السبت ٢٤ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم عناق مواسي

الضوء السري

الليل في غرفتي عطرٌ أثيري يتمسد فوق سطح جسدٍ لا يخالطه سوى رائحة العتمة وطعمها وصوت الحشرات التي تئن في إنكماشات العشب المغتال تحت النعال..

أتذكر تلك الليلة ذكرى أصابعي حين عزفت أبجدية الحرف في مرّاتها البكر وهي تتحسس كيف انهمر اللون على السطور نقشـًا تذكاريـًا في تاريخ الكتابة.

الليلة التي فتحت عيني على الوجـه الآخر من الحقيقة التي لا نراها بعينين تنامان تحت جفنين ناعسين من وهج البحث الممتد نحو الأبدية.. أدركت أن فوضى الأشياء التي تحوينا وتحوم بيننا هي ترتيب آخر منطقي مستساغ لوجودنا مع ذواتنا بشكل آخر .

تنبهت وأنا على سريري الساكن أن ثمة يقظة تشق طريقها نحوي وثمة رعشة تنفث رائحتها القوية إلى سمعي، لم أع أن لهذه الحواس صيغةٌ أخرى إلى إدراكات عالم جواني.. تتفاعل معه وبه بطريقة ما..

ساورني خوفٌ داكنٌ أن أحدًا إلى ليلي المهدد بالضوء يقترب.. أسرعتُ إلى البابِ وتسمّرت وراءه، ويدي تقبض يد الباب، فادفعه نحو الجهة المغلقة بكثيرٍ من القوة.. وكلي يقين أن لا أحد سواي هنا!

لا أحد

نعم... لا أحد

ضجيجٌ وأصوات وكلامٍ وانينٌ وحشرجةٌ في الصدر مخنوقة تتمددُ على مساحة الأوتار...

لكن لا أحد..

صحيحٌ أنني لم أفهم شيئا من توافد الصدى إلي، لكني على يقينٍ أنها أصوات حناجر بالبوحِ دامية، بالوجع قانية وبالتردد فانية..

تأتي إلى ليلي..

إلى نفسي..

إلى اسوداد الضوء..

إلى ضوء العتمة..

أصواتٌ تنخر في الجمجمة، أسمعها وأكاد أصرح بأني لا أطيقها لكن الخوف كان أكبر من حجم صراخي المكتوم

ولا يعقل أن أبقى كل الليل وظهري ملتصقٌ بالباب من الخوف..

استجمعت قواي وفتحت الباب للمواجهة

دهشةٌ تنفثُ سمها في وجهي

خلف الباب لا أحد..

بجانب الحيطان لا أحد..

في الزوايا لا أحد..

لا أحد.. لا أحد.. لا أحد...

وهناك صوت أحد

ألف مستحيل أن يتغمد الصوت في حيطاني الخرساء ولا ينكسر في الغرفـة

يبدو أنها أصوات من في الروايــة ..

نعم إنها أصواتهم بلا شك!! تذكرت أني اقرأ روايات كثيرة، يبدو أن التماهي مع روايات التهجير وصل حد اندماج حواسي في السطور، وجعلني اعتقد أن الأبطال يتكلمون وينزفون وهم يدافعون عن خيامهم المصنوعة من القش أمام الجنود في نيبراسكا، وصهيل الخيول يوقـع صداه في الأفق... هذا هو نحيب الفقدان وحسرة التألم على الحاضر الذي يتناثر كرمال صحراوية أمام العيون، فيصبح بين صهيل وضحاه ماضٍ يستدعي حرباً أهلية لإعادة القش والخيام.. على الأرض الأصلية وحفاظًا على الحق التاريخي.. حقـًا هذا هو صوت المعركة..

توجهت بجنون إلى الحمام لأغسل جبني وأهدرت المياه لتسقط من السقف وخلعت ما تبقى من ملابسي الشفافـة، تعوذتُ من الشيطان وأغرقت نفسي بالمياه، وبقيتُ تحت المياه الهادرة طويـلاً...طويـلاً

ربما تمحـى الأصوات التي أيقظت مسامات جلدي..

فجأة سقطت آخر قطرة من الدش على أرضية الحمام وعملت دويـًا خفيفـا وتركت بؤرة الماء حلقات تتسع في المدى وأنا أراقبها كيف تذوب في الكمال..

وبصمت يمزقه صرير باب قذرٍ عدت إلى غرفتي أمشي بتثاقل وبلل مطمئنة أن الأصوات هاجرت إلى النسيان..

في الحقيقة لم أسمع أصوات ثانية في غرفتي تلك التي كنت قد قررت أن اتركها وأغادرها كي لا تكلمني الأشباح مرة أخرى.. وضحكت على نفسي لجبني،

"يبدو أني جبانة واستسلم بسهولة لأي محاولة اغتيال للحلم.. على ما يبدو أننا نمتحن قوانا في الضباب
لو كنت ولداً لطالبني أبي أن أواجه الليل بعريٍ لا يهاب الضوء لكن على ما يبدو أن الليل عدو الإناث!!

لماذا كنت تلزمنا البيت يا أبي عندما تبعد الشمس عن أصابعنا ولا نراها إلا في يوم عملها المتتالي؟ لماذا لم تجعلنا نسبر العتمة والضوء ونزوجهما لبعض ليرزقا بأبناء الحقائق المخبئة؟ والليل صار أشبه بذئب يحمينا البعد من عواءه!! آآآآخ لو لم أكن ما عليه الآن!! آآآآآخ..."

بدأت أصابعي تتجه نحو الشباك المطـل على الخد الآخر للعتمة لإغلاقه كي يتسنى لي النوم بأقل معدل رعب عقب ما تبقى من لي من هذا الليل الممعجن بالمفاجآت..

لكن الصوت تعالى باندفاع وحرقة ثانيةً، أغلقت الشباك بقوة وأغلقت عيني بجزع شديد وأنا أراجع تفاصيل هنيهة الإغلاق بسرعة البرق على ما وقع بصري عليه!!

كان ساجدًا باكيًا بين يدي السكون تحملق فيه نجمات تتجول في المدار

فتحتُ الشباك مرةً أخرى وصوبتُ بصري نحوه من جديد، ابتلعتني الدهشة ما يربو عن ساعات اليقظة

كان بعيدًا عني لكن انعدام تفاصيل إسقاطات الضوء كانت دافعـًا مهمًا لتركيز الحدث

تناسيت أي شيء حولي بتفاصيله المرهقة والمثيرة في النفس فوضى ورحت أصغي وأصغي ،

حبيبتـي.. حبيبتـي...
سامحيني.. سامحيني

اغفري لي خطاياي!!!

ما كنت أعرف أن الصلاة في معبد عينيك انتصار وارتقاء حتى إلوهية العرش

أصابعي معلقـةٌ عند بدايات الغسق وبدونك الغسق متنازل عن فخامة حضوره

أعترف باهتمامات هشة، تاركًا إياك وكيانك في انغماسات الفوضى، وأنت تأنين في مضجعك وتسافرين إلى الحزن بلا جواز سفر وتأشيرة دخولك إلى دنيا الرحيل مختومة بالحبر السري ..

قومي من ليلك، انتفضي من تحت التراب ، إصفعيـه ببوحك !!
يكفيك صمتـاً وموتـاً وموتـاً وصمتـاً

انتفضي..قومي.. إكسري وتكسري

رهبةٌ كأنها ما مرت وسكونٌ منساب كنسمة وو..

أتحبني؟ بالطبع ستقول لي نعم!! وأنت تخلع حذاءك اليميني بنظيره اليساري، وأنت تحرك رقبتك يمينُا ويسارًا وإبهامك وسبابتك تقبضان على ربطة عنقك تفككها، وأنت تمعجن بشرتك المشعرة بمعجون الحلاقة قبل أن تذهب إلى مسائك الثمل من المواعيد، وأنت تتنحنح بين ملعقة الشوربة ونظيرتها، وأنت تشطب يومك الفائت من الأجندة المعلقة على الثلاجة، تحبني وأنت مسرعٌ!!
بالطبع تحبني وأنت ترسل لي رسائلك "الإسماسية" بأنك مشغول وفي جلساتك التي لا تنتهي، وأنت تخبرني أن أعانق وسائد الفراغ بدلا من أذرعك!!

أنت تحبني في البعد وفي الغياب وفي السفر، تماماً مثل المهاجرين الذين لا يعرفون للنشوة طريقاً، إنهم يعرفونها فقط في المخيلة التي تسقطهم همًا ووهماًً

أنت هكذا تحبني !!!

تعرفت علي كحلمٍ وامتلكتني كحلم وفارقتني كحقيقة!! أهكذا هي قوانين الامتلاك !!!

ربما هكذا، على الأقل كان هكذا، كحلم نابليون في عكا، كحلم الطغاة في المقدس، كحلم الغزاة في أورسالم!!

وقبض على الرمل المسود ليلا، المبلل بدمع البرودة المتساقطة من مآقيه وراح يبكي ويبكي. ويتأوه بصوت غير مسموع وغير واضح..

وراح يجدد طقوس الولاء المتأخر والحقائق التي تذكرها علناً وهو يتوسل للغفران..

نسجتُ في ليلي البارد كنزةً من الشوقِ تدفئُ بها شوقك المتغمدِ في البعدِ، وحكتُ لكَ من كراتِ الرغبة جازرةً صوفية تتمرغ بها كي تشعل كوانينك فتتوقد فيك جمرات الحب، وأشهري خريفية عاريـة تنتظر الروح القدس في الاخضرار ...
ما تنفع الصلاة والمعابد مغلقة بنرجس الجبل الأخضر والليلُ يقفل أبوابها بمفاتيح العتمة ولا سبيل لإقامة الصلاة؟؟

أينـاكَ وعواءُ الاقتحام يطقطق شبابيك المملكة؟ أينـاك والهمُ ينخر أطراف التراتيل؟ أينـاك والبردُ يعري الحدود المقدسة؟ أينـاك وأنا أحرس جفنيك وما تحتهما؟ أينـاكَ وأنتَ في المساحة.. أفقٌ؟

كان شباكي مطلاً على انتهاء الأجساد الخامدة وتحت أديم التراب المغطى بإشكال مختلفة من الأبنية الرخامية بين رده الدهاليز..

منابت ورود وزنابق وحشائش وأحيانا أشياء من الفوضى الطبيعية التي تشق الصخر والرماد والحصى وتطلع لتستبشر الضوء...

انهض من السطور، انحدر من جبال الكلمات واخبرني، الآن اخبرني ، هل ستزور صمتي وتسكب اعترافك وأنت تعلم أني غير قادرة على الحراك؟ هل سأكون أنا التالية صورة أخرى منسوخة وملصقة في الذاكرة الجماعية؟ وحتى متى هذا الانسكاب من لحظة انتهاء الأجساد البعيدة عن الرؤية الفيزيائية؟
هيا اخبرني؟

هل سأكون هذه الخرساء التي اتخذت من الهوان أسلوبـًا في العشرة كي لا تتخذ الجرأة والقرار أسلوبــًا في الحياة والنضال؟ ومصيري كنساء بغداد اللاتي امتلأت بطونهن بانسكاب اليتم؟؟ هل سأتحسس رحمي الفارغة وأنا أعلل النفس وبالآمال ارقبها؟؟ وأنت تتحرك عبر الظل؟

حبه في الغياب وانهماكه بترتيب اعترافاته أمامها بلعبةٍ يتكلم الجميعُ بها لغة الإشارات فقط، وشوقها الذي يتبدد في الجو كدخان السيجار الكوبي وحبها الذي يذوب كشوكلاته سويسرية باذخة ينتهي في أول مراحل تعرفه على حاسة الذوق، مشهدٌ طرق ليلها جعلها تفكر ملياً في علاقتها مع حبيبها وهي تفتش عن الإجابات في رسائله ومكاتبيه وخيل إليها أنها تابعت الحلقة الأخيرة من سيناريو الاغتراب وهي من تفاصيل بعض الأشياء ركبت بعض القطع السابقة لمشاهد يمكن توقعها... وتمنت لو كانت أمامه لمواجهته وإخباره بالحقيقة التي يعرفها لكنه كان دائمًا يبتعد عنها...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى