الثلاثاء ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
غويا في بوردو
بقلم رانية عقلة حداد

الزمن لا ينهي كل شيء

قبل مدة كنت قد تناولت الفيلم الاسباني" اشباح غويا" انتاج 2006 للمخرج ميلوس فورمان الذي وظف شخصية الفنان الأسباني التشكيلي فرانشسكو دي غويا كخلفية ومسوغ لاحداث الفيلم التي تسخر من الواقع السياسي وتنتقد المؤسسة الدينية وعيوب المجتمع في أسبانيا انذاك، والآن اتناول فيلم اسباني اخر انتج عام 1999، وحاز على 12 جائزة، تناول ذات الفنان ولكن بشكل واسلوب مغاير، انه الفيلم "غويا في بوردو" للمخرج الأسباني كارلوس ساورا الذي سبق وان تناولت فيلمه الرائع "تانغو".

"غويا في بوردو" اي غويا في مدينة بوردو الفرنسية التي قضى فيها غويا الفترة الاخيرة من حياته منفيا عن بلده اسبانيا، بسبب جرأته في نقد الواقع السياسي والديني والاجتماعي كما اسلفت.

يبدأ الفيلم والكاميرا تستعرض رأس ثور مذبوحا على ارضية يمتزج فيها التراب بالدم مرورا بسكين وصولا لجثة الثور تجر بالحبل وتعلق من خلال رافعة؛ فيبدو معها كالجسد المصلوب، فتقترب الكاميرا اكثر من احشائه المنزوعة لتمتزج بلقطة قريبة لوجه غويا (فرانشسكو رابال) وهو يرقد على السرير محاط بالبياض يحاول بعد هذا الحلم التعرف اين هو، وعلى ضوء هذه البداية كل ما يدور بعد ذلك من الفيلم هو مزيج من تذكر وهذيان رجل على حافة الموت، وتبعا لذلك لن يخضع الزمن لاي ترتيب كورنولوجي، انما ينساب وفقا لتداعيات ذاكرته او تخيلاته وهواجسه، ولن نعرف بعدها الحد الفاصل بين الحاضر والماضي بين الواقع والمتخيل، فتتحول جدران منزله إلى اغشية شفافة ورقيقة تمتزج من خلالها الازمنة مع بعضها، هناك مشاهد يجتمع فيها غويا الكهل مع غويا الشاب في لحظات مراجعة وتقيم للذات ولمسيرته الفنية، او يجتمع بشخصيات ميتة من ماضيه، وحين ينهض غويا من سريره و يتحرك في ارجاء منزله يبدو كما لو انه يتحرك في دهاليز ذاكرته وماضيه، واحيانا في حيز متخيل، واحيانا في حيز مجهول فيبدو غويا كتائه وغريب يتساءل اين هو، ينتقل الفيلم بين مراحل مهمة في حياة غويا ومؤثرة في حياته منها مرضه الذي سبب له الصمم، فيروي لابنته التي يتخيل وجودها قصة صممه ويعلمها التخيل بالاستماع إلى اذنها الداخلية.

الحب... الحياة... الموت

"الحب...الحياة...الموت... الزمن ينهي كل شيء... لا انه لا ينهي كل شيء" هذه الكلمات التي كان يرددها غويا وهو يدون مذكراته، لكن ما هو الشيء الذي لا يمكن مع الزمن أن ينساه غويا، انه الحب الذي لا يغيب وان غاب من يحبهم؛ عشيقته الدوقة كاتيانا (ماريبيل فيردو) التي ماتت مسمومة والتي بقيت مصدر لالهمامه، وابنته روزاريو (دافن فيرنانديز) التي خطفها الموت باكرا وهي صغيرة حين غرقت في النهر.

الحب هو الذي منح غويا القدرة على مواصلة الحياة، في ظل الحرب والقسوة والقمع والموت الذي كانت تغرق فيه أسبانيا فجسده في لوحاته، لذلك المعالجة الفنتازية التي وظفها ساورا في الفيلم الغت الحدود الفاصلة بين الحاضر والماضي، وسمحت ل غويا أن يستحضر الشخصيتين اللتين كان لهما تاثير في حياته؛ كاتيانا و روزاريو، ليخاطبهما كما لو انهما لا زالتا على قيد الحياة، ومنح ساورا لكل منهما موسيقى خاصة، فمع ابنته ارتبط صوت الاجراس الكنسية الحزينة التي تعبر عن شعور غويا بالفقد اتجاهها، ومع كاتيانا موسيقى حب فلامنكو جميلة، والتي في احد المشاهد التعبيرية تتلاشى هذه الموسيقى مع خروج كاتيانا من الغرفة، بعدها تبدأ الشخصيات بالصراع مع قوى ما، ليعبر هذا المشهد في مستوى اخر من الدلالة عن فكرة مجردة وهي غياب الحب -الذي تجسده كاتيانا - يولد الصراع.

في بداية الفيلم يرسم غويا شكل لولبي على زجاج نافذته معبرا فيه عن الحياة التي تبدأ من نقطة مركزية تتسع إلى مالآنهاية، وينتهي الفيلم عندما يرسم غويا وهو على سرير الموت ذات الشكل لكن هذه المرة في الهواء بعدها تحضر روح ابنته وظلال كاتيانا ويتلاشى بعدها جسد غويا إلى العدم في مشهد جميل ومعبر عن موته.

المعالجة الفنتازية

تغدو معالجة ساورا التي تعتمد الفنتازيا هي الشكل المناسب لتقديم شخصية ك غويا في الفيلم، ليس لحرية التنقل زمنيا فحسب، وانما لانه الاسلوب الاقرب إلى شخصية غويا وعوالمه التعبيرية التي سيطرت على مراحل عمله الاخيرة حيث الشخصيات الاسطورية والكائنات الغرائبية والاشباح، ولم يستطع غويا يوما ما أن يرسم اشياء مبهجة؛ كالزهور او الطبيعة الجميلة او وجوه مبتسمة، انما ووجوه حزينة تصرخ، ووحوش واجواء كابوسية وقاتمة، وهي واقع الحياة كما كان يراه، يسوده القتل، القسوة، والحرب، وبشاعة البشر، وعبر ساورا عن عوالم غويا هذه في مشاهد متنوعة وآسرة بصريا، ولا تقل قيمة تشكيليا عن لوحات غويا ومنها المشهد الكابوسي الذي يُحاصر فيه غويا من قبل الشخصيات الحزينة التي رسمها، معبرا في هذا المشهد عن مقدار العذاب الذي يعيشه غويا وحساسيته اتجاه المظلومين.

كما أن هناك مفردات تتكرر في اغلب اعمال ساورا كالجدران المتغيرة الوظيفة؛ فتارة تتحول إلى مساحة تتجسد عليها الذاكرة عبر اللوحات، وتارة تصبح شرفة على الماضي، وتارة تعكس الحالة النفسية ل غويا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى