الاثنين ٢٨ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم فلاح جاسم

الرَجُل الذي قـَتـَله الجُبن

‎ جهز حقيبة ملابسه وعزم السفر إلى لندن؛ مدينة الضباب، تتزاحم في رأسه أفكار شتى، كيف تكون لندن؟ أين سيسكن؟ هل الضباب في لندن يشبه ضباب قريته؟ هل سيحتمل الغربة لمدة ست سنوات، هي مدة إنهاء دراسة الماجستير والدكتوراه؟ ويحقق بذلك حلم والدته التي تريده أن يصبح دكتوراً «قد الدنيا» وهي تظن أنه سيكون طبيباً بسماعة، أي طبيب بشري، لأن ذلك منتهى الطموح في قريتهم ومحيطهم ... ولو قال لها بأنه سيكون أستاذاً جامعياً، لتعجبت وقالت له أستاذ؟؟؟ بعد كل هذا التعب تتخرج كأستاذ!! لماذا لم تختصر الطريق وتصبح كذلك منذ البداية بعد دراسة الثانوية؟ وتدّرس في قرية من القرى المجاورة، ويأتي لك الغداء والعشاء كوجبات تبرع من طلاب المدرسة، كما هو حال الأستاذ نعيم في قريتنا؟.

‎جاءت البوصطة، في ذلك الصباح الباكر من أيام شهر تشرين الباردة، وكان جميع أفراد أسرته، والمقربون منه من أهل القرية يقفون معه مشرئبين بأعناقهم عندما انحدرت البوصطة تتمايل أثناء سيرها بالطريق غير المعبّدة، كان الجميع يتحدثون بلغط، ولكن فجأة صمتوا، وكأن على رؤوسهم الطير، وليس هناك ما يدل على أنهم ليسوا تماثيل، سوى خروج البخار من أفواههم وأنوفهم على شكل دخان...

‎ســـلـّم على الجميع متصنعاً الابتسام، وعانقته والدته وسط الدموع، حشر نفسه في باب البوصطة، وحَمَل مساعد السائق حقيبته المنتفخة، أوسعوا له مكاناً مواجهاً للسائق من جهة اليمين، كونه شخص متعلم، ثم استأنفت البوصطة سيرها بقرقعة، وهدير وسط الطريق الترابية...

‎قفزت إلى ذهنه أغنية فيروز؛ «ع هدير البوصطة الكانت ناقلتنا من ضيعة حملايا لضيعة تنورين...» فأصبح يتساءل: هل ضيعة «حملايا» تشبه «ضبعان» قريته؟ وهل رحلته هذه ستختلف عن رحلة أولئك الركاب الذين كانوا يقصدون ضيعة «تنورين» ثم يعودون إلى قريتهم في آخر النهار، بعد إنهاء أعمالهم ؟؟؟

‎ بدأ ينسى أو يتناسى،ويحاول عدم التفكير بشئ آخر غير السفر، والوصول إلى لندن. انبهر بتنظيم وكبر مطار "هيثرو"الشهير ... فأحسّ بأن هذا المطار يكوّن مدينة بنفسه، تأكدَ من ختم الدخول على جوازه بعد أن اجتاز بوابة الدخول، لأن الأستاذ عبد الواحد؛ صديقه،قال له: تأكد من أن جميع أوراقك نظامية، فهم شعب يهمه النظام أولا،ً وثانياً وثالثاً... وليس عندهم نظام "مشيّ حالك ".

‎ استقل قطار الأنفاق الشهير من المطار متوجهاً إلى منطقة " سان جونز وود" لأنه سمع بأن الجامعة قريبة من ذلك الحي .. شعر بالبرد يخّل عظامه لأنه لم يلبس إلا بذلة وربطة عنق، بدون المعطف الذي هو أساسي في لندن، خصوصاً في تلك الأيام. توجه إلى الفندق وكان الضباب في كل مكان .. لكنه تيقن بأنه لا يشبه الضباب في قريته .. هناك الضباب يحتضن القرية، ويختلط بثغاء الحملان الصغيرة، وأصوات الناس عندما يتنادون، وقف أمام الفندق الكبير ذي الخمس نجوم، فأستقبل بكل حفاوة، وكانت فرصة لاستخدام ما يحفظه من كلمات باللغة الإنجليزية. دخل إلى غرفته، حيث تمدد على السرير يفكر في مستقبله، فوجد أن أجرة هذه الغرفة ليوم واحد تكفي أن يسكن مع شخص آخر في غرفة مستأجرة خارج الفندق لمدة شهر كامل، و كان هذا قراره في الصباح التالي، حيث سأل أحد البقالين في شارع "بيكر" والذي أرشده بدوره إلى شخص يسكن بمفرده، وفعلاً كان له ما أراد .

‎حاول تأمين عمل في البداية لأنه سلـّم وثائقه للجامعة من أجل التسجيل، ساعده زميله الذي يسكن معه في إيجاد عمل لمدة ست ساعات يومياً، عمل شاق، لكنها فرصة أن يتفحص وجوه القادمين والذاهبين، يمسك بلوحة مكتوب عليها "محل جلديات" وكان ذلك في شارع "إكسفورد" المكتظ بالناس من كافة أطياف البشر، وقد كان بعد إنهاء دوامه؛ وهو العمل كلوحة بشرية، يذهب إلى مطعم الدجاج الشهير الواقع قبالة "ماربل آرتش" في شارع "إكسفورد" ليملأ معدته.

‎بعد أن أنهى إجراءات التسجيل في الجامعة، وجد عملاً في محطة وقود، حيث سكن هناك بمفرده، وتذكر حكاية قصها عليه جده عندما كان بالقرية، قال له: في يوم ما، كان شخص يسافر على حماره، ومعه بطيخة، فشعر بالجوع، فقرر أكلها، وقام بتقشيرها، وأكل اللـّب فقط، وتناوله بالسكين، كواحد "حضري" كما يقول، ثم بعد الانتهاء منها لم يشبع، فأتى على القشور يحكها بأسنانه، ويأكل ما تبقى من البطيخة كواحد "فلاح" كما يقول، ثم بعد ذلك مازال يشعر بالجوع، فأقبل على القشور يأكلها كواحد "جحش" على حد قول جده...

‎فالإنسان يقدم تنازلات معينة، وتكون أسهل عليه إذا أتت بجرعات. أعجب بالنظام في لندن واحترام الناس للقانون، تمدد على سريره، وهو يتذكر أن فرنسا تنتج أكثر من ثلاثمائة نوع من الجبن،الجبن !!! نعم الجبن وتذكر قريته .. وطاف به الفكر على معظم البلاد العربية، فأيقن بأن الدول المتقدمة تصدر لنا أخطر أنواع الجبن، ولا توزعه على مواطنيها، تذكر قريته، والمدينة التي كانوا يذهبون إليها لشراء حاجياتهم، وكيف تـُجبر النسوة على إضافة مسحوق الجبن إلى قوارير حليب الأطفال، إن كانوا لا يرضعون من لبن أمهاتهم، أما النسوة اللواتي يرضعن أبناءهن كانت التعليمات واضحة وصريحة؛ يجب عليهن تناول كبسولة من الجبن قبل تلقيم أطفالهن الثدي .. فأصبح الجبن بذلك جزءاً من مكونات الشخصية العربية، وقد اعتاد الناس على ذلك، ولم يستغرب أحد، ما داموا في الجبن سواء.

‎تأمل علاقة وطنه بتلك الدول التي تـُحترم حتى أبسط حقوق الإنسان بالنسبة لها، بل وحتى حقوق الحيوان، وكيف جعلت في حديقة "هايد بارك" ميداناً لمن يريد التحدث، والتعبير عن رأيه بصراحة، دون خوف، أو وَجل ، سواء كان هذا الرأي سياسياً، أو اجتماعيا، أو دينياً، أو غير ذلك.

‎ زار متحف الشمع الشهير مراراً، فوقف متأملاً شخصيات بعض الزعماء الصناديد من الشرق الأوسط ، فكانت لديه رغبة جامحة أن يبصق في وجوههم، لكن فجأة شعر بنوبة من الجبن تسري في عروقه، فناول أحدهم الكاميرا، ووقف بكل احترام وتصور مزهواً بجانب أولئك الأبطال.

‎أكثر ما كان يثير دهشته هو كيف يتعامل أبناء تلك الدول المتقدمة مع أبناء بلده بكل صَلف، وقسوة، ووحشية، قد تصل إلى حد القتل، والاغتصاب، أو نهب الأموال، وهم من يـُقدِس النظام، واحترام الآخر .. نعم النظام، إنه النظام، وليس الأشخاص هم المحترمون، وإلا لماذا يتبدلون في بلداننا! ويفلتون من عقال الأخلاق والإنسانية.

‎قفزت إلى ذهنه فكرة مجنونة؛ ماذا لو عاد فورا إلى بلده، واتجه إلى خيمة الجبّان الذي كانوا يبيعون له الحليب، ليصنع منه الجبن.. ماذا لو ذهب الآن وقتله! حتى يتوقف إنتاج الجبن! كيف سيكون الحال لو قتل جميع "الجبانين" في كل القرى المجاورة؟

‎قطع سلسلة تلك الأفكار طـَرْق متتالي على باب غرفته، قفز مسرعاً، وفتح الباب، فكانت دهشته كبيرة حين رأى أكثر من أربعة عناصر مدججين بالسلاح من شرطة "سكوت لاند يارد" يأمرونه بأن يرفع يديه عالياً ويذهب معهم!!! قال مستفسراً وما هو السبب؟؟ّ!!

‎عرض عليه أحدهم ورقة مكتوب فيها بأنه زعيم شبكة تخطط لقتل جميع "الجبانين" في جميع القرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى