الثلاثاء ٢١ أيار (مايو) ٢٠٢٤
بقلم حسني التهامي

الهايكو وامبراطورية العلامات «خرق المعنى»

الهايكو وامبراطورية العلامات "رولان بارت"

(1) خرق المعنى

دائما ما نتصور كتابة الهايكو بالأمر اليسير؛ وهذا ضرب من الخيال، يعزز هذا التوهم بساطة النص التالي ليوسا بوسن:

إنه المساء الخريفي
كل ما يشغلني
والداي

يفتح الهايكو شهية كثير من القراء في الغرب، فنراهم يحلمون بالتجوال في مجاهل هذه العالم، وهم يحملون مفكرات صغيرة يسجلون فيها "انطباعات" ينبثق الكمالُ من شكلها الموجز، والعمقُ من رحم بساطتها (يرجع الفضل في هذا إلى أسطورة ذات طابعين: أحدهما كلاسيكي يرى أن الفن يكمن في الإيجاز، والآخر رومانسي يعزو جوهر الحقيقة إلى العفوية) وعلى الرغم من أن الهايكو يتسم بالوضوح والبساطة؛ إلا أنه لا يعني شيئا، وبتلك الاشتراطية المزدوجة يبدو أكثر انفتاحا على المعنى، وأقرب إلى الذائقة، على طريقة مُضيّف مهذب يتيح لك حرية اختيار ما تشاء من قيمٍ ورموزٍ.

"غياب" الهايكو (نقول ذلك عن مالك عقار يذهب في رحلة مشتت الذهن) يوحي بإحداث خروقات وانتهاكات لاغتنام المعنى الذي نعتبره نفيسا وجوهريا. عندما نقوم بـ (ترجمة الهايكو)، يتحرر من قيد الأوزان، فيمنحنا الكثير مما نصبو إليه. في الهايكو، يمكننا القول بأن: الرمز، والاستعارة، والمعنى الأخلاقي على الأغلب أشياء لا قيمة لها: فذلك النوع من الكتابة ما هو إلا بضع كلمات ومشهدا حسيا وعاطفة: في حين أن أدبنا عادة ما يتطلب قصيدة أو حدثا متشابكا، أو فكرة منمقة (في الأنماط الموجزة)، وباختصار عملا بلاغيا مُطولا. يبدو أن الهايكو يمنح الأدب الغربي أشياء غير مقبولة لديه؛ كتناول ما نعتبره تافها وعاديا، بطريقة مختزلة، عبر التقاط ما نراه وما نحسه لإحداث نوع من الدهشة؛ بينما تعزز كتاباتنا فكرة الذات: فقط ذاتك جديرة بصنع وجاهتك، مهما يكن أسلوبك في الكتابة، فإنه سينم عن معنى ويتضمن رمزا ويحمل عمقًا: وعلى أقل تقدير ممكن، ستكتنز كتاباتك.

يبلل الغرب كل شيء بالمعنى، مثل دين استبدادي يفرض معموديته على العالم بأسره، متبعا طريقتين لكي يُجنّبَ الخطاب فراغ المعنى: الرمز/ الاستعارة والمنطق / القياس، وانطلاقا من هاتين العلامتين، يتم إخضاع اللغة بشكل منهجي (في محاولة يائسة لملء زائف قد يكشف خواء اللغة) لـ (أي من هاتين الدلالتين) أو لتلفيقات العلامات النشطة. إن الهايكو القائم على فرضيتي: البساطة والمألوف، - إذا جاز لنا التعبير في علم اللغة – لا تستهويه تلك العلامات المتعلقة بالمعنى. في حين أننا نرفقه بهذا النوع من المشاعر العامة والتي نطلق عليه "الأحاسيس الشعرية "، انطلاقا من رؤيتنا له كقصيدة شعرية، (بالنسبة لنا، عادة ما يكون الشعر دلالة على" الإطناب " و" المشاعر " و" البعد عن تجسيد الصور الحسية "، "إنها مجموعة انطباعات غير قابلة للتصنيف)؛ نحن هنا بصدد " أحاسيس مكثفة " و" رصد أمين للحظة نادرا ما تتكرر، "وفوق كل شيء لـ " الفراغ" الذي يُعدُّ لدينا (دلالة على المنجز اللغوي). في النص التالي لـ "جوكو" (Joko) ، أحد شعرائهم، سندرك مفهوم اللحظة العابرة:

كم من العابرين
جسر سيتا
تحت أمطار الخريف!

لنتأمل نصا آخر لـ (باشو):

أعبر الطريق الجبلي.
آه! يالبهاء
الأرجوان!

هنا سرعان ما سيُقدم القارئ الغربي على تفسيرالمعنى وتوظيف الرمز موضحا أن باشو قد التقى بناسك بوذي، أثناء عبوره الطريق الجبلي؛ وعلى هذا الأساس يشير الأقحوان إلى "زهرة الفضيلة ". يظل تفسير المعنى غاية كبرى في نص ذي ثلاثة أبيات (مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا 5-7-5)، يحتوي على مكونات ثلاث: (مفتتح/ دهشة / قفلة):
بركة عتيقة:

ضفدع يقفز …
طرطشة الماء

في هذا النص؛ يفرض البعض القياس والاستعارة عنوة، ظنا بأن استبعاد هاتين الخاصيتين سيجعل تناول القصيدة مستحيلًا: تلك الطريقة في تناول الهايكو، هي مجرد تكرار للنص، وهذا ما فعله أحد الشُرَاح لباشو، بطريقة ساذجة وسطحية:

تمام الرابعة ...
استيقظت تسع مرات
أتأمل القمر.

"إن القمر غاية في الجمال"، يستطرد شارح النص قائلا " لدرجة أن الشاعر يصحو من نومه مرة بعد أخرى كي يتأمله من النافذة". هكذا يسعى الغرب إلى فك شفرة النص، وتفسيره للنفاذ إلى المعنى، والولوج إليه فقط لمجرد الولوج إليه - وليس لخلخلته، تلك الحالة أشبه بمتدرب زن – حيث لا يشفع له اجتيازه الـ"كوان" - ، إخفاقه في كتابة الهايكو؛ لأن فعل القراءة لديه تعطيل للّغة، وليس استفزازا لها: إنها مغامرة أدرك باشو نفسه، وهو سيد الهايكو، مدى صعوبتها وضرورتها:

فواعجبا
لمن لا يرى "الحياة عابرة"
حين يومض البرق !

الكوان公案 .هو تدريب ذهني على موضوع ما للتأمل يلقيه المعلم البوذي على المتدرب (المريد)، ويطلب منه الإجابة بعد تأمل، وينصحه بالابتعاد عن طرق التفكير المعتادة مثل: المنطق، والمقارنة ،ومحاولة إيجاد طرق أخرى للوصول إلى صلب الموضوع وهو غالباً ما يكون الهدف الأساسي للبوذية ويطلق عليه "الاستنارة".

* نشر المقال في مجلة البيان الكويتية عدد شهر يناير 2024، وهو ضمن أربعة مقالات مجتزأة من كتاب رولان بارت الشهير " امبراطورية العلامات.

* "رولان بارت" (Roland Barthes 1915-1980) فيلسوف فرنسي وناقد أدبي ومنظر اجتماعي وسميولوجي. نال شهادة في الدراسات الكلاسيكية من جامعة السوريون عام 1939. كان لفكره بالغ الأثر في تطور مدارس أدبية عدة كالبنيوية والماركسية وما بعد البنيوية والوجودية، كما كان لآرائه الفكرية تأثير كبير في تطور علم الدلالة. يعد بارت واحدا من كبار الفلاسفة الذين أرسوا تيار ما بعد الحداثة. من مؤلفاته : لذة النص، الأدب والواقع، موت المؤلف، من البنيوية إلى الشعرية، الغرفة المضيئة، هسهسة اللغة، مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص وامبراطورية العلامات وغيرها ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى