنت بخير؟ قالت بارتباك: أنا آسفة لأنني أفسدت عليكم تلك الجلسة الليلية الجميلة في الشاطىء.
ظل صامتا يتأمل ملامح وجهها ومظاهر التوتر والقلق في عينيها. قال: لم تفسدي أي شيء. ولا داعي للتأسف والاعتذار.
يتجنب أحاديث المشاعر مع امرأة لا يعرفها. حين تتحرك فيه مشاعر العطف والشفقة إزاء شخص معين يحس أنه مسؤول عنه. وذلك يكلفه ثمنا باهظا جدا. لتغيير موضوع الحديث سألها عن أبيها السي إسماعيل وعن مدينة وجدة. لا يعرف لماذا لم يفكر أبدا في زيارة تلك المدينة. شيئا فشيئا اكتشف ان سلوى تحب التحدث عن نفسها. أخبرته أنها حاصلة على شهادة الماستر في الأدب الإنجليزي، وأنها تُدَرِّسُ الإنجليزية في المركز الأمريكي. تحب السفر مع والديها. ليس لديها صديقات. ولا تفكر في الزواج. ونادرا ما تتكلم مع الرجال الغرباء. ظل يستمع إليها وهي تتحدث كأنها تحدث نفسها. لم يكن مستعدا للحديث لأن عقله كان مشغولا ببعض الأفكار والانطباعات التي يريد تسجيلها في مذكرته. لم يكن يريد أن تفلت منه تلك الأفكار. لكنه شعر في الوقت نفسه أن سلوى تبحث فيه عن شخص يمنحها سمعه وربما يمنحها أيضا بعد الاهتمام. طلب منها أن تمهله دقيقة لتسجيل أفكاره في مذكرته لكي لا ينساها. ثم هيأ نفسه لمحادثتها. اعتذرت له لأنها شغلته عَمًّا يقوم به. علمته الحياة أن الأشخاص الذين يعتذرون كثيرا أشخاص طيبون. لكنه لا يثق في اعتذارات النساء. صارحها بهذه الفكرة. بدت مرتبكة وغير مهيأة لهذه الصراحة. ظلت صامتة تنظر إليه بعينين لا ترمشان. ثم قالت له: هل حقا أنت صريح أم تتصنع الصراحة؟
بدا له هذا السؤال غبيا. قال: هل صراحتي جارحة؟…!
أجابت: الصراحة نادرة. إن كنتَ حقا صريحا ولا تلعب لعبة الصراحة فأنت لست رجلا عاديا.
حدث نفسه: هذا الكلام لا يمكن أن يصدر إلا عن امرأة جربت علاقات كثيرة مع الرجال، واكتشفت أو ربما توهمت أن الصراحة في الرجال نادرة.
صارحها بهذه الفكرة. أراد أن يدفعها إلى أقصى ردود أفعالها، أن يكتشف حقيقتها.
علقت بجرأة عجيبة لم تظهر عليها أثناء الجلسة الشاطئية الليلية ولا أثناء اقترابها منه لمحادثته. قالت: هذا الكلام الذي تقوله ليس صراحة بل حكما أخلاقيا، وهو في كل الحالات حكم لا يخصني. لكن ما يثير إعجابي ويستفزني في الوقت نفسه هو جرأتك في قول ما تفكر فيه دون أن يبدو عليك أدنى حرج. أنت حقا صريح بطريقة مستفزة، وأنا أحب ذلك (You’re mad real in a bold way, and I fw that)؛ قالتها بالإنجليزية الأمريكية الشعبية (السلانغ).
علق قائلا: أنت إذن تحبين لغة الهيب هوب؟
أجابت بمرح: حين أكون سعيدة وجريئة أستعمل بعض التعابير الإنجليزية المستمدة من ثقافة الهيب والهوب والإنجليزية الأفرو-أمريكية. هل يزعجك ذلك؟
ثم أردفت دون أن تنتظر منه الجواب: أنا فعلا سعيدة بالتحدث معك. بدوتَ لي غامضا جدا ومتعاليا أثناء الجلسة الليلية على الشاطىء. لكنني أخطأت التقدير. صراحتك المستفزة تطمئنني. ما يثير خوفي وحذري في الناس هو إخفاء أفكارهم وتَكَتُّمُهُمْ على مشاعرهم الحقيقية. المتلاعبون والماكرون لا يكونون صريحين أبدا. هل يزعجك أن أبدي ملاحظة صريحة جدا بشأنك؟
ليس من نوع الرجال الذين يهتمون بما يقوله عنهم الآخرون. مقتنع أن لا أحد يمكن أن يعرفه كما يعرف نفسه. ولذلك قال لها بعدم اكتراث وبشيء من الفضول في الوقت نفسه: تفضلي...
صمتت قليلا وعلى شفتيها ابتسامة غامضة ثم قالت: يبدو عليك أنك تعيش في عالمك الخاص، ولا تبدي أي اهتمام بالناس من حولك...كأنك منفصل عنهم...
لم تَبْدُ له هذه الملاحظة مزعجة ولا صريحة، مجرد انطباع صادر عن امرأة غريبة لا يعرف عنها شيئا ولا تعرف عنه أي شيء. اكتفى بالنظر إليها كمن يستقرئ في ملامحها وعيونها أسرارا خفية. بدا من نظرات عيونها أنها تنتظر تعليقا أو تفسيرا أو نفيا أو تأكيدا أو جوابا. لكن عقله كان يَسْتَشْكِلُ الكلمات التي قالتها. تساءل في دواخله: ماذا تقصدين يا سيدتي بالعالم الخاص؟ ماذا تقصدين بالعيش؟ ماذا تقصدين بالاهتمام؟ وماذا تقصدين بالناس؟!!!...أنا لا أفهم هذه الكلمات كما تفهمينها أنت...ولذلك أترك ملاحظتك بدون تعليق أو جواب...
انتظرت جوابه. بدت عليها علامات الخذلان والارتباك، فقالت بنبرة فيها شيء من الحرج والاحتجاج: لماذا تنظر إلي بهذه الطريقة؟ هل أغضبتك ملاحظتي؟ لا تنظر إلي هكذا...أرجوك...
ثم استجمعت نفسها، وهمت بالمغادرة. تعثرت بعكازها وكادت أن تسقط. نهض بسرعة من أجل مساعدتها. قالت له بصوت حاد: لا تساعدني...أستطيع الاعتماد على نفسي...
شعر بشفقة عميقة عليها. أحس بتأنيب الضمير لأنه عاملها بجفاء. نظر إليها وهي تبتعد. أحس بالمزيد من الشفقة وهو يرى تمايل مشيتها وترنح هيئتها بسبب قدمها العرجاء. عاد إلى كتابة انطباعاته اليومية، لكن لم يستطع أن يكتب أي شيء. هذه آخر ليلة يقضيها في هذا المأوى المطل على شاطىء سيدي كاوكي. تناول وجبة العشاء وهو يجاهد نفسه ليكتب بعض انطباعاته لكن دون جدوى. حديثه مع سلوى أفسد عليه لذة وَسُيُولَةَ الكتابة. الساعة الحادية عشرة. ذهب إلى غرفته. استحم بانتعاش. أشعل الشموع كما يفعل في كل ليلة منذ وصوله إلى هذا المأوى. شغَّل موسيقى هادئة. قرأ بعض الصفحات من الانطباعات التي سجلها في مذكرته منذ وصوله إلى شاطىء سيدي كاوكي. شعر بالتعب. كان اليوم طويلا ورياح شهر أكتوبر في شاطىء سيدي كاوكي طيلة اليوم أصابته بصداع خفيف. استلقى في السرير وأغمض عينيه مستمتعا بالمقطع الموسيقي الذي ينبعث خافتا من هاتفه الخاص. سمع طرقا على باب الغرفة. فتح الباب. سلوى. تعجَّبَ. قالت معتذرة: آسفة...أعتذر عن حساسيتي الزائدة أثناء حديثنا في بهو المأوى. سمعت أنك ستغادر في صباح الغد. عيد ميلادي غدا. سنقيم حفلة صغيرة في مساء الغد يحضرها أبي وأمي وكاترين وميشيل وإبراهيم، نريدك أن تكون معنا إن كان ذلك ممكنا...
نظرت إلى داخل الغرفة حيث ضوء الشموع الخافت، بدا عليها بعض التعجب والفضول. قالت باستغراب: شموع؟!!!...
لم يُعَلِّق. قالت بصوت خفيض: دعوت كاترين وميشيل وإبراهيم للحفلة...لم أرد أن أستثنيك من الجميع...
نظرت إليه كأنها تقيس أثر كلامها في ملامح وجهه ثم قالت بصوت مرتبك: تصبح على خير...
وذهبت تعرج وهو يلاحقها بنظراتٍ شاردة. تَذَكَّرَ فِرْجِينْيَا هَالْ الجاسوسة الأمريكية، المرأة العرجاء. تذكر طريقة مشيتها بقدمها الاصطناعية في الفيلم الأمريكي الذي يحكي قصتها خلال الحرب العالمية الثانية. تمتم بينه وبين نفسه: فرق كبير بين عَرَجِ امرأة واقعية تمشي أمام عيني وعَرَجِ امرأة اصطنعتها البروباغندا الأمريكية.
أخذ مذكرته، وكتب فيها: سَأُمضي ليلة أخرى في المأوى من أجل حضور حفلة عيد ميلاد سلوى. العَرَجُ إعاقةٌ مُضْنِيَة، فَدَاحَةٌ نفسية وجسدية ووجودية. هناك دائما طلبات لا أستطيع رفضها. لا أريد أن أغادر هذا المأوى وأنا أشعر أنني تركت أثرا حزينا في نفسية امرأة بكت وأبكت معها قلوب أشخاص عابرين في حياتها ذات جلسة ليلية في شاطىءٍ حول نار حطبية. أثناء حديثي معها في بهو المأوى قرأت في عينيها طاقة متوحشة، رغبة جنونية في أن تمشي في دروب الحياة برأس مرفوع وقدم سليمة؛ العَرَجُ الحقيقي ليس قدما ناقصة أو مشوهة أو مبتورة، العرج الحقيقي يا سلوى هو بَتْرُ الإرادة، هو موت الأمل، هو العيش جسدا بدون روح، وما أكثر هذا النوع من العَرَجِ في الخَلْقِ وعامة الناس!...
في صباح اليوم التالي، استيقظ مبكرا وخرج للجري في الشاطىء. رطوبةُ هَبَّاتِ الريحِ البحرية تنعش جسده، تؤجج طاقته، تبعث فيه إحساسا بتدفق الحياة في شرايينه. كم تبدو الحياة جميلة حين تمضي على نسق يلامس الروح! كم هي جميلة تلك الطاقة الحيوية التي تحرك كل أعضاء جسدك وأنت تنطلق راكضا بمتعة وشغف، ترسل خطواتك متتالية بخفة، وأقدامك تترك أثرها فوق الرمال. الكتابة بآثار الأقدام على رمال الشاطىء تشبه الكتابة على صفحاتِ مُذَكِّرَةٍ بقلمِ رصاصٍ تَذْرُوهُ ممحاةُ النسيان.
التقى بميشيل وهو يجري بدوره في الشاطىء الممتد. جَرَيَا جنبا لجنب لبعض الوقت ثم توقفا بجانب قارب صيد أزرق. سأله كيف حال كاترين؟ أخذ ميشيل قنينة ماء من حقيبة ظهره الجلدية. شرب جرعتين متتاليتين ثم مد القنينة له لكي يشرب، لكنه أشار بيده أنه ليس عطشانا. قال ميشيل: كاترين بخير، ما زالت نائمة...
تحدثا عن الجلسة الليلية في الشاطىء، وعن حفلة عيد الميلاد التي ستقيمها سلوى في المساء. بدا ميشيل فضوليا. يطرح السؤال تلو السؤال. أخبره أنه يفكر في الاستقرار في مدينة الصويرة كما يفعل الكثير من المتقاعدين الفرنسيين لكن كاترين تعارض. أخرج الغليون من حقيبة ظهره الجلدية، وَعَبَّ الدخان بعمق ثم نفثه وهو ينظر باتجاه الأفق حيث يعانق البحر أَدِيمَ السماء. تعجب وهو ينظر إلى ميشيل يدخن بعد حصة جري رياضية. تساءل: هل يعقل أن يخرج شخص لحصة رياضية وهو يحمل في حقيبة ظهره التبغ والولاعة والغليون؟!...
بدا ميشيل متعبا كأنه يحمل أثقالا أكبر من طاقته، أحمالا كونية. في عينيه مُسْحَةُ ذهولٍ كأنه يبحث عن نفسه في المدى الممتد امام ناظريه المجللين بِهَمٍّ خَبِيءْ. مَشَيَا بمحاذاة الشاطىء. هدير الأمواج ونعيق طيور النوارس يضفيان على المشهد حركية فيها حيوية وحياة. بعض الشبان يتصايحون وهو يلعبون كرة القدم على الرمال. صدرت عن أحدهم كلمات بذيئة تجاه أحد اللاعبين. لكن ذلك لم يؤثر على باقي اللاعبين. استمروا يلعبون كَأَنْ لم يحدث شيء.
تحدث ميشيل كأنه يحادث نفسه: لا أدري كيف أقنع كاترين بالاستقرار في الصويرة. خلال الجلسة الليلية على الشاطىء تركتني ألمس يدها وأقبل كفها. لم يحصل ذلك منذ ثلاث سنوات، منذ أن بتروا ثديها الأيمن بسبب إصابته بالسرطان. تلك الجلسة الشاطئية الليلية جددت بيني وبينها حميمية الملامسة...أنا مدين لك ولإبراهيم وحتى لسلوى التي بعثت فينا جميعا تلك النوبة من الشفقة والتعاطف. لكن بصراحة...لم أتعاطف شفقة على سلوى بقدر ما تألمت شفقة على حالي وحال كاترين. أحبها وأعلم أنها تحبني، لكن منذ أن بتروا ثديها أصبحت ترفض أن تتعرى أمامي...لا تقاسمني نفس السرير...لا تتركني ألمس يدها أو شعرها...نعيش مثل الغرباء...صامتين في أغلب الأوقات...لا أريد أن أضغط عليها...أفاجئها مرارا تبكي..ولا أستطيع إخراجها مما هي فيه...تعبتُ...حقا تعبت...
الذهول الذي اعتراه وهو يسمع ميشيل يحدثه عن كاترين كان أكبر مما يستسيغه عقله. السؤال الذي لم يستطع أن يجد جوابا عنه هو: كيف يمكن أن يحكي رجل لرجل آخر شيئا حميميا جدا يخص مأساته ومأساة زوجته؟ لم تكن بينهما علاقة صداقة قوية تبرر أن يحكي له هذا الأمر. بدا ميشيل ضعيفا يقاوم ضعفه، يتظاهر بقوة لا يملكها. بدا له أنه يرى في نظرات ميشيل بعض الندم كأنه لم يصدق أنه أفشى سرا لا ينبغي أن يطلع عليه إلا أقرب الناس.
ظل صامتا بدون تعليق. لم يجد كلاما يواسي به ميشيل. اجتاحته الشفقة على كاترين وميشيل؛ تلك الشفقة التي تتحرك في دخيلة فؤاده كلما اطلع على مأساة شخص قريب أو بعيد.
شحن ميشيل غليونه بالتبغ. نفث الدخان كأنه ينفث من دواخله مأساته التي حكاها لشخص غريب ثم قال له: آسف لأنني أخبرتك بشيء لا يهمك...وأفسدت صباحك...سأتمشى قليلا في الشاطىء...يوما سعيدا...
ظل واقفا ينظر باستغراب لميشيل وللبحر ولطيور النورس ورمل الشاطىء والقوارب الزرقاء وقبة ضريح سيدي كاوكي وكل شيء تصل إليه نظراته، وتمتم بينه وبين نفسه بتأفف وحَنَقٍ واحتقار: أقسم بالله أن هؤلاء البشر كائنات غريبة...تافهة...غبية...لا تستحق السعادة ولا الاحترام...لا تستحق العيش...تأتون إليَّ أيها الأغبياء وتحكون لي خَمَجَ مآسيكم المضحكة المبكية...ثم تمضون بعد أن تُحَمِّلُونِي همومكم...لأملأ بها مذكراتي يا حثالة البشر...
شعر أن عليه أن يقول كلاما لميشيل ولْيَحْدُثْ ما يحدث. لحق به. استوقفه وقال له بصوت فيه حَنَقٌ وحِدَّةٌ: اسمع يا ميشيل أنا لست صديقك، ولا أصادق أشخاصا عابرين في حياتي، ولا أومن بالصداقة أصلا، أنا شخص متذئب...هذه حقيقتي...لكنك وثقت بي كما يثق رجل في رجل وأخبرتني بشيء يؤلمك...أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني لكنني أتصرف في مواقف عديدة باندفاع وشراسة وشرف، ولا تهمني النتائج والتبعات...صدقني لا يهمني من أنت، ولا ما يمكن أن تقوله عني في وجهي أو خلف ظهري، لكن اسمع جيدا ما أقول لك: إن كانت زوجتك فعلا تحبك وأنت فعلا تحبها ما قيمة ثديٍ بَتَرَهُ الأطباء من صدرها لكي يطول بها العمر؟ الحب أثمن من ثَدْيٍ مَبْتُورٍ يا ميشيل...الحب أغلى من غليونك الذي تُغْرِقُ فيه أحزانك ببلاهة بحثا عن هروب...عد إلى المأوى فَشَاطِئُكَ ليس هذا الشاطىء الذي تَعْبَثُ فيه الرياح وتَنْعَقُ فيه النوارس، شاطئك الدافىء هو زوجتك والمرأة التي تحب، اِذهب إليها...خذ كاترين بين أحضانك بشغف وقوة وعنف...أخبرها أنك تحبها...أَقْسِمْ لها أنك تعشق التراب الذي تمشي عليه بقدميها...مَرِّغْ رأسك على صدرها...أَشْهِدِ الرب على أنك تراها أجمل امرأة في العالم...وأشهى أنثى في الوجود...وأُقْسِمُ لك إن كانت كاتريِن تحبك فعلا ستبكي بين أحضانك وتقول لك من أعماق قلبها: "أحبك"، وستنهاران كلاكما من الحب والبكاء. أما إن ابتعدت عنك، واختارت أن تظل بعيدة مُتَكَوِّمَةً على نفسها، وجعلت بينك وبينها مسافةَ تَبَاعُدٍ فاعلم أنها لا تحبك...لا تريد قربك...لا تدرك قيمتك...ولا تصلح لك...بل تتلاعب بك وتستغفلك...وفي هذه الحالة أنت تعلم ما يجب أن تفعله كرجل يحترم نفسه ويقدر قيمته...انتهى الكلام...
لم يقف ليقيس أثر كلامه في ميشيل. كان في حالة من ذلك الغضب الذي يعمي بصره وبصيرته. ترك ميشيل خلف ظهره. وعاد إلى المأوى. كان عليه أن يستحم ليتخلص من عَرَقِ حِصَّةِ الجري ومن فورة الغضب الذي شعر به بسبب الضعف الجبان والذليل الذي رآه في ميشيل. ثم بعد ذلك عليه أن يذهب إلى المدينة ليشتري هدية يقدمها إلى سلوى أثناء حفلة عيد ميلادها.
قضى نهاره في التسكع عبر شوارع وأزقة الصويرة. التقط الكثير من الصور بهاتفه الخاص. سجل الكثير من الأفكار والانطباعات في مسجل الصوت في هاتفه. سأل أحد الأشخاص عن مطعم معروف بتحضير أطباق السمك. دَلَّهُ على مطعم "الموجة الزرقاء". مطعم صغير ومعروف في أزقة الصويرة. أطباق سمك لذيذ وبأثمان مناسبة وتفاعلات جميلة. ديكور بسيط لكنه مريح وممتع. سقط بعض المطر. بدت أزقة مدينة الصويرة غارقة في جو شتوي كئيب. مضى باتجاه الميناء. تأمل سفن الصيد المتراصة هناك تحت المطر. رآها تتمايل فوق مياه البحر، تتهادى برفق كأنها أحلامٌ غَدَتْ فجأة متجَسِّدةً في مراكب قديمة منذورة دوما وأبدا للإبحار حتى لو كانت كلفة الإبحار الانتكاسة والغَرَق.
المدن فضاءاتُ انشراحاتٍ ومَآسٍ وأحلامٍ وحالاتٍ جنونية قصوى وحكاياتٍ غير مروية. المدن سردياتُ القادمين والراحلين، المقيمين والمنذورين دوما للتَّنَائِي والغياب. لا يجد نفسه في أي مدينة. لا تشبهه المدن ولا يشبهها. لا يشبه إلا نفسه. وتلك أصالته التي لا يريد أن يفقدها حتى لو فقد كل الناس، حتى لو تنكر له كل البشر.
عندما عاد إلى المأوى في وقت الغروب كانت الأجواء حماسية. الاستعداد للحفلة يَشِعُّ فرحةً وسعادة في عيون السي إسماعيل وزوجته وابنته. أسرة صغيرة بأبعاد إنسانية واستعراضية كبيرة. حماس وتدفق واندفاع وإقبال على الحياة. لالة خديجة تزغرد. السي إسماعيل سعيد. وفي ملامح سلوى تَوَهُّجٌ وفرحة وامتنان. مرت الأجواء بمرح. ميشيل وكاترين رَقَصَا وغَنَّيَا وتَمَنَّيَا لسلوى عيد ميلاد سعيدا ثم انسحبا لإنهاء الأمسية في أحد مطاعم المدينة. بدت عليهما ألفة لذيذة.
استمرت الحفلة إلى الحادية عشرة. سَلَّمَ الهدية إلى سلوى، تمنى لها حياة طويلة وسعيدة. أعطت له ورقة صغيرة، وقالت: ميشيل ترك لك هذه الورقة، طلب مني أن أسلِّمَها إليك.
أخذ الورقة وقرأ: قد لا تعتبرني صديقك، لكنني أعتبرك أكثر من صديق لأن بسببك استعدتُ كاترين. شكرا لك من أعماق القلب. ميشيل.
في صباح اليوم التالي بدت أشعة الشمس الباهتة لطيفة ودافئة. برودة الصبح وقطرات الندى على زجاج السيارات الواقفة أمام المأوى توحي بأن فصل الخريف وأجواء شهر أكتوبر تترك أثرها في الأشياء والناس. وضع حقائبه في السيارة. حماس التحفُّزِ لِنَهْبِ الطريق يملأ قلبه. تناول وجبة الفطور البلدي اللذيذ. آخر فطور يتناوله قبل أن يغادر المأوى. طلب من إحدى العاملات في المأوى أن تلتقط له صورة بهاتفه وهو على مائدة الفطور. ظهرت سلوى بابتسامتها الجميلة. قالت: أردت أن أتمنى لك السلامة في الطريق...نحن كذلك سنغادر غدا...سنذهب لزيارة بعض أفراد العائلة في الدار البيضاء...ثم نغادر إلى وجدة...الأوقات الجميلة تمر كأنها سحابة صيف عابرة...شكرا لأنك أَجَّلْتَ مغادرتك لتحضر عيد ميلادي...وشكرا لهديتك اللطيفة...
سألها: ما هو الشعور الذي تحسين به وأنت تودعين سنة وتستقبلين سنة آخرى؟
أجابت: مرور الزمن...
قال: أنت تراجيدية...
علقت: وأنت كذلك...كل الناس تراجيديون حتى حين تظهر البَسَمَات في وجوههم...لكن دعنا من هذا الكلام التراجيدي...أريد أن أخبرك بسر..إذا أتيتَ يوما إلى مدينة "وجدة" ستكون ضيف السي إسماعيل...سيسعده ذلك كثيرا...
قال: وأنت؟ هل سيسعدك ذلك؟
قالت بابتسامة عريضة: أنت ماكر...لن أجيب عن هذا السؤال...
ضحكا معا ضحكة تَرَدَّدَ صداها في بهو المأوى. نهض للمغادرة. رافقته بلطف. قالت له: عجيب كيف نلتقي بعض الناس لقاءً عابرًا ثم نحتفظ منهم بذكرى لقاءٍ دائم...هل سنلتقي يوما ما؟!...
نظر إليها بشفقة شديدة وقال بصوت شارد: سنلتقي جميعُنا حتما في يوم من الأيام يا سلوى...في يوم من الأيام...في السماء!...
دمعت عينا سلوى، فدمع قلبه من الشفقة على امرأة غريبة عنه، ولا يملك لها أي شيء، ولا يريد أن يجعلها متعلقة بأمل زائف. ركب سيارته. شَغَّلَ على هاتفه سيمفونية الخريف. يسميها سيمفونية الطريق. ترافقه في كل رحلة أو سفر. لا يمل من سماعها. يعيدها ويستعيدها بدون كلل أو ملل. شيء ما غريب وعجيب يشده إلى هذه الموسيقى الحالمة. وأشياء أخرى كثيرة تشده إلى حكايات ومَرْوِيَاتٍ وأحلامٍ ورؤًى وأسفارٍ في مسالك الدنيا وفَيَافِي الروح وأَدْغَالِ الوجدان...
ضَغَطَ بُوقَ السيارة. إشارة وداع لسلوى وللمأوى ولشاطىء سيدي كاوكي وللأيام القليلة التي أمضاها بعيدا عن مدينته، ثم تحرك بعيدا. وخلفه ظلت سلوى مستندة على عكازها بيدها اليمنى، وبيدها اليسرى تلوح له تلويحات متقطعة. بدا المأوى وهو يتباعد تحت سماء أكتوبر الغائمة مجرد ذكرى وقت جميل واندهاشات مثيرة وشخصيات عابرة. الحياة حقا محطات...
الطريق يتطاول. وأيام الاستجمام في شاطىء سيدي كاوكي تتحول إلى ذكرى. وكلام سلوى يتصادى في أذنيه كأنه حكمة أزلية بدون قيمة ولا معنى: "عجيب كيف نلتقي بعض الناس لقاءً عابرًا ثم نحتفظ منهم بذكرى لقاءٍ دائم!"....
حينما دخل إلى العمارة التي يسكن فيها بعد طريق مٌتْعِبٍ وطويل، استعاد قطته "بِيلاَّ" من زوجة حارس العمارة. احتضن القطة بشوق شديد. لم يكن بإمكانه أخذها معه أثناء السفر. تَمَسَّحَتْ بقدميه وهي تموء. تبعته إلى المصعد وهي تتقافز بسعادة. حين دخل إلى شقته صاح تلك الصيحة الغجرية التي تصدر عنه كلما عاد إلى شقته بعد رحلة طويلة أو قصيرة؛ صيحة الفرح بالعودة إلى عالمه الخاص، مملكته التي تعرفه ويعرفها. طقوسه الجنونية حين يكون وحيدا أو برفقة من يحب أو وسط عائلته جزء من أسلوب حياته وطريقته الطفولية والعبثية في التعبير عن سعادته واندفاعاته غير المتوقعة. أطعم القطة ولاعبها قليلا ثم استحم بانتشاء. سقى نبات الشرفة. أفرغ حقيبة سفره. أخذ مذكرته وكتب: "العودة إلى المسكن سكينة. كل رحلة غنيمة. كل حكايةٍ صفحةٌ في كتاب. كل كتابٍ فضاءُ تفاعلٍ واستكشاف وقراءة. وكل قراءةٍ اندهاشٌ أمام ما يعتمل في الحياة والناس من ألفة وغرابة. السفر الحقيقي ليس ما ينقلك من مكان إلى مكان بل ما ينقلك من وعي إلى وعي، من حكمة إلى حكمة، من بصر إلى بصيرة، من اكتشاف إلى استكشاف، من شك إلى يقين، من قوة إلى بطولة، من تعارف إلى تَعَرُّف، من تعلق إلى مغادرة، من أشخاص عَرَفْتَهُمْ إلى شخص قريب منك لكنك قد لا تعرفه؛ ذلك الشخص هو أنت!...".
أخذ من درج مكتبه كيسا من بين حزمة الأكياس الصغيرة، وضع فيه حفنة صغيرة من الرمل الذي جاء به من شاطىء سيدي كاوكي، وسبع صدفات، وسبعة أحجار ملساء في شكل قلوب بِعَدِدِ أفراد الشلة، وقطعة صغيرة من حطبٍ مُتَفَحِّمٍ أخذه من حطب الجلسة الشاطئية، وورقة صغيرة كتب عليها: "شهر أكتوبر 2023. شاطىء سيدي كاوكي. السي إسماعيل ولالة خديجة وسلوى وميشيل وكاترين وإبراهيم. وذكرى جلسة شاطئية ليلية".
ثم وضع الكيس بعناية بجانب الأكياس الأخرى في المستطيل الزجاجي. تأمل الأكياس كأنه يتأمل مشاهد كل الشواطىء التي زارها والتقى فيها بعض الناس أو التقى فيها نفسه، وتمتم بصوت هامس: نحن لا نأتي إلى الدنيا لننتقل من لقاء إلى لقاء بل لننتقل من وداع إلى وداع، من نهاية إلى نهاية، من تذكر إلى نسيان، ومن إقامة إلى رحيل؛ تلك حقيقة المسار وتراجيديا المسير!...ما الذي يبقى من الأشياء في القلب والذاكرة؟ وما الذي يبقى من الذاكرة حين نختار البعد والنسيان والمغادرة؟!...تَبْقَى بعض الأكياس في مستطيل زجاجي بمحاذاة شرفة شرقية تلامسها كل صباح أشعة الشمس أو تهب عليها نَسَمَاتٌ ليلية...
ابتسم تلك الابتسامة الغامضة التي تتدلى من شفتيه كلما كشف أو اكتشف سرا من أسرار الحياة أو الطبيعة الإنسانية...أشعل بعض الشموع ثم جلس في شرفة غرفة النوم بسكينة غامرة، يتأمل حلول ظلام ليل أكتوبر وهو يرتشف باستمتاعٍ حليبًا ساخنا مُنَسَّمًا بعشبةِ إكليل الجبل على إيقاع موسيقى هادئة...ومواء قطته "بِيلاَّ" يصدح بشكل متقطع...وسكينة روحية لا مثيل لها تملأ قلبه...ومن مخزون الذاكرة تنبعث مشاهد رقصة هستيرية ذاتَ جلسةٍ ليلية في شاطىء سيدي كاوكي...وأشباح أشخاص عابرين...ورؤى متباعدة...وأسفارٌ في المدى، وأخرى في تضاريس الروح...وصفحة انتهت بدون رجوع، وصفحات جديدة تنتظره في منعطفات العمر، تستفز فيه كل ما في حوزته من اندفاع وجنون...تُضْرِمُ فيه عشق الحياة، تهمس له أن كل الإشارات رسائل إلهية، كل التلميحات إفصاح، كل النظرات الصريحة أو الخفية مراودة. كل الأسرار فخاخ، لأن الأسرار ليس ما يخفيه الناس بل ما تفضحه الكلمات والنظرات والبلاغات الصامتة. الحب ليس خفقة القلب، الحب ارتعاشة الروح.