السّخریة فی شعرالشّعراء الکلاسیکین ٢
المقدمة:
تحاول هذه المقالة دراسة السّخریة عند أبرز شعراء العراق المعاصرین ألا وهواحمد الصافي النجفي الشاعرالّذي أمضى 36 عاماً متنقلاً بين إيران وسورية ولبنان ،ولا نرید تکرار ما أتینا به في مقالات سابقة عن السخریة في شعر الشعراء الکلاسیکین ،لأنّ هذه المقالة تواصل دراسة السخریة عند أبرز الشعراء الکلاسیکین المعاصرین علّها تجدي نفعاً لدارسي الأدب العربي.
السّخریة في شعر أحمد الصّافي النجفي (1895-1978)
«ظهرت بادرة السّخریة في ألشّعر العراقي عند الزهاوي وکانت روح الزهاوي هذه والمیل إلی البساطة میزتین تابعهما بنجاح کبیر أحمد الصافي النجفي، ألشّاعر الجوال الّذي قضی أیامه الموحشه المدقعة فقراً بین سوریاً ولبنان » [1] والکویت وإیران وحفلت دواوین الصّافي بکمّیة وافرة من أبیات الهجاء وتراوحت هجائیاته بین القدح المّر والّذم الخفیف والدعابة السّاخرة، بید أن الصافي في جمیع أنواع هجائة لم یتعرض لمهجّوه بلفظٍ یمسّ کرامته أوکلمة تجرح شعوره.
وأکثر أبیات الهجاء الّتي نظمها ألشّاعر قالها في مدّعی ألشّعر عموماً أوفي ناقدي شعره، وحاسدي تفوّقه ونبوغه علی وجه الخصوص.
غیر أنّ ما یهمّنها في هذا البحث هوأحد أنواع هجائه وهوأسلوب السّخریة وتقول الدکتوره سلمي الخضراء الجیوسي في معرض حدیثها عن میزات شعره «یتمیّز شعر الصافي ببساطة شدیدة في الأسلوب وبلغة شعرّیة کثیراً ما تقترب من الکلام السّائر وهوإذا یتأمّل الحیاة یکشف عن وعي مباشر لیس فقط بالمشهد الوطني والإجتماعي حوله، وهوما أقتصر علیه کثر من معاصریه من ألشّعراء بل یعکس أیضاً وعیاً بالحیاة من حوله، وهو إنجاز أکثر صعوبة فقط إستطاع أن یعالج المواضیع العادیة في الحیاة الیومیّة من دون أن یتعثّر أویعکس ذلک السّخف الّذي نجده عند العقاد في «عابر سبیل» والواقع أنّ الفرق الجوهري بین ألشّاعرین هوأن الصافي معنيٌّ عنایة مخلصة بالحیاة والوضعیّة الإنسانیّة وقادر علی أن یصور المواقف المثیرة للأسي أوالهزء في سهولة ووضوح؛ بینما نجد العقاد إما یخترع موقفاً زائفاً أویضخم موقفاً بسیطاً، فیقحم علیه أحیاناً کثیرة نبرة مأساویّة » [2] ولا تقوم صناعــة الصافي في ألشّعر علی المعاني، ممّا انعکس ذلک حتي علی مظهره الخارجي فأنّه لم یکن یعتني بهندامه وثیابه قدر إعتزازه برجاحة عقله:
أبْصروا مظهري ولم یبصروني
حسبوا الیوم أنّهم أبصروني [3]
وإذ یعرض الصّافي لأنواع شتي من التجارب یعطي إنطباعاً عن رجل بالغ الإنشغال بصراع مکشوف ضد المفاسد، والحقارة، والخسّة، والمعایب ،والخمول، والنفاق، والجهل، والجشع، والفجاجة، والفوضي وألسّیاسة الغرغائیة المتحفظة، ویحدّد الصورة غالباً بتفصیلات دقیقة، وقد یدخل في جدل مع الأشیاء الّتي یکتب عنها ویسخر منها وقد یؤنّبها بشدّة أحیاناً، ولکنّه لایقف موقف الواعظ إطلاقاً ،کما یفعل بعض من الشعراء العراقیین. إنّ في شعر الصافي عاطفة عمیقة لاتطفوإلی السطح، فتختلف في هذا عن تلک الفورة العاطفیّة الباذخة والرّنین المتجاوب الأصداء في شعر بعض الشعراء العراقیین..
وانّ احمد الصافي النجفي رجل شدید الأنفه، وهي صفة عرف بها اکثر من غیره وقد أضفت قیمة علی شخصیّته وهذا ما یفسّر تحمّله للفقر والوحدة وعدم تنازله بأیِّ شکلٍ من الأشکال للسلطات ألسّیاسیّة وللجمهور.
وسنری لاحقاً في حدییثنا عن السّخریة في شعرالصافي أنّ ألشّعر الّذي اعتبرناه ساخراً، یحمل سخریة مرّة دامیة تهدف إلی إیقاف ألشّعور الوطني، وتحریضة علی الثورة ضدّ الأجنبي والمستعمر، إنّه أدب یتسم بالجد والقوة والوطنیة.
ویقول ألشّاعر والکاتب السّوري عبدالغني العطري في کتابه القیّم «ادبنا الضاحک» وهومن أکبر رواد السّخریة من العصر الحدیث؛ «علی أن الأدب الضاحک إن کان قد أعوز أدباء العراق وشعراءه المقیمین، فإنّه لم یعوز قطّ شاعراً عراقیاً فذّا من المهاجرین النّزحین، ونعني به الإستاذ أحمد الصافي النّجفي». [4]
والدارس للشعر العراقي یجد أن معظّم ألشّعراء السّاخرین العراقیین هم من ألسّیاسیین المبعدین الّذین یعیشون في المنفی بسبب مواقفهم ألسّیاسة المناهضة للسلطة الحاکمة.
من جهة أخری إنَّ هذه القسوة الّتي نجدها في ألشّعر العراقي حتي السّاخر منه ربَّما یکون مردّها إلی العوامل التاریخیّة، فقد شهد هذا البلد المصائب والویلات من قبل الحکومات الظالمة والغزاة المحتلّین الطامعین في خیراته وکان لموقعه الجغرافي الممتاز أیضاً أثره في ذلک ممّا جعله محطّ الأطماع من قبل الإمبراطوریات وقوی أخری في کافة العصور وقد تعرّض هذا ألشّعب للقتل والسلب والأسر والدّمار، وهذا المسلسل التراجیدي مازال مستمراً إلی یومنا هذا وباعتبار انّ الأدب والفن هما مرآة ألشّعوب فقد حملا هذه المعاناة والمأساة ومن یقراْ الاْدب العراقي ویستمع إلی الألحان والأغاني العراقیة یلمس نبرة الحزن هذه.
وأری أن العامل الآخر الّذي أدی إلی هذه القسوة حتی في مجال السّخریة هواللهجة العراقیة، فاللهجة العراقیة خشنة ذات إیقاع صاخب، عکس اللهجات العربیة الأخری الّتي تجد فیها مرونة ونعومة اکثر لذا تجد أنّ العراقي قلیل الکلام، کثیر السّکوت، یحامل أن ینّقي المفردات عندما یتحدّث إلیک.
أمّا ألشّاعر احمد الصّافي فقد شذّ عن هذه القاعدة، أي أنّ شعره السّاخر- کما أسلفنا – یتّسم بروح الدعابة وهو«محبّ بطبعه للنکتة والنادرة، تجلس إلیه، فیضحک من اعماقه إن فاکهـتَه، ویغیب في قهقهة عالیه إن رویت له طرفة أونادرة، کما یسبقک إلی الضحک إن أراد أن یروي أفکوهة أوأملوحة... إنّه مرح بطبعه یجد النکتة، ولا سیّما في شعره، وکثیراً ما یظمّنها قصائده ومقطوعاته، أویختم بها تلک القصائد والمقطوعات». [5]وها هوذا في قصیدة «مستنقع الحیاة» یسخر حتي من الحیاة نفسها:
سخرت وسوف أسخر من حیاةٍبنا سخرتْ لأغبنها کغبنيسأضحک من سخافتها زماناًکما ضحکتْ علی عقلي وذقنيسخرت بسخفها زمناً، ولکنسری لي داؤها وسخرت مني [6]
ویبدوأنّ الحیاة جعلته یسخر حتي من نفسه أیضاً.
ولنستمع إلیه وهویصف نعله البالي وحالته المّادیة المتدهورة في قصیدة «صباغ الأحذیة» عندما أتاه مساح الأحذیة ، وکان لا یملک ألشّاعر إلا دراهم قلیلة أعدّها لقوته، فآثرأن لایردّه خاثبا فأعطاه قوت عشاءه:
جئت یوماً إلی صباغ نعلوبنعلی صبغٌ من الأیّاممر دهرٌ علیه لم یرصبغاًغیر صبغ الغبار والأقداموکسته أشعة ألشّمس لوناًصار منه کقطعةٍ من رغامجاءَ نحوي من بعد ما طاف یوماًدونَ ربحٍ غیر العنا والسقامجاء نحوي یروم صبغّ حذائيوأنا للصّبّاغ أعدی الأنامأنا خصمٌ الألوان تخفي عیوباًإنّ عندي الألوان کالأوهامرُمْتُ رَدّاً له فلم یرض قلبيردّه خائب المنی والمرامقلت فأصبغْ لي الحذاءّ بصبغفیه أغدوا مثل الّذوات العظامقلت أحبوه درهماً، غیر أنّيخفت من أن یذّله إکراميقلت فاصبغ لي الحذائ بصبغفیه أغدومثلَ الذوات العظامفغدا یصبغ الحذاء بحذقمبدیاً فیه کلّ فنّ تمامثمّ بادرته بما ضمّ جیبيمن نقود أعددتها لطعاميفمضّی هانئاً ورُحْتْ کأنّيثملٌ بالسّخاء لا بالمُدام [7]!
وفي قصیدته «خیر وشر» یصف یوماً أراد فیه أن یفرّ من حرّ دمشق إلی ربوع «دُمَّر» فوجد سیارة قدیمة، أشفق علی صاحبها وکان الناس ینظرون إلیه شزراً، فإذا بألشّاعر یشفق علی السّائق ویؤثر سیارته البالیة علی غیرها من ألسّیارات الجدیدة الفارهة وما یکاد یأخذ مکان فیها، حتي یتدفق علیها الرکاب، فیحشرهم السّائق بعضهم فوق بعض وهنا سرّ صاحبها وأخذ مکانه فیها...
ویوم لي یَجُلَّقَ رمت فیهمن الحرّ المهاجم أنْ أفرّافقلت: لدمّرٍ أمضي لألقيبظلّ الخلد ثمّة لي مقرّافأنشق من نسیم الروض عطراوأشرب من نمیر النّهر خمرافسرت إلی «اوتومبیل» کبیروکان حشاه، مثل الکفَّ، صفرافما یأوي أخوسفرٍ إلیهویرنوالعابرون إلیه شزراأویت له، ولا سترٌ علیهیقیک ألشّمس إن سامتْک حرّاولکن کان سائقه یناديوکان الوجه منه یبین فقرلذاک اخترته ورکبت فیهلأکسب من صنیع البرّ أجراولکن لم أکد آویه حتّیرأیت له جیوش الرکب تتریفراح بهم یسیر کفلک نوحوقد تخذ الفلا، للمخْر، بحرافکدت أموت فیه من ازدحاموأسکن فیه، قبل القبر قبراولکنْ وجه سائقة بدا ليیموج بشاشة ویمیض بشرافألقي نظرة مُلِئَتْ حناناًإلی وأکثر النّظرات شکراوقال لنا دومک خیراًفقلتُ له: أجل! وعلی شرّا [8]
ویبدوأن إشفاق ألشّاعر علی الآخرین یضعه في مواقف حرجة ولکن روح ألشّاعر اللطیفة تخفّف من وطأ هذا المأزق، ورأینا النهایة المضحکة الّتي اعتاد ألشّاعر أن یبرزها في بعض قصائده وفي دیوانه «للفحات» في قصیدة بعنوان «رثاء لحیة» یرثي لحیة الّتي طالت بسبب فقره.
ذهبت إلی الحلّاق یوماً بلحیةکلحیة شیخٍ أوکلحیة خوريولم تک قد طالت لنسک ولاریاًوإن خالها ألحساد لحیة زورولکنّما فقدُ الفلوس أطالهافیجدر أن تدعي بذقن فقیریقیس الوري مإلی بمقیاس طولهاولکن لها سیرُ بعکس مسیريفإن قصرتْ یوماً فذاک لدي الوريدلیلٌ علی مال لديّ وفیروإن بلغتْ في الطول شبراً وإصبعاًتدلّ علی إخلاس بعض شهورولما رأیت الوجه زاد دمامةًبها وأغتدتْ منها الوري بنفورمضیّتٌ إلی الحلاق أطلب قصّهاوتخفیف شعر مثقل لشعوريوقلت له خذ نصف ذقني لتغتديکذقن رئیس أوکذقن أمیرفراح یزید القصّ فیها مدقَّقاًبقرض وحفِّ أوببعض أموروکنت أعاني قلع شعر بقصّهاوأمنّی بجرح في الخدود خطیروکنت له أشکووأز فر صائحاًفلم تنفع ألشّکوي وطول زفیريولما أنتهي من قصّها کنت میتاًوقد حان بعد القصّ یوم النشوريفجاء بمرآة لأبصر لحیتيفیالیت إني کنت غیرَ بصیربدا لي وجهي حاکیاً وجه أمردٍصغیر وتعلوه غضون کبیرفثرتُ علی الحلاق باللومِ غاضباًفقال اعف عن ذنبٍ بدا لقصوريفقلت لنفسي إن هذا جزاءُ منیسلم ذقناً في اکفِّ ضریروأخرجتُ من کیسي له بعض أفلسفقال أبعد الّذقن أخذ أجورفبعت له ذقني بأبخس قیمةٍوعدت بطرف في الأنام کسیر [9]
سوف کثیراً ما نري هذه الفاجآت السّاخرة في آخر قصائده، فالمفاجأة وتوقع عکس المنتظر من أسباب الضحک الّذي تحدّثنا عنه سابقاً. مثال آخر في دیوانه «التّیار» ومن قصیدته السّاخرة «صید جدیدة»:
في هذه القصیدة یروي لنا الصافي أنّه مرّذات صباح بتاجر قد نضّد بضاعته ونسّقها، ولبث ینتظر صیداً سمیناً ... فلمّا رأي ألشّاعر من بعدُ، بثیابه العربیّة، ظنّه أمیراً من أمراء البدووأصحاب الثروات «ینفق المال في المدینة جوداً».
جزتُ صبحاً بقرب حانوت شخصوالبضاعاتُ نُضّدت تنضیداًناصـــبٌ للشُّباک یحسب جهلاًکل شخص یمرّ، صیداً جدیدافرآني کأنّنـــــي بدوّي قدحملت العنا وجزت البیــــداوأتیت ألشّآم أشري لبیتيولإهلي حوائجاً وبروداوبجیبي من الدنانیر کنزٌمسْتَمدٌ من ثروةٍ لن تبیدافرأي صبحه بوجهي سعیداًورأي مطلعي علیه عیداظنّ أنّي أمیر بدوٍ غنِّيینفقُ المال في المدینة جوداقال هذا رزقٌ أتاني صباحاًفغدا یشکر الاله الحمیداآملا أن تحلّ عنه بمإلیأزمةٌ یشتکي بها التنکیدارمت عطفاً علیه أن أبطيءَ الخطولأبقیه بالخیال سعیداغیر أنّي خشیتٌ في البطه من أنیضرم الحرص في حشاه وقودامارآني بالخطوأسرع حتيطار بشراً ومدَّ نحوي جیداورنإلی بالطّرف یحسب جهلاًکلّ ما ظنّ في أمراً أکیداثم ألقي شباک بشرٍ ولطفٍ
فوق وجهي یرجوبها أن یصیدا [10]
وهکذا یستدرجنا الاستاذ الصافي النجفي إلی حیث المفاجأة في البیت الأخیر:
هبّ لما مررت بالقرب منه
قائلاً: ماترید؟ قلت نقودا !! [11]
وفي دیوانه «اللفحات في قصیدة «ضرس القل» یتحوّل ألم ضرس العقل إلی موضوع ساخر:
إن ضرس العقل بالآلامِقد أذهب عقليلیس هذا ضرس عقلٍإنّ هذا ضرس جهلٍإن یکن هذا هوالعقلفیاجهلي دُمْ ليفهل العقل لکلّ الخلقبالآلام یُملِيلم أجدْ من عاقلٍ منضرسه یصرخُ مثليأأنا العاقلُ وحديأَو َلَا عاقلَ قبليالوَرَي بالعقل یَحیونوفي عقليَ قتليأنا ما لي من صفات العقلإلّا ضِرسُ عقل [12]
نعم یبدوأن تسمیة «ضرس العقل» لم تعجب ألشّاعر ،مثال آخر في نفس الدیوان من قصیدته السّاخرة «مکتبتي»، یقارن ألشّاعر کتبه المبعثرة في أرجاء بیته بکتب المترفین الّذین یقتنونها لا لشّیء سوي للوجاهة والزینة وما أکثر هؤلاء في أیامناهذه:
مبعثرةٌ جمیعُ الکتب عنديقد انتشرتْ کعائلتي بداريتعیشُ بغرفتي متنقلاتٍفلیسَتْ تستقرُّ علی قراروکُتْبُ المترفین مجمّداتٌتعیش غریبةً عیش الأسارمحرّمةٌ علی أنظار قارمهیأةٌ لجاهٍ وافتخارمثبَّتَةٌ کجزءٍ من جدارمنسّقةٌ کأحجار الجدارغدت مؤودةً في مکتباتفقد بلیتْ من الموتي بجار [13]
ویروي الصّافي قصّته مع «أبي شاکر»، صاحب الفندق الصغیر الّذي نزل فیه، فرحّب به، وزعم له أنّه نصیر للأدباء وألشّعراء، ولکنّه ما لبث أن سطا علی کیس نقوده، الّذي حشرفیه أوراقه وما تناثر من شعره، بینما دراهمه لا تبلغ العشرة! إنّها قصیدة ساخرة ضاحکة. صاغها بلکمات بسیطة تتدفق حلاوة وتفیض بالدعابة.
نزلت في نزْل أبي شاکرمن حظِّي المنتکس العاثرفکان یلقاني في بسمة ٍلم تلک إلا بسمة السّاخرراح یباهي أنه ناصرٌلزمرة لم تلق من ــناصروأنّه للأدباء مخلصٌمن ناظم فیهم ومن ناثریا لیتهم ظلّوا بلا ناصرلیسلموا من ناصر ماکرإذا رآني هبّ لي مسرعاًیطلب منّي إمرة الآمرحتّي إذا اطمأ نَنْتُ من حبّهمنخدعاً في لطفه الظاهريوألشّاعر الصافي یخال الوريتحکیه في الباطن والظاهروأنّهم أشراف نفس غدتْقلوبهم کقلبه الطاهروکان لي محفظتا ثروةحفظهما یشغل لي خاطريقد حوتا وسطهما کلّ ماأملک في الأوّل والآخردراهم لوعّدها حاسبٌما بلغتْ للدّرهم العاشروبضع أوراق بطّیاتهاحَوَتْ شظایا قلبي الثائرعجبت من جیبي لم یحترقْبنارها وألشّرر الطّئرأعزّْ من روحي فروحي بهاقد افرغتْ من فکري القاصرتُبصرُ من روحي شظایاً بهاأوشرراً من طرفي السّاهرفجائني اللصّ وأودي بماجمعة من مالی الحاضرولم یمدّ اللصّ کفّاً إلیشعري أودرُّ به زاخر[14]
وهنا تبلغ دعابته أوجها، حین یختم القصیدة بهذین البیتین:
خفّف لي اللّصّ أبوشاکرحملي فشکراً لأبي شاکروالحمدلله علی نکبتيبسارق لم یک بألشّاعر [15]
لقد سرق أبوشاکر دراهم الصافي، وأهمل أشعارة، استهانة بها... ولکن ألشّاعر حمدالله علی أن السّارق لم یکن شاعراً، ولوکان کذلک لأدرک أن ثروة ألشّاعر في شعره لافي ماله!
وفي قصیدة «أنا والبعوض» یتضایق ألشّاعر من البعوض:
علام خلقت یا ربّي بعوضاًیعذّبنا بأوقات المساءنرجّي النّوم في الفَيْ رجاءوندعوا النّوم في أالفَيْ دعاءِلکن حین یدنوالنوم منّایشّردهالبعوض بلاحیاءِفیقرصُ جسمنا لا قرصَ مزحویسلبُنا الکری لا عن عداءنغطّي عنه أرجلنا اتقاءفیبصرهنّ من تحت الغطاءعجیبٌ أنت یا ربّي حکیمٌوفي کفّیکَ میزانُ القضاءأتبقي النّور في عیِّني بعوضوتحرم منه عین أبي العلاء؟ [16]
ومن ألطف شعره السّاخر قصیدة عنوانها «التخت العلیل» فقد وصف ألشّاعر غرفته الّتي یأوي إلیها، والبق الّذي یلسعه أحیاناً والبعوض الّذي یطیب له أن یشرب من دمه... ووصف کذلک سریراً نام علیه ذات یوم، قائلاً:
ربُّ تخت سمّوه تختَ منهاوهوحقّاً مکسَّرٌ للعظتامأسدلوا فوقه ستار حریرزاهي اللّون، خادعاً للطّغامنصفه ناتيءٌ بدون أنتظامجامعٌ للوهاد والآکامینتهي سفحه بوادٍ عمیقٍضیّقِ الصدر، خافقٍ للنیاممن ینمْ فوق ناتيءٍ منه یحسبْأنّه فوق ناتئات السهتامأوینمْ بین واطيءِ منه یحسبْقالبَ الضغط وسط تخت المنامقد دعاه الأنام تخت منامٍوهوعند التحقیق تخت انتقامکم أتونحوه بضیف جدیدٍکبريءٍ یساقُ للإعدامنام من فوقه فما نام للصّبحلفرط الأوجاع والآلامنام من فوقه صحیحاً فلم یمــض قلیلٌ حتّي غدا ذا سقامظلَّ للصبح لم یذقْ طعم نوماًویوالی أنّاته بانتظامبات في تخته یئنُّ ومنهفرّ قبل انهزام جیش الظلامراح منه یسیر منحني الظــهـر وقد کان مستقیم القوامشخر الضیف حین نام فلاموهوما کان مستحقَّ الملاملم یکن طبعه ألشّخیر ولکنعصروه فصاح من آلاملووضعت الأحجار في قالب الظّغطلأنت، وإن تکن من رخامأنّةُ التخت مازجت أنّةالضّیف فَألَّفْنَ مشجيَ الأنغامینذر التخت ضیفه بأنینمانحاً نصحه بدون کلاموکأنّ الأنین من جانب التختبکاءٌ علی الضّیوف الکرامأوکأنّ الأنین منه زفیرٌأوشکاوي یبثّها للأنامِقائلاً: إنّني علیلٌ فهل أسطیعُحملاً لهذه الأجسام؟ [17]
ویهاجم الصافي شعراء المراثي، أولئک الّذین یتسابقون ویتهافتون ویغتنمونها فرصة لإبراز مواهبهم وشحذ قرائحهم کلّمامات عظیم – فیرثونه – کما یقول بشعر میت! قد کان اولی منهم برثاء.
مامات ذوشأن بنا إلا بدتشعراء قد جلّت عن الإحصاءِفکانّهم دیدان جسم میتنُشرت من الأموات في الأحیاءیرثون میتهم بشعر میتقد کان أولي منهم برثاءِلوعاد ذاک المیتُ حیّا مات منشعر رثوه به بدونِ حیاءلوکان یعلم أنّهم یرثونهماماتَ کیلا یبتلي بُهراءیاموتُ رفقاً لاتُصِبْ ذامحتدٍکیلا تهیج عفونةً ألشّعراءِ [18]
وفي دیوانه «أشعة ملوّنة» یسخر من شخصٍ جاهلٍ یدعي أستاذ:
وغبّيٍ سمیّتُه أستــــــاذاًوهوفي جهـله من الأفذاذقیل هل رُمْتَ رَفعه قلت کلّارمّت إسقاط کلمة الإستاذ! [19]
هذا ولم تسرّ ألشّاعر بشري معاش التقاعد فقال:
قالوا جري (التنسیقٌ) قُلت الیکُمعنّي فلیس یصیبني برشاشأنا أحسد (المتقاعدین) لأنّني(متقاعدٌ) لکن بدون معاش [20]
ونضحک مع الصّافي أیضاً حین یتحدّث عن ثوبه الجدید الّذي ارتداه ومن عادة النّاس أن یزهوا بثیابهم الجدیدة ولکن الصّافي علی العکس، یؤثر ثیابه القدیمیة، وحتي البلیة منها، وقد ذکرنا سابقاً أنه لم یکن یهتِّم بمظهره، ویسخر من الناس الّذین یحتفون بمن یلبس الثیاب الفاخرة بل إن ألشّاعر یخجله الثواب الجدید:
لبست ثوباً جدیداً فاکتسبت بهشأناً جدیداً وصار الکلُّ یکرمُنيتغیّرتْ نظرات النّاس لي ولقدکانت تریبني نفوراً حین تبصرنيفصار یبسّم لي من کان یعبس بيوصار للصّدر یدعوني ویجلسنيکأنّما أنا هذا الیوم غیري فيأمسي وما بدّلَتْ روحي ولا بدنيإن کان حسن لباسي قد دعاه إلیهذي الحفاوة بي في السِّرِّ والعَلَنفلیمض توّاً إلی سوق القماش لکيیلقي له سجدةَ العباد للوثنظننت البستي للبلهِ خادعةوإذبها خدعتْ حتي ذوي الفِطَنالکلّ تفتنه الألوان زاهیةولیس بالجوهر الغإلی بمفتتَنقد کنتُ في رائق الألوان أخدعهملولاحیاءٌ عن التمویه یردعنيإن کان حبّهم للّون أضحکنيفأنّ جلبي لهم باللّون یضحکنيالناس یخجلهم بإلی ثیابهمفکیف بي وجدید الثوب یخجلنيجدید ثوبي کالإعلان یجلب ليأنظارهم فیسلیهم ویحزننيلوکنت في الطّیر طاووساً خشیتُ إذنتطَّلع الناس حتي لم أدعْ وکني [21]
ولکن لدیه ما یبّرر حبّه للثیاب البالیة ویعتقد أنها میزة له، تفرّق بینه وبین الجهال:
قد حجّبت جوهري العلویّ ألبستيکالرّمل یحجب عنّا غإلی الّذهبفصار یسعّي إلی لقیاي، ذوفطّنوصار یهرب من مرآي کلّ غبيفرقْتُ ما بین جهّال واهل حجّيکالعقل فرّق بین الصّدق والکذب [22]
وکثیراً ما یسخر اللشّاعر من فقره إذ یقول:
صافحتني یدُ امريءٍ فرآنيسأخن الکفِّ من لَظي الوسواسقال هذي حرارة الایمانقلت لا بل حرارة الإفلاس! [23]
وربّما نصحه أحدهم بأن یدّخر الفلس الأبیضل للیوم الأسود فأجاب ألشّاعر قائلاً:
قد قیل وفّّر إن تکن حازماًمن یومک الأ بیض للأسودفقلت أیامي سودٌ فهلأکنز من یومي شَِقّّاً للغد؟! [24]ویسخر من الطبیب الّذي أراد أن یداویه:جسَّ الطّبیب یدي فارتاع من مرضيوقال داؤک یعیي طبّ إبلیسلکنّني سأداوي الیوم جسمّک منأسقامه، قلت: قبلاً داوِ لي کیسي [25]
ویلاحق ألشّحاذون الصافي، ظنّا منهم إنّه أمیر غني، ویشکون له کثرة النسل والأولاد فیقول:
دعاني بالأمیر وکنتُ أولیبأن أُدعَی أمیر المفلسیناعجیبٌ أنّهم یأتون توّاإلیّ ویترکون الموسرینافهل من جنسهم أن قدرأونيفجاؤوني معاً مستعطفینا؟ [26]ولکن لنستمع إلی جوابه اللاذع حین یشکون کثرة النسل والأولاد، یقول:لک اللذات في ایجاد نسلِونحن بحفظ نسلک ملزمونافهل من جنسهم أن قد رأونیفجاؤونی معاً مستعطفینا؟ [27]
وهکذا تفرّد الأستاذ الصافّي النجفی عن بقیّة ألشّعراء العراقیین السّاخرین بروحه المرحة وحبّه للنکتة مما یدلّ علی أن السّخریة طبع فیه بالإضافة إلی نشأتة في النجف، فعلی الرغم من الجوّ الدیني نجد أنّ أهل النّجف أیضاً یمتازون بروح الفکاهة والنکتة اللطیفة.
المصادر
- الجیوسی،سلمی الخضراء:الاتجاهات والحرکات في الشعرالعربی الحدیث،ترجمة عبدالواحد لؤلؤة مرکزا لدراسات الوحدة العربیة،ط1بیروتف2001م.
- الصافي النجفي، احمد: دیوان التّیار، لجنّة الترجمه والتألیف والنشر العراقیة، دارومطبعة الیقظة العربیة بدمشق 1946 م.
- الصّفي النجفی، أحمد: دیوان أشعة ملوّنه، ط2، منشورات العصریّه للطّباعة و...- للمطبعة العصریّة، صیدا – بیروت (بلاتاریخ).
- الصافی النجفی، احمد: دیوان الاغوار، دارالعلم للملایین ط2 بیروت، لبنان،1944م.
- الصافی النجفی، احمد: دیوان اللفحات، دارالریحانی للطباعة والنشر (بلاتاریخ)
- العطري،عبدالعزیز:ادبنا الضاحک ،دارالبشائر،ط 3، سوریا،1994 م.