الاثنين ٢٠ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم ممدوح طه

الخبز والعدل والحرية

يختلف الناس ، خصوصا النخب المثقفة أو السياسية ، على أشياء كثيرة .. على حقائق الأشياء ، و على مسميات الأشياء، وعلى ضرورات الأشياء ،وأخيرا على أولويات الأشياء .

والاختلاف الموضوعى أمر طبيعى ، بل وضرورى لإثراء الحياة الإنسانية بشرط الحوار ، على العكس من الخلاف المتشنج الذى يباعد بين المواقف الفكرية ولايؤدى إلاإلى الشجار .

من هنا يبدو من المفروض أن نختلف ونتحاور ، ومن المرفوض أن نتخالف ونتشاجر.

فعندما يقول أنصار الحرية الاقتصادية إنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان " فىدعوتهم للديمقراطية السياسية ..فهذا بلا شك قول صحيح .

لكن الصحيح أيضا هو قول أنصار العدالة الاقتصادية إنه " بغير الخبز لايمكن أن يعيش الإنسان" فى دعوتهم للديمقراطية الاجتماعية .

وإذا كان صحيحا أن الفارق كبير بين أن نحيابكل معنى للحياة ، وبين أن نعيش حين يصبح العيش مجرد بقاء على قيد الحياة .. فكيف يمكن أن نتوقع ممن لايستطيع تأمين رغيف الخبز أن يشعر بأى معنى للحياة ؟!

إن المسألةتبدو فىغاية الوضوح حين نتساءل أيضا ، هل يمكن أن يحيا الإنسان إذا كان غير قادر على العيش؟ ..و هل يمكن أن يعيش دون خبز ، و أن يحيا دون حرية ؟

وهنا يمكن لنا ،كل من واقعه المادى وموقعه الفكرى، تحديد زاوية رؤيته وبالتالى طرح وجهة نظره ، والتى لاتكون فى الغالب إلا انعكاسا لضلع من أضلاع الإطار الأربعة لصورة واقعه وموقعه ..فإما أن تكون صدى لمبادئه ولمصالحه معا ، أو لمصالحه على حساب مبادئه ، أو لمبادئه على حساب مصالحه ، لكنه لايمكن لأحد عاقل أن يستند على الضلع الرابع ليتخذ موقفه الفكرى أو السياسى على حساب مبادئه ومصالحه معا .

فالجائع ، الذى لن يأكل حرية بطبيعة الحال ، لن يكون بمقدوره تحت ضغط واقع الشقاء المادى إلاأن يكون فى الموقع الفكرى الذى يقول إن " الخبز قبل الحرية " وإن"حرية تأمين العيش هى قبل

حرية تحقيق الحياة" وبالتالى يتوق إلى "العدالة فى توزيع الثرو ة " ..غيرأن هذا هو الوجه الأول من الصورة .

بينما فى جانبها الآخر، فإن الذى لم يشعر بالجوع أومن لاتؤرقه هموم الفقراء لن يكون بمقدوره فى الغالب إلاالإنطلاق من الموقع الفكرى الذى يقول " الحرية قبل الخبز أحيانا " و" لاقيمة للعيش دون معنى للحياة " لأن الأحرار وحدهم هم القادرون على توفير خبزهم ،ولأن العبيد ليسوا قادرين لاعلى تحقيق حياتهم ،ولا حتى على مجرد تأمين عيشهم .

والحقيقة أن الأول ينطلق من مصالحه الأساسية التى تتوافق مع غريزة البقاء الإنسانى ، وهى بالمناسبة العامل الأساسى فى صنع الحضارات ،إذا كان تعريفنا للحضارة هو أنها " النتاج الطبيعى لصراع الإنسان مع محيطه المادى " ..أوبتعبير آخر أنها " النتاج المادى لصراع الإنسان مع بيئته سعيا من أجل البقاء " .

والثانى إنما ينطلق من مصالحه الإضافية الطامحة إلى المزيد من الثروة بالحرية الاقتصادية ، والمتطلعة للمشاركة فى السلطة بالحرية السياسية حماية لهذه الثروة وحريته فى تنميتها ، وبالتالى تتقدم لديه أولوية "الحرية" على أولوية "الخبز"عند المحرومين بغض عن النظر عن أولوية " العدالة" فى العلاقة بين الطرفين .

من هنا تختلف المواقف الفكرية تبعا لاختلاف المواقع الطبقية بين شرائح المجتمع الواحد ، فى حين أن مفهوم العدالة لو تقدم كأولوية أولى بمعناه الشامل الاقتصادى والاجتماعى والسياسى والنابع من المرجعيات السماوية والذى ينفى الفقر بصورة مطلقة حيث لايجب أن يكون هناك فقير واحد فى المجتمع الإسلامى لتحقق ت على أرض الواقع مطالب العدل والخبز والحرية .

فحين تطبق القاعدة القائلة " أموال الأغنياء تسع الفقراء" و القاعدة التى تقول " الناس شركاء فى ثلاث ،الماء والنار والكلأ " أى المياه مصدر الحياة ، والطاقة مصدر الحركة ، والأرض مصدر خلق الإنسان وعيش الإنسان ، وعليها يبنى الناس قصورهم وفى جوفها يبنون أيضا قبورهم ، عند ئذ تتحقق العدالة الاقتصادية عندما يكون لكل مواطن الحق فى المشاركة بنصيب عادل من الثروة الوطنية.

وحينما تطبق بعدذلك القاعدة القائلة " وشاورهم فى الأمر" حينها يكون الناس قد تأمنت لهم حرية الحصول على رغيف الخبز، ومن ثم يمكن لهم ضمان حرية الرأى و حرية الاختيار عند الانتخاب، دون خوف من الجوع أوخوف من القهر ،لأن فعل الأمر "شاور" موجه للسلطة التى تملك أدوات القهر وتملك وسائل العدل ، عندئذ تتحقق العدالة السياسية، عندما يكون لكل مواطن الحق فى المشاركة بنصيب عادل فى القرار الوطني.

وبالرغم من أن الاختلاف على حقائق الأشياء ماهو إلا خلاف على رؤيتنا لظواهر هذه الحقائق التى تعكس بالتالى آرائنا فيها ، هذه الرؤية وهذه الآراء التى هى بالطبيعة نتاج الواقع الاقتصادى والموقع الاجتماعى وبالتالى الموقف الفكرى ، الذى بدوره يرتب أولوياته طبقا لمصالحه وطبقا لمبادئه ..لكن تبقى المبادىء قبل المصالح وتبقى العدالة فى الحقوق و الحريات هى المقدمة الأولى لكل حقوق الإنسان وعلى رأسها الكرامة الإنسانية التى لابمكن أن تتحقق بغير العدل و الخبز والحرية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى