الأحد ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
دراسة تحليلية
بقلم حسني التهامي

العوالم الدقيقة عند شاعر الهايكو

لعوالمُ الدقيقةُ عند شاعر الهايكو

تهيئةٌ:

تذكرت - وأنا أكتبُ هذا المقالَ عن تناولِ شاعر الهايكو لتفاصيلِ الطبيعة، وخاصة الكائنات ِالصغيرة كالخنفساءِ وغيرها من الحشرات - قصيدةَ "الطين" للشاعر إيليا أبو ماضي، رغم أنَّ أبا ماضي لم يرتدْ حقلَ الهايكو مُطلقاً. عندما قرأتُ هذا النص كنت حينها في مرحلة الإعدادية و لفت انتباهي أن الشاعر استقى مادةً كنا نعتبرها "تافهةَ ووضيعة". وتساءلتُ أيتركُ الشاعرُ الجمالَ الطبيعيَ ويلتفتُ إلى مثلِ هذه المادة؟ ثم قرأت تحليلاً للنص فوجدتُ رمزيةً واستعارةً مُطلقة جعلت لهذه المادة قيمة ومعنى جمالياً. لجأ شعراءُ المهجر بشكل عامٍ إلى الطبيعة وامتزجوا معها هُروباً من الواقع البائسِ. إذن هي نظرةُ رومنسية هروبية لا ترقى إلى التماهي معها حد القداسةِ عند شاعر الهايكو. والنص به تساؤلات تأملية كثيرة . استخدم الشاعر كلمة "الطين" كدلالةٍ رمزية للإنسان المتُكبر الذي نسى موقِعه الحقيقيَ في عوالمِ الكون والطبيعة، وربما استخدام هذه "الكلمة" التي اعتبرها بعض النقاد خروجا عن المألوف بتناول التفاصيل الدقيقة في الكون.

(1)

ينظرُ دائما شاعرُ الهايكو الياباني إلى التفاصيلِ الدقيقةِ في الطبيعةِ،وهذهِ الأشياءُ الصغيرةُ ترمزُ لأعمالٍ عظيمةٍ في حركةِ الكونِ والحياة. وليس أدلَّ على ذلك من نصِ الضفدعةِ لباشو:

بركةٌ قديمةٌ ساكنةٌ . . .
ضفدعٌ يَقْفزُ إلى..
صوت الماء!

فالضفدعةُ تمثلُ الإنسانَ كمحور أساسي لهذا الوجود ، وطرطشُتها للماءِ ما هي إلا تلكَ الأعمالَ البسيطةَ للإنسانِ في الكونِ الهائلِ الذي تُمثله البحيرةُ في النص. لكنَّ هذا العملَ الصغيرَ مهمٌ ومركزيٌ بالنسبةِ للشاعرِ،إذ تنطلقُ بتأثيرِه حركةُ الكون .

للنظرْ لنصٍ آخرَ كتبه باشو :

هدوءٌ:

يتسربُ إلى الصخور ،
صوت الزيز (P. Jones 17)

ربما لا ينتبهُ الإنسانُ العاديُ أو أيُ شاعرٍ غيرِ شاعر الهايكو لمثلِ هذه الكائناتِ الصغيرةِ، ذلك لأنَّ شاعرَ الهايكو يتسمُ بالملاحظةِ الحادةِ والثاقبةِ للأشياء. فنَصُ الهايكو في واقعِ الأمرِ يعتمدُ على حسِ الشاعرِ وحدَسه. وهنا اعتمد باشو في قصيدتهِ على حاسةِ السمعِ لنقلِ صورةِ الطبيعية الحسية عبرَ الكلماتِ التالية: "هدوء" "يتسرب" و"صوت". في السطر الأول توحى كلمة"هدوء" بالعزلةِ. ثم يكسرُ حدةَ الهدوءِ صوتُ تسربِ صوتِ الزيزِ إلى الصخور. يتمُ نقلِ هذا العملِ الصغيرِ في الطبيعة بلغةٍ بسيطة ولكنَّ هذا الحدثَ رغم صغرهِ ووضاعتِه يترك أثراً كبيراً على الأشياء. وشاعرُ الهايكو يقومُ بدورِ الوسيطِ الذي يستخدمُ حواسَّه لنقلِ لحظةٍ معينةٍ في الطبيعة، ومع ذلك يلعبُ دوراً في إظهارِ الجمالِ غيرِ المرئيِ، أو غير المعروفِ لهذا المشهد الطبيعي دونَ تدخلٍ منه في مجرياتِ الحدثِ مُطلقاً. يصف هاكيتاني هذا الأمر بقوله: "بينما يصفُ الشاعرُ مثل باشو ظاهرةً طبيعيةً بشكلٍ واقعي،فإنه ينقلُ تصورَه الفوري بأنَّ الطبيعةَ عميقةٌ للغايةِ وصامتةٌ تمامًا." (12)

(2)

إنَّ بعضَ قصائدِ الصوريين تقتربُ من نَهجِ شُعراءِ الهايكو تجاهَ الطبيعة. ومثال ذلك قصيدة "ضباب الخريف" لآمي لويل وهي من الأعمالِ المُبكرة التي كُتبت بذهنيةِ الشاعرِ الصوري:

أيعسوبُ أم ورقةُ قيْقب

ذلك الذي يستقرُ بهدوءٍ على الماء؟ (P. Jones 89)

يمثلُ هذا النصُ مرحلةً شعريةً تقتربُ من وعيِ الشاعرةِ بفكرة الهايكو. فلا نكادُ نلمحُ ذاتَ الشاعرةِ في النص حيث تتركُنا مع الطبيعةِ بموضوعيةٍ تامة. تتسمُ القصيدة أيضا بالإيجازِ والتكثيف. تصورُ الشاعرةُ حركةَ الطبيعةِ الصغيرةَ بالكلماتِ وتتركُ الأشياءَ تتحدثُ عن نفسها دونَ إقحام الذات. فالشاعرةُ لا تستطيعُ رؤيةَ الأشياءِ التي ترسو على وجهِ الماءِ نتيجةَ الضبابِ الذي يحدُ من قدرتِها على الرؤيةِ بوضوح. وانعكست هذه الضبابيةُ والحيرةُ أكثرَ في السطرِ الأخيرِ من خلالِ سؤالٍ لم تضع الشاعرةُ له جوابا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى