الاثنين ١١ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

«الخروج من الجنة» في الشعر الأندلسي

الخروج من الجنة، عبارة طالما ترددت على ألسنة شعراء الأندلس، وهم يقصدون بالخروج: إخراج سكان البلاد الأصليين(الأسبان) للمسلمين من الأندلس"الجنة" التي هي عندهم قطعة من جنة الله في أرضة.

فمن المعلوم لدى المسلين بعامة أن"جنة الخلد" هي دار النعيم التي أعدها الله لعباده المؤمنين والمتقين والأبرار جزاء إيمانهم الصادق وعملهم الصالح في الدنيا، وقد رغب الله فيها وحث المؤمنين على العمل من أجلها قال تعالى: وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (الزخرف72)، وقوله تعالى: قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (سورة الفرقان15).

وقد رغّب المصطفى عليه -الصلاة والسلام-"جنة الخلد" إلى المسلمين، وبيّن لهم أنها فوق ما قرأوا أو سمعوا وفوق ما يخطر ببالهم، فقد روى البخاري أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-قال: "قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

أما شعراء الأندلس، فقد كانت بلادهم الأندلس لديهم هي "قطعة من الجنة"؛ لما حباها الله من طبيعة ساحرة، وجمال خلاب، ومناظر فاتنة خلابة وقعت عليها عيونهم، فكانت مجالاً خصباً لفنهم.

لقد شغلت طبيعة الأندلس الشعراء الأندلسيين، فأقبلوا عليها وهاموا بها. وفتنوا بطبيعتها فتنة لا يعادلها إلا اعتزازهم بشعرهم، ذكروا الأندلس ومحاسنها،ووصفوا الربيع ومقدمه، والأنهار والأشجار والرياض والأزهار، وتحدثوا عن ورودها وأشجارها، وما يتصل بها من غدران وأنهار، وتحدثوا عن ومحاسنها والربيع وبشره، فتن الشعراء بجمال بلادهم، ومحاسن، طبيعتها، وأكثروا من التغني بمناظرها الفاتنة، وعبروا عن مدى هيامهم بها، حتى ادّعى الشاعر ابن خفاجة أنها الجنة، منْ دخلها، فقد حُرمت عليه النار،إذ يقول:

يا أهــل أندلس - لله دركمُ -
ماءٌ و ظلٌّ و أشجارٌ و أنهارُ
ما جنــة الخلد إلا في دياركمُ
ولو تخيرتُ هذا كنت أختارُ
لا تتقوا بعدها أن تدخلوا سقراً
فليس تُدخل بعد الجنة النارُ

تعبر هذه الأبيات عن التصاق الشاعر ببلاده وبفضلها على سائر البلاد وهذا ثمرة طبيعية للشعور الوطني في نفوس الأندلسيين، وانعكاسا لنزعة أندلسية قوية تأصلت في نفوس الشعراء، وتجلت في شعرهم بشكل واضح.

وربما كانت صرخة ابن خفاجة أصدق تعبير عن هيام الأندلسيين ببقعة لا يعدلون بها جنّة الخلد، ويكرر المعنى نفسه في أبيات أخرى له فيقول:

إنّ للجَنّــــــة ِ في الأندَلسِ،
مجتــلى حسنٍ وريّـا نفسِ
فسنا صبــــحتها من شيبِ
ودُجى ظلمتـــها من لعسِ
فإذا ما هبّتِ الريحُ صبــــــــاً
صحتُ: واشوقي إلى الأندلسِ

وقد أفاض شعراء الأندلس في وصف جمال طبيعة بلادهم فوصفوا مغانيها، ورصدوا مدى انفعالهم بمجاليها، وما كان للجمال فيها من مظاهر وألوان، يقول الشاعر ابن سفر.

فــي أرض أندلس تـلتذ نـعماء
ولا يـفـارق فـيها الـقلب سـراء
أنهارها فـضةٌ والـمسك تـربتها
والـخز روضـتها ، والـدر حصباء
ولـلـهواء بـها لـطف يـرق بـ
مـن لا يـرق وتـبدو مـنه أهواء
لـيس الـنسيم الذي يهفو بها سحرا
ولا انـتـشار لآلـي الـطل أنـداء ُ
وإنما ارج الـنـد اسـتثار بـها
فـي مـاء ورد فـطابت منه أرجاء
وأيـن يـبلغ مـنها مـا أصنفه؟
وكـيف يحوي الذي حازته إحصاء؟
قد مُيزت من جهات الأرض حين بدت
فـريـدةً وتـولـى مـيزها الـماءُ
دارت عـليها نـطاقاً أبـحر خـفقت
وجـداً بـها إذ تـبدت وهي حسناء
لـذاك يـبسم فـيها الزهر من طربٍ
والـطير يـشدو ولـلأغصان إصغاءُ
فـيها خـلعت عذارى ما بها عوضٌ
فـهي الرياض وكل الأرض صحراء

تشي هذه المقطوعة الشعرية بشدة إعجاب الشاعر بمواطن الفتنة في بلاده ، فليس في سواها منتفع للعيش.

بيد أن صورة الأندلس في مخيلة الشعراء بكونها "قطعة من الجنة"، لم تدم طويلاً، فقد تغيرت، ولم تعد تحمل تلك الصفة، ومرد ذلك إلى تغير الأحوال والظروف، فقد ابتليت الأندلس بالمعتدين الأسبان، فأخذت إماراتها تتردى،ودولها تنهار، ومدنها تتساقط الواحدة تلو الأخرى في يد الأعداء، والذين دمروا جمالها وحسنها، وأذلوا أهلها وطردوهم من وطنهم، فأصبحوا مشردين مشتتين داخل الأندلس وخارجها. فلم تعد الأندلس جنة خلد ، وإنما عادت خراباً وأرضاً محتلة، وأصبح أهلها سبايا.

وقد تضافرت جملة من الأسباب التي أدت إلى إخراج الأندلسيين من جنتهم منها ما هو سياسي واجتماعي وديني، إذ عزا بعض شعراء الأندلس سقوط المدن والممالك، و"خروج أهلها من جنتهم" إلى سبب ديني يتمثل في أن مأساة الأندلس وانتثار عقدها، يعد عقاباً سماوياً لأناس ضعفت عقيدتهم، وانحرفوا عن المنهج، وأسرفوا على أنفسهم في حياة الترف واللهو، وقد تفشت في حياتهم المعاصي والموبقات، وعصوا أوامر الله، وتهاونوا في أداء الواجبات الدينية. فالشاعر موسى بن هارون يسرد أسباب السقوط التي أخرجت الأندلسيين من جنته الضائعة؛ لتضييعهم حقوق الله، وعصيانهم أوامره، إذ يقول:

يَا جَنةً زَحْزَحَتْنَا عنْ زَخَـارِفِهَا
ذُنُوبُنَا، فَلَزِمْنَا الْبَثَّ والنـَّدَمَا

وظلت فكرة المقارنة بين إخراج الأندلسيين من مدنهم وإخراج آدم ـ عليه السلام ـ من الجنة تتردد عند غير شاعر من شعراء الأندلس، فالشاعر أبو المطرف بن عميرة يرى أن هذا الإخراج لم يكن سوى عقاب من الله، لما ارتكب في حقه من ذنوب ومعاصٍ:

أَمِـِنْ بَعْد رُزْءٍ في بلْنــــــــــسية ثَوَى
بأحنائِنا كالنَّــــارِ مُضْمَرَة الوقْـــــــدِ؟
يُرجّى أناسٌ جنـــــــــــــةً مِنْ مصائبٍ
تُطَاعنُ فِيــــــهم بالمُثــــــــــقّفَةِ المُلِْدِ
ألا ليْـــــــــــتَ شعري، هلْ مِنْ مطالع
معاد إلى ما كانَ فيـــها من السَّــــعْدِ؟
وَهَلْ أذنبّ الأبناء ذنبَ أبيـــــــــــــهم
فَصَاروا إلى الإخْرَاجِ من جنَّـةِ الخُلْدِ؟

تفيض هذه الأبيات بالعاطفة الإنسانية والوطنية، وتزخر بحزن الشاعر وأساه على ضياع بلده/ جنته، بعد استغلاب الأعداء المحتلين على مدنها، وطرد أهلها منها عنوة، وإلحاح الشاعر على استخدام أسلوب الاستفهام في موقف الدهشة والاستنكار والاستغراب ليعكس توتر الشاعر وحيرته وقلقه واضطرابه، ويجسد ما يعتصر قلبه من مشاعر مشحونة بالألم والحسرة والتفجع.

وفي البيت الأخير إشارة موحية إلى قصة سيدنا آدم ـ عليه السلام ـ وإخراجه من الجنة، وقد أفاد الشاعر من الطاقة الدلالية والإيحائية للسياق القرآني الذي وردت فيه الآية القرآنية، إذ يقول تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ...(البقرة: 36).

وهذا الاستدعاء مبني على سبيل المقارنة، فإخراج الأندلسيين من مدنهم على يد الأعداء المحتلين يماثل إخراج آدم ـ عليه السلام ـ من الجنة، فكلاهما أخرج من الجنة بسب معصية أوامر الله، وتعاليمه، ويأتي التناص مع القصة الدينية؛ ليجسد حالة الحزن والأسى والتفجع التي يعانيها الإنسان الأندلسي بعد ضياع مدنه، واستغلاب الأعداء الأسبان عليها، وهو استدعاء يتعالق تعالقاً مباشراً بطبيعة الموقف الذي تبناه الشاعر، وينبع من رؤية مشابهة تلتقي مع رؤيته، وقد جاء التناص الديني منسجماً مع السياق الشعري من جهة، ومع لغته من جهة أخرى.

فبعد أن كانت المدن الأندلسية موطناً للحسن تجري من تحتها الأنهار،ويوم أن كانت الجنة موطن الإسلام والمسلمين، تشرق بالهداية والخير والسلام، أصبحت تلك الجنة مثوى للكفار يضربون بكفرهم في أنحائها، وغدا نهارها مظلماً بالضلال، يقول الشاعر أبو المطرف:

أمَّا بلنسية فمَثْــــــــــــوَى كافرٍ
حفّت بها في عُقْرها كفارهْ
زَرْعٌ منَ المَكْروهِ حلَّ حصادُهُ
بيد العدو غداةَ لجَّ حصـارهْ
وعزيمةٌ للشّرك جعْجع بالهدى
أنصارُها إذ خانه أنصــــــــارهْ
ما كان ذاك المصر إلا جنَّـــــة
للحُسْنِ تجري تحتـَها أنهارهْ
قد كان يشرقُ بالهدايــة ليلُه
فالآنَ أظلمَ بالضلالِ نهارهْ
ودجا به ليلُ الخطوبِ فصبحُهُ
أعيا على أبصـارِنا إبصارهْ

قابل الشاعر بين صورة بلنسية الحزينة في ظل الاحتلال وصورة بلنسية حين كانت جنة للحسن، وقد استثمر عناصر الطبيعة؛ لإبراز أطراف هذه المقارنة، وتعد المقارنة بين الماضي والحاضر أو بين الجمال والقبح عنصراً أساسيا ومكوناً جوهرياً من مكونات صورة المدينة في ظل الاحتلال.

ومن هذا النمط ما تناوله الشاعر إبراهيم بن فرقدالذي عبر عن حزنه وأساه لما حاق بالإسلام في المدينة الأندلسية بعامة من تدمير وتخريب:

وكانتْ رِباطاً لأهلِ التـُّــقى
فعَادَتْ مَنَـاطاً لأهلِ الْوَثنْ
وكانتْ معاذاً لأهل التــُّـقى
فَعَادَتْ مَلاذاً لمَنْ لم يـدِن
ْ
وكانتْ شجىً في حُلوقِ الْعِدَى
فَأَضْحَى لهُمْ مَا لَها مُحْتَجَنْ

يصدر الشاعر في هذه الأبيات عن عاطفة صادقة وشعور وطني عميق، إذ يجد القارئ فيها صـورة الوطن الأم أو الجزيرة بمعناها العام، "يبدو فيها الشاعر في صورة العاشق الذي فقد حبيبته إلى غير رجعة، وذلك أن الشاعر كان شاهد عيان يرصد ما يجري أمامه بدقة، ويصف مدينته وصفاً صادقاً يمتزج بالحسرة والألم على ضياعها".

ولم يقف الأمر عند هؤلاء الشعراء، فقد عبر الشاعر ابن حمديس عن الفكرة نفسها عندما طُرد من جنته "صقلية" "ابنة الأندلس"على يد الأعداء النومنديين، فأخذ ما أصاب بلاده بعد اغتصاب أرضه، إذ هوى وطنه بين ليلة وضحاها، وتفرق الناس في كل مكان، وأصبح مأواهم العراء والخيام البالية، ومرت السنوات وتلتها الأعوام وهم في الغربة، والوطن ينتظر الغياب ولكن لا حياة لمن تنادي، فأصبحوا ذكرى تمر في البال كلما ذرفت العين مدامعها. يقول:

ذكرتُ صقليــــــة والأسى
يهيجُ للنـــفس تذكارهــــا
ومنزلة للصبــــــا قد خلت
وكان بنو اللهو عُمارها
فإن كنتُ أُخْرِجتُ من جنة
فإني أحدّثُ أخب،،ارها

لقد أُخرج الشاعر مثل آدم ـ عليه السلام ـ من تلك الجنة، ولم يبق لديه إلا أن يحدث أخبارها، ومن هنا يتبين للمتلقي أنه لن يشعر أحد بما يعانيه شعراء الأندلس من فقد بلادهم "فردوسهم المفقود".

فما أشبه الليلة بالبارحة! ففلسطين الجريحة هي صورة أخرى من "جنة الخلد" التي افتقدها أبناؤها، وعاش شعراؤها يعانون الغربة والحنين بعد نكبتهم، بعيدين عن أهلهم ووطنهم المغتصب الجريح .


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى