الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم نيكتا صميمي

الرمز والقناع في الشعرالعربی الحدیث

 نیکتا صمیمی: ماجستیر فی الغة العربیة وآدابها بجامعة آزاد الإسلامیة فی کرج

الملخّص

لاشک أن الشعر العربي الحدیث قد تخلی عن الصباغ الأدبیة کالکلاسیکیة والرومانسیة والواقعیة ، ولکن للرمزیة صبغة واضحة بحیث النظریة الرمزیة تعتبر الفکرة المجردة والعناصر الفنیة المتفاعلة معها وجهین لعملة واحدة ،ولذلک فإن إدراک الفکرة لایتم إلا من خلال الصور الشعریة والتشبیهات والاستعارات والقناعات والمفارقات، أی من خلال کل العناصر المبدعة للرموزالتی تتشکل من مظاهر الطبیعة وظواهر المجتمع وغیرها من المکونات المادیة الملموسة والتی یستوعبها القارئ أولا من خلال حواسه الخمس. حینما یستخدم الشاعر العربي الرمز لایستخدمه بمفهومه المذهبی ،بل یستخدمه في الأساس کمحاولة لاقتناص حقائق ومعان لا یستطیع التعبیر المباشر اللحاق بها لابتعاده عن السطحیة.
الکلمات الدلیلیة: الرمز- القناع- بدر شاکر السیاب – نازک الملائکة.

المقدمة

إن القناع یقوم علی علاقة جدلیة تفاعلیة بین الإخفاء والإظهار وهومن المضامین الرمزیة . لقد استخدم القناع في المسرح عند الإغریق لیتیح للمثل تقمص بعض الشخصیات التی ینبغي له القیام بأدوارها ،وبخاصة إذا تعلق بشخصیة أسطوریة خیالیة من شخوص الآلهة ،وأیضا استخدم لأغراض أخری حمل بعضها المبادئ الأولیة للإیحاء والرمز. القناع مصطلح مسرحی أساسا لم یدخل عالم الشعر إلا مع بدایات هذا القرن، ثم انتقل إلی الشعر الحدیث لیعبر عن لون متقدم من التوظیف الشعری للرموز والشخصیات . ومن مبدعی هذا المصطلح: عبد الوهاب البیاتی ، بدر شاکر السیاب ،ونازک الملائکة .

مفهوم القناع وماهیته:

تشیر کلمة القناع في اللغة العربیة إلی معان متعددة في دلالات متفاوتة نسبیا ً.فقد تدل علی ما یستعمل لتغطیة ا لوجه أوکلیهما کالمقنعة والقناع وهو« ما تغطی به المرأةرأسها .....وفي حدیث عمر أنه رأی جاریة علیها قناع، فضربها بالدرة)». [1]. « وفي الحدیث أتاه رجل مقنع بالحدید أی مغطی بالسلاح وعلی رأسه خوذة .وفي الحدیث أیضاً:أنه زار قبر أمه في ألف فارس مغطی بالسلاح ». [2]یرد المعنی العام لهذه الکلمة إلی منبعه الأصلي الذی وظف فیه في أثناء الطقوس السحریة البدائیة لتحقیق حالة التقمص ، بما یمکن عدة عملیة إزاحة وإحلال بین الشخصیة والممثل الذی یقوم بدورها . کما استخدم القناع بهذا المعنی في الأعمال المسرحیة الیونایة ،لأنه مصطلح مسرحي أساسا . ثم د خل الشعر لیؤدی وظیفة جدیدة تختلف نسبیاً عن الوظیفة التی کان یؤدیها في المجال المسرحي والطقوس البداعیة ،وهنا یخلق الشعر القناعی « لأن الشاعر في قصیدة القناع یستطیع أن یقول کل شیء دون اَن یعتمد علی شخصیته الذاتیة بشکل مباشر.». [3] یتکلم الشاعر بلسان الشخصیة التی یقصدها کما یقول إحسان عباس: هو« شخصیة تاریخیة في الغا لب یختبیء الشاعر وراءها ،لیعبر عن موقف یریده» . [4].

أنواع القناع:

ینقسم القناع إلی قسمین: القناع البسیط والقناع المرکب . وأ ما القناع البسیط فیعتمد المبدع في هذا ا لنمط علی شخصیة واحدة مفردة، یسقط علیها تجربته المعاصرة بکل همومها وهواجسها ، إن القناع البسیط یفسح المجال أمام الشخصیة ویمهد السبیل لبروز سماتها وخصائصها بامتداد القصیدة .« فالشاعر حاضر من القناع، لأنه ینجز لعبة سینمائیة أ وحیلة صوریة». [5] . تعد قصیدتا "المسیح بعد الصلب وتموز جیکور" لبدر شاکر السیاب من النماذج الصالحة للتدلیل علی هذا النمط من أنماط القناع.
القناع المرکب:

یستفید الشاعر في هذا النمط من الشخصیات المتعددة ویتداخل أسلوبا الخطاب الروائی في أشعاره أی "العرض والسرد".یمکن تلمس البنیة القصصیة في بعض القصائد الناهضة علی وراء القناع والقصائد المعتمدة علی أسلوب السرد وأسالیبه، تعد قصیدة "سفر أیوب" لبدر شاکر السیاب من النماذج الخاصة لاستخدام القناع المرکب أوتقیة القناع.
وأیضاً في هذا النمط یغلف المبدع فیه الشخصیة أوالرمز الأساسی بأغفلة إضافیة عن طریق دمجه في شخصیات ورموز أخری یقیم بواسطتها عقداً فرعیة تصب جمیعاً في العقدة الرئیسیة للنص أوالشعر . وأما من الأسباب التی دفعت الشعراء المحدثین إلی التقنع في شعرهم فهی:

1-بعد اَن تجاوزت حرکة الحداثة خلافات النقاد والمبدعین حول التراث والموقف منه، وأهمیة ذلک في الشعر الحدیث فقد کانت عودته- أی الشاعر الحدیث- إلی تراثه العربي والإسلامی والإنسانی بعامة ،عودة فنیة لا تقوم علی المتابعة والتقلید ولاتدعوإلی المقاطعة والإهمال وإنما تسلتهم ذلک التراث في نتاجات أدبیة ممیزة تجمع بین الذاتیة والموضوعیة وبین المعاصرة والأصالة تمد أواصر الماضي في الحاضر وتوجهها نحوالمستقبل .

2-والثاني هوشعور الشاعربأن لغةالمعاجم والفقها ء بجمودها وحرفیتها لم تعد قادرة علی الإیفاء بمتطلبات تجاربه الحدیثة المعقدة المتداخلة، فلم یعد أمامه من سبیل غیر التجریب والتجدید ،لیطور وسائله وأدواته التعبیریة أویصمت نهائیاً وکان الأمر لا یعینه.
القناع عند بدرشاکر السیاب:

تعد قصیدة "المسیح بعد الصلب" لبدر شاکر السیاب من أنماط القناع ، فهی من أوائل القصائد المؤسسة علی تقنیة القناع.في هذه القصیدة یستدعی السیاب شخصیة السید المسیح علیه السلام ویوظف حادثة صلبه وهی قناع خاص یستخدمه بدر شاکر السیاب بقدرة مخیّلته الشعریة لإیجاد الصورة الجدیدة للمسیح. حینما یقول:

«بعدما أنزلوني، سمعت الریاح
في نواح طویل تسف النخیل
والخطی وهوتنأی ،إذن فالجراح
والصلیب الذي سمروني علیه طوال الأصیل
لم تمتني وأنصت کان العویل
یعبر السهل بیني وبین المدینة »

 [6]

حینما یصف بدر الصور التی تتعلق بالعذاب والصلب وشدة المعاناة ویتخذ السید المسیح رمزاً وقناعاً عما لحقه هومن أذی وآلام وعذاب بالأمل الکبیر الذي ظل یحمله حتی آخر حیاته کأن المسیح یتکلم عن آلامه . عندئذ فجأة یحس القارئ المسیح یتکلم عن لسان الشاعر،بدر شاکر السیاب، أوحینما یتکلم بدر عن جیکور، القریة الریفیة التی ولد فیها ، یحس القارئ بنوع من عمق الترابط بین السیاب وقریته قد صار جزءاً منه أوهوجزء اً منها:

«آه جیکور ، جیکور ......
ما للضحی کالأصیل
یسحب النور مثل الجناح الکلیل؟
ما لأ کواخک المقفرات الکئیبة
یحبس الظل فیها نحیبه
أین أین الصبایا یوسوسن بین النخیل
عن هوی کالتماع النجوم الغریبة .......»

 [7]

ثم یواصل کلامه ویقول:

(( یلمس الد فء قلبي فیجري دمي في ثراها))
 [8]

یصل هنا إلی حالة من التوحد والاندماج من قریته جیکور ، تشبه حالات التوحید عن الصوفیة نحوالحلولیة التی یحسها بدر مع تموز حین یقول:

(( قلبي الشمس إذ تنبض الشمس نوراً ،
قلبي الأرض ،تنبض قمحاً، وزهراً ، وماءً نمیرا
قلبي الماء ، قلبي هوالسنبل ))

 [9]

«إذاً تتجاذب هذه الأسطر بین السیاب والمسیح وتتغلف بملامح الأ سطورة التموزیة ، غیرأن السطر الذی یلیها یحدد وجهة التوظیف، موته البعث یحیا بمن یأ کل ، فمن المعروف أن السید المسیح قدم حیاته ثمناً لعهد جدید وأکد ذلک قولاً وفعلاً في عشائه الأخیرة ،.إنه قدم الخبز لاتباعه علی أنه جسده والخمر علی أنه دمه » . [10]. تلک المیزات التی نراه في قصائد بدر شاکر السیاب ، تتکلم عن القناع السیابي. قناع السیاب في هذه الأبیات هوالقناع البسیط لأنه یضع المتلقی في نوع من الالتباس ، لکنه لیس في تحدید الشخصیة التی تتمحور حولها القصیدة وتنطق بلسانها ،وإنما في العالم الذی تقدمه القصیدة. والزمن الذی تعیش الشخصیة کأن المسیح یتکلم ، وکأنه في عالمنا الحاضر . أوحینما یتکلم بدر عن أیوب، الشخصیة المقدسة وهورمز للصبر ، یتخذه رمزاً وقناعاً ویسقط علیه معاناة المعاصرة حیث یقول:

«یارب أرجع علی أیوب ما کانا:
جیکور والشمس والأطفال راکضةً بین النخیلات
وزوجه تتمرّی وهی تبتسم
اوترقب البابَ ، تعدوکلّما قُرعا:
لعله رجعا
مشاءةً دون عکّاز به الَقدمُ »

 [11]
لأن الشاعر یشعر بنوع من التطابق بین مشاعره وآلامه وآلام أیوب ، علیه السلام ، إنه قد جمع بینهما وقدحاول الاستفادة مما تملک تلک الشخصیة من قیم المصابرة والاحتساب في تحمل الأوجاع والبلوی.

القناع عند نازک الملائکة:

حینما یخلق الشاعر القناع أوالشخصیة القناعیة یمکن أن یمتزج شخصیة الشاعربتلک الشخصیة أو الرمز بحیث یکون ناتج ذلک التفاعل والتجاذب بین الشاعر والشخصیة أوالرمز خلقاً آخر جدیداً ، لیس الشاعر ولیس الشخصیة،بل مکون منهما معاً . من هؤلاء الشعراء هی نازک الملائکة ، الشاعرة التی تستفید من أسلوب القناع في شعره،کما نری في قصیدتها "أغنیة تاییس"التی حاولت فیها أن تستفید من هذه الشخصیة الأسطوریة ، وجاء أسلوب صیاغتها قریباً من أسلوب القناع . تاییس شخصیة أسطوریة تمثل المرأة وجمالها وترمز إلی الإغراء والإغواء . تقول نازک في هذه القصیدة:

«من قدیم عشق الدیر
ضحکاتي واستطاب اسمي
ذکریات مالها غورٌ
رسخت في الدم والعظام
أ أنا النقمة والشر
لم یضنیکم إذن رسمي؟
راهب الأمس أننساه ؟
کیف أشعلت أ حاسیسه ؟
ما حیاة الدیر ؟ ما الله ؟
إن أنا أصبحت تاییسه.......»

 [12]

عندما نقرأ قصائد نازک ننتبه أنها أقرب قصائد إلی التجربة المقنعة. إنها تشیر إلی الشخصیات الأسطوریة الکثیرة فی قصائدها، منها:
أبولو- دیانا- نارسیس.

فی کثیر من الأحیان إنها تشرح لقرائه خصائص الأساطیر المستخدمة في قصائده ،وتوضح الأسباب التی أدت إلی الاستفادة منها. مثلاً في قصیدتها "لنکن أصدقاء" تستفید من کلمة "هیاواثا" وفي شرحها تقول: هو«بطل أسطوری من أساطیر هنود الشمال في أمیرکا أختارها الشاعر الأمیرکي لونکفلوموضوعاً لملحمة شعریة کتبها سنة 1855م والجزء الذی تهمنا الإشارة إلیه فی هذه الملحمة هوأن زوجة هیاواثا الشابة قد ماتت علی أثر شتاء قاس أنشبت ثلوجه وأعاصیره في القریة منزلاً بسکانها الجوع والحمی والموت . ولذلک استعملت کلمة " هیاواثا " في قصیدة " لنکن أصدقاء " رمزاً لصرخات الاستغاثة والشکوی في أرض یموت سکانها مدفونین في الثلج جائعین محمومین » [13]

کما نراها تستفید من هذه الأسطورة في إحدی قصائدها کرمز أوقناع بأسلوبها الخاص حیث تقول:

«من بعید
صوت عصف الریاح الشدید
ناقلاً ألف صوت مدید
من صراح الضحایا وراء الحدود
في بقاع الوجود
أ لضحایا ، ضحایا العراک
وضحایا القیود
وصدی " هیاواثا " هناک
مثقلاً بأنین الجیاع
بأسی المصطلین لظی الحمی
با لذین یموتون دون وداع
دون أن یعرفوا أمّا
دونما آباء
دونما أصدقاء »

 [14]

تستفید الشاعرة من هذه الأسطورة قناعاً لبیان آلامها ومقاصدها ولوصف المدینة التی تعیش بها وتفکر فیها .

النتیجة:

یلجأ الشعراء والأدباء إلی الرمز والأسطورة والقناع للتعبیر عما یختلج في صدورهم وأذهانهم .إنهم یستفیدون من الظواهر المادیة الملوسة ،ویرمزون بهذه المضامین إلی المحتوی التمثیلي أوالعقلي التقلیدي الذی تتضمنه. في هذه العملیة یعمل الشاعر علی أن یتملک لغة جدیدة وشاملة غیر اللغة التی عرفها الناس. إنها لغة السحر التی تنتقل بالشاعر من مرحلة الرؤیة إلی مرحلة الرؤیا .القناع هوأحد الوسائل التی یستخدمه الأدیب للتعبیر عن لسان شخصیة قناعیة ،ویبین صراعاته النفسیة ویتحدث عن آلامه وآماله اللتین یحاط بهما . ولکن التعبیر عن هذه الأمور بصورة مباشرة غیر رائعة وفی الکثیر من الأحیان محظورة.فلابدّ للشاعر أن یجد طریقاً آخرفی التعبیر عنها لیمکن له الطیران بخیاله في سماء ذهنه .فإذن یتحدث الشاعر من وراء الأغطیة ویبین آرائه من وراء هذه الشخصیة القناعیة .بحیث یمکن أن یکون هذا القناع أسطوریاً أوخیالیاً أوتاریخیاً أومذهبیاً مقدساً ،والشخصیة التی یتخذها الشاعر قناعاً ویختفی وراءها هوالشاعر نفسه ولاغیر.

المصادر والمراجع:

1- ابن منظور . 1984م . لسان العرب . الطبعة الثالثة . بیروت: دار صادر .
2- اطمیش، محسن . 1984 م .دیر الملوک . بغداد: دارالشؤون الثقافیة العامة .
3- شاکر السیاب ،بدر . 2000م . الأعمال الشعریة الکاملة . بیروت: دارالعودة .
4- الصکر، حاتم .1999م . مرایا نرسیس .بیروت: المؤسسة العربیة ، للدراسات والنشر .
5- عباس ، احسان .1978م . اتجاهات الشعر العربي المعاصر . کویت: مجوعة العالم المعرفة
6- کندی ، محمد علی .لاتا . الرمز والقناع في الشعر العربي الحدیث .دار الکتاب الجدید المتحدة .
7- الملائکة ،نازک . 1997م .دیوان نازک الملائکة . بیروت: دار العودة .

نیکتا صمیمی ،خریجة الماجستیربجامعة آزاد الإسلامیة ، کرج، إيران

بحث مستخرج من رسالة الماجستیر تحت إشراف الأستاذ الدکتور یوسف هادی پور

نیکتا صمیمی،خریجة جامعة آزاد الإسلامیة،کرج، إیران

Nikta Samimi

Department Of Arabic Language And Literature,Karaj Branch,Islamic Azad University,Karaj,Iran.

د.یوسف هادی پور،أستاذ مساعد بجامعة آزاد الإسلامیة ، کرج، إيران

Dr.Yousof Hadipour

Department Of Arabic Language And Literature,Karaj Branch,Islamic Azad University,Karaj,Iran.


[1ابن منظور،لسان العرب ، ص 300

[2المصدر نفسه ص 300

[3محسن اطمیش، دیر الملوک ،ص 103

[4إحسان عباس ،اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص 121

[5حاتم الصکر ،مرایا نرسیس ، ص 226

[6بدر شاکر السیاب ، الدیوان ، ج 1 ص 457

[7المصدر نفسه، ص 206

[8المصدر نفسه ، ص 206

[9المصدر نفسه ، ص 458

[10محمد کندی، الرمز والقناع في الشعر العربي الحدیث ،ص 194

[11بدر شاکر السیاب ، الدیوان ،ج1 ،ص 258

[12نازک الملائکة ،الدیوان ،ج1 صص 351و352

[13المصدر نفسه ، ج2،ص 199

[14المصدر، نفسه ج2 ، ص149


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى