السبت ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٢٣
بقلم نجاة بقاش

القرار..

قرر.. يقرر.. قرارا وتقريرا.. ومقرر.. فهو فعل.. وفاعل.. ومفعول.. ومصدر.. هذا القرار من ذاك المقرر.. قرر أمرا.. اتخذه قرارا.. أصر وصمم بشدة.. فكان قرارا..

القرار هدف وغاية.. سلطة وتقدير.. إقناع واقتناع.. وضوح واستشراف.. توقع لأخطار.. القرار صحة وتدقيق.. حكمة وإمعان.. بناء وتفكيك.. تفاعل وإبداع.. نظر وتبصر.. عزم وحسم.. القرار تشخيص وتحليل.. تفكير وتعليل.. إشعار وتبليغ.. القرار فهم وتمكين.. إنجاز وتوقيع.. قضاء وتنفيذ.. رموز وأشكال.. خطوط على هامش أوراق.. القرار حركات غايتها تغيير وتعويض.. تعبير بجرة أقلام.. تغيير في أحكام أو إبقاء على أحوال.. تقدم نحو الأمام أو نكوص إلى الوراء.. القرار سلاح ذو حدين.. إما بلوغ الأهداف أو وقوع في أخطاء.. اتخاذ القرار تكليف وتشريف.. مسؤولية عقابها جسيم.. رحلة ذهاب وإياب.. بين الشك واليقين.. بين الماضي والآتي.. بين الموضوعي والذاتي.. مواجهة عنيفة تجمع بين الاثنين.. بين سلطة التقدير وسلطة الضمير.. بين ملائمة الإجراءات وحرية الممارسات.. أخذ القرار أشبه بمواجهة المصارع للثيران.. يستدعي الكثير من التأمل والإبحار.. القرار يشمل الفعل أو القول.. أو الاثنين معا.. هو خيار بين عدة خيارات.. ووجهات نظر تحتمل الخطأ أو الصواب.. هو وقوف على وقائع وأحداث.. بناء على تشخيص ودراسات.. مقترحات واستشارات.. وفق "براديغمات" paradigmes ومرجعيات.. قد تصيب الهدف النبيل أو تسيء الظن والتقدير.. يخضع القرار لفلسفات ونظريات.. تؤطره قوانين واستراتيجيات.. قد تعيقها عقليات وأقليات.. معتقدات وإديولوجيات.. اتخاذ القرار يستدعي.. نضجا وشجاعة.. نبلا ومروءة.. قد يجعلك تحس بالمتعة والفخامة.. أو يلقي بك بين أحضان الندامة.. القرار حبكة وذكاء وحكامة.. صفاء ونقاء ونصاعة.. نقطة فاصلة بين محايد ومنحاز.. خيط رفيع بين عبقري ومجنون.. جدلية المطلق والمقيد.. جدلية الاتزان والتهور.. القرار عملية ذهنية ونفسية معقدة.. متعددة المقاصد والأبعاد.. هنا تكمن صعوبة اتخاذ القرار.. وضرورة اتخاذ الحذر.. هنا تكمن صعوبة انتقاء المسؤول وإجبارية أداء القسم..

هنا العاصمة.. الساعة تشير إلى الخامسة.. قرر الوزير أن يستيقظ باكرا.. أن يأخذ قرارا حاسما.. أخذ حماما ساخنا.. مستحضرات بعطر خشب الصندل والياسمين فائحا.. بعطر المسك الأبيض ممزوجا.. وفي للعطور الفرنسية.. وفي لأساليبه الإيطالية.. لتلك النشرات الإخبارية.. الوطنية.. للعادات الصباحية.. تذكره بالحياة اليومية.. خيط رابط بين العالمين.. عوالم العلية العليا.. والعوالم السفلى الأخرى.. اتجه نحو خزانة ملابسه مسرعا.. أمام البذل الإيطالية والفرنسية يقف منبهرا.. بين السوداء والرمادية يجد نفسه حائرا.. للون الأزرق و"الكاجوال" يبقى منجذبا.. للقميص الأبيض معانقا.. للأيام الماضية مازال متذكرا.. لأشيائه الثمينة متفقدا.. انتقاها بدقة متناهية.. تليق بالقرار.. تليق بالمقام.. ربطة العنق مربوطة بغاية الإتقان.. عطور فرنسية وشرقية تصاحبه في كل مكان.. ساعات سويسرية تأخذ الألباب.. نظارات شمسية ماركات عالمية.. مصطفة تنتظر ثناءه.. تود رضاه.. تضفي اشراقة على محياه.. سجائر إماراتية رفيعة المستوى.. لا يقبل بسواها.. تقبل بحنان شفتيه.. تحترق فداء لعينيه.. حيل ذكية تزيد الوزير بهاء وثقة.. في شرفته المطلة على الدنيا.. حيث النسيم العليل والرياح الخفيفة.. تدلل خدوده الوردية.. تذكره بالديار الأوروبية.. بطعم الويسكي والفانيلا.. يحتسي الوزير قهوته الصباحية.. نكهة تسافر به نحو البراري البرازيلية.. وجبة إفطار على الطريقة الفرنسية.. وهو يستمتع بمعزوفات "كلايدرمان" الشهيرة.. فقبل ولوج عالم الرسميات والمجاملات.. حيث القرارات والتوقيعات.. حيث المتاعب والصعوبات.. يترك الوزير عالمه المريح.. ليتجه نحو سيارته الفاخرة.. سوداء اللون.. ألمانية الصنع.. رباعية الدفع.. امتداد لعالمه المريح.. يتسلم أمين سره محفظته الثقيلة.. محملة بملفات في غاية الأهمية.. يستقبل معطفه الرفيع.. بالحفاوة المعهودة.. ليبدأ الوزير روتينه اليومي.. بإعطاء تعليماته النيرة.. عبر الرسائل القصيرة.. في مظهره، يبدو الوزير كالمشاهير.. يبدو تائها شارد الذهن.. ما أصعب أن يأخذ الوزير قرارا.. من صحة المعلومات ليس متأكدا..

عمري سبع وستون سنة.. لطريقة تفكير الوزير ما زلت أجهل.. أمام مكتبه أنتظر.. للمذكرات أتصفح.. على قراراته أتأسف.. على قول الحقيقة أتحفظ.. عمري سبع وستون سنة.. عن جدوى وجوده أتساءل.. على جبني وقلة حيلتي أخجل.. عمري سبع وستون سنة.. مازال الوزير لمقابلتي يرفض.. لقضيتي يتجاهل.. لمطالبي لا يستجيب.. على مكالماتي لا يجيب.. خارج التغطية يفضل.. على الجواب يعجز.. لوعوده يخلف.. بقراراته يظلم.. عمري سبع وستون سنة.. ثمة أشياء مازلت أجهل.. كيف للنوم أن يداعب جفونه.. وكيف للمرايا ألا تفشي أسراره؟.. إلا أنني أعرف جيدا.. كيف للحق أن ينتصر ولو بعد حين.. وكيف للجور أن يأتي على أهله.. قرر الوزير أن يخطب بين الناس حتى.. ضنناه الثقفي عادنا من العراق.. راح يلقي علينا لوما.. حتى ضنوا أننا أهل النفاق والشقاق.. فوق المنصة وأمام الأعين.. قرر أمرا خطيرا.. قرر توقيع الوثيقة.. قرر اغتيال القصيدة.. لم يكن الثقفي الذي ضنناه.. ولا المهدي الذي انتظرناه.. بل كان الوزير الذي قرر أشياء غريبة.. أن يكون "لثرلي" معاديا.. "لسايلا" مجاملا.. لحق "دياس" مصادرا.. "بكارلا" الاسبانية مفتخرا.. لدور الضحية متقمصا.. لدور "القاضي" محاكيا.. للقرون الوسطى منحدرا.. لغير زمانه منتميا.. قرر الوزير أشياء كثيرة.. قرر "ألا" يكون وزيرا.. قرر الوزير أشياء كثيرة.. قرر أن يعيدنا للوراء سبعة وستون عاما..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى