الخميس ٣ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم ناصر الحجيلان

الصورة لا تعبر عن الواقع دائمًا

حينما تقع بين أيدينا صورة فوتوغرافية لمنظر معين أو لمكان أو لشخص فإن مخيلاتنا تبدأ ببناء قصة خيالية مع الصورة؛ لأن الصورة تثير فينا نوازع كثيرة وغرائز متعددة وأفكارًا ومشاعر تختلف من فرد إلى آخر، كما تتباين مع الفرد نفسه بحسب الموقف والتجربة والعمر والحالة النفسية.

ولو فكرنا في القصة التي نقوم بنسجها من خلال الصورة سنجد أنها قصة تحاول تكملة الجوانب الناقصة في الصورة أو تحاول تغطية الأجزاء غير المذكورة في القصة. فعلى سبيل المثال، حينما نرى صورة للصحراء القاحلة التي يقع في أقصاها جبل وثمة طفل يمشي وحيدًا وقدماه غائصتان في الرمل وكأنه متوجّه نحو شجرة جرداء تقف في طرف الجبل- سنجد أن كل شخص منّا يحمل في ذهنه تصورات معينة لهذه الصورة، ويدور في خلده قصة لها أحداث مختلفة.

فهناك من يرى أن العنصر المهم في الصورة هو الطفل ويظل يتساءل عن سر غياب والديه، وربما يتعاطف مع الطفل ويشعر بالشفقة عليه بسبب تعرضه للخطر في هذه الصحاري المقفرة وربما يتمنى إنقاذه. وهناك من يرى الصورة من زاوية هندسية فيعتقد أن ذلك الطفل ماهو إلا رجل برز وكأنه طفل بسبب كبر حجم المعطيات المحيطة به من جبال وصحاري وأشجار. في حين يجد شخص آخر أن هذه الصورة ما هي إلا رمز لصراع الإنسان مع الطبيعة وقدرة الطبيعة على جعله تحت سيطرتها، وقد يستغرق في أفكار معينة تنحو نحو العدمية والفناء من خلال ما توحي به الصحراء القاحلة والشجرة الجرداء وقد يغوص في أفكار الخلود والخصوبة التي ترمز لها الأرض وحركة الطفل وهو متّجه نحو عنصر النماء وهو الشجرة. وهناك من يجد نفسه في الصورة ممثلا في ذلك الطفل أو في شخصية غير ظاهرة على الصورة كأن يكون الأب أو الأخ أو الأم مثلا؛ ثم يتخيل قصة معينة حصلت وجسدتها تلك الصورة. وكل تلك القصص ربما لا تتطابق مع القصة الأصلية التي تكون فيها العائلة خارجة للنزهة ولكن المصور التقط الطفل وحده وترك أهله وبقية إخوته وألعابهم وسيارتهم.

والحقيقة أن المجال يتسع إلى عدد غير نهائي من القصص المتخيلة التي يمكن أن ننسجها ونتخيلها أو نفسر بها مانراه أو مانجده من معطيات في هذه الحياة. والواقع أن كل رؤية لها وجاهتها الثقافية ولها قيمتها الفنية التي نعبّر من خلالها عن أفكارنا ومشاعرنا وتجاربنا والتغيرات التي نمر بها في رحلتنا مع الحياة. فإذا كان الناس يختلفون في قراءة صورة واحدة مثلا فإن الشخص ذاته قد يكون عرضة لتغيير موقفه ورأيه مع مرور الزمن أو بعد تغير الموقف أو الحال التي هو فيها. فعلى سبيل المثال؛ فإن الأب الذي لتوه فقد طفله الوحيد سيتفاعل بطريقة تختلف عنه نفسه حينما كان طفله في كنفه. والأمر نفسه مع الشخص الذي يتأمل الصورة لوحده فإنه سيجد فيها مالم يجده حينما مرّ عليها مع مجموعة. كما أن حالة الفرد النفسية من مروره بالحزن أو الفرح وحالته الجسدية من شعوره بالتعب أو الراحة تؤثر على تفاعله مع الصورة وعلى القصة التي ترتسم في خياله.

وليس مستغربًا أن نتوقع أشياء معينة من خلال اطلاعنا على بعض الصور؛ فمن يشاهد صور شلالات أو أرضًا خضراء في بعض المدن مثلا يتوقع أن المدينة كلها بهذه الكيفية وهذا التنظيم والأناقة فيرسم لتلك المدينة –التي لم يزرها- صورة معينة في خياله؛ حتى إذا جاء إلى المدينة اكتشف المفارقة بين تخيلاته وبين الواقع المعاش. ومن هنا فإن الصورة الفوتوغرافية الثابتة أو صورة الفيديو المتحركة هي في الحقيقة مجرد تعبير جزئي عن جانب معين من الواقع ولكنها على كل حال ليست هي الواقع وليست ممثلة عنه بصورة شاملة ودقيقة.

ولهذا دائمًا ما تخدعنا الصورة في الدلالة على حقيقتها من الأشياء أو من الأشخاص؛ فهناك من وقع في مصيدة الصورة حينما ظن -والبعض جزم- بأن الصورة معبرة عن «الكل»؛ وبنى على هذا الافتراض الحكم على الصورة «الجزئية». ومن أمثلة ذلك ما توقّعه البعض بأن رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع إنما هي ممثلة لـ«كل» بنات الرياض؛ والحقيقة أنها لا تمثل إلا جزءا قليلا يمكن التمثيل له بالشخصيات الروائية وربما ما يقابلها في الحياة الواقعية فحسب دون أن تشمل «جميع» بنات الرياض. وتلك الرواية مثلها مثل أي صورة عن مدينة الرياض يُكتب تحتها «مناظر الرياض» أو «مدينة الرياض». إن محتوى المادة ليس إلا جزءا من الشيء، ويصعب -بناء على ذلك- التعامل مع هذا الجزء على أنه الكل. إننا نستطيع فقط الاستدلال من هذا الجزء على سمات معينة تخصه، وهي سمات ربما تكون أظهر أو أبرز من سواها من السمات الأخرى غير المذكورة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى