الثلاثاء ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
جولة لغوية أدبية
بقلم فاروق مواسي

القهوة

معنى (القهوة) في المعاجم القديمة الخمرة، ونقرأ ذلك في الشعر العربي:
يقول أبو نواس:

يا خاطبَ القهوةِ الصهباءِ يمهرها
بالرِّطل يأخذ منها مِـلْـئَـه ذهبا
يا قهوةً حرِّمتْ إلا على رجلٍ
أثرى، فأتلف فيها المالَ والنَّـشَـبا

ويقول:

أدرها وخذها قهوة بابلية
لها بين بُصرى والعراق كروم

وما أكثر ما استخدم هذه الكلمة في خمرياته:
"قهوة يحسبها الناظر إن صُبّت شعاعا؟ ...إلخ

ومن الشعر كذلك:

يقول حسين بن أحمد الكاتب:

قوما اسقياني قهوة رومية
من عهد قيصر دنُّها لم يمسسِ
صِرفًا تضيف إذا تسلط حكمها
موت العقول إلى حياة الأنفس

يقول الخالدي:

هتف الصبح بالدجى فاسقنيها
قهوة تترك الحليم سفيها
لستَ تدري لرقّّة وصفاء
هي في كأسها أم الكأس فيها

اشتقاق لفظ "القهوة" من الإقهاء لأنها تُقهي أي تكرّه عن الطعام، أو تُقعد عنه.
ورد في (لسان العرب) لابن منظور:

"سميت بذلك لأنها تقهي شاربها عن الطعام- أي تذهب شهوته، وفي "التهذيب" أي تشبعه.
تقهي وتقهم بمعنى واحد.

أما قهوتنا الحديثة فهي من نقيع البن، ونشربها بكثرة بأنواعها المختلفة، حتى أن مكان صنعها وصنع الشاي...إلخ سمي في الدارجة على اسمها (قهوة) وفي الفصحى اسم مكان من الفعل (قها)= مقهى. وأخذت معظم لغات العالم الكلمة ولفظتها بلفظ قريب من اللفظ العربي.
ومع الأيام زال استخدام القهوة بمعنى الخمرة في اللغة المعاصرة.

اكتشفت القهوة في بلاد الحبشة، وهم هناك يسمونها إلى اليوم (بونا= بُــنّ في لغتنا)، وقد رأى شاربوها أن غلي قرون البُـنّ يقدم سائلاً يخدّر قليلاً (تُـقْهي عن الطعام أي تخفف الشهية له- كما ذكر لسان العرب). ويقال- على ذمة موسوعة ويكيبديا- إن الرازي في القرن التاسع الميلادي ذكر القهوة في أحد كتبه.

درسنا ونحن أطفال بيتين جميلين عن القهوة- لم نعرف من هو الشاعر فيهما:

أنا المحبوبة السمرا
وأجلى بالفناجين
وعُود الهند لي عطر
وذكري شاع في الصين

ثم عرفت أن الشاعر هو مامية الرومي (ت. 1588 م)، وقد ذكر ذلك محمد إسعاف النشاشيبي في كتابه (البستان)، ص 5، وأضاف في شرحه أن "فنجان" أصلها بن+ كان أي وعاء للبُـنّ. وأما عود الهند فالمقصود هو الهال، وشيوع الذكر في الصين بسبب الفناجين الصينية التي كانت القهوة تتجلى فيها عند شرب القهوة.

بعد أن كتبت هذه المادة تبيّن لي أن المصدر الذي استقى منه النشاشيبي هو (الكشكول)- ج1، ص 111 للعاملي، فهو يذكر اسم الشاعر هناك، وأن البيت الأول فيه هو:

أنا المعشوقة السمرا
وأجلى بالفناجين

ثم عرفت أن لفظتي (أجلى) و (الصين) وردتا في كتاب "النور السافر في أخبار القرن العاشر" للعيدروس ، فهو يذكر البيتين التاليين (ج1، ص 182):

لله محكم قهوة تُجْلى لنا
في أبيض الصينيِّ طاب شرابها
فكأنما هي مقلة مكحولة
ودخانها من فوقها أهدابها

انظر عشرات القصائد في مدح قهوة البن، وكثيرًا ما نجد التعبير "قهوة البن" في شعر الشعراء الذين وصفوها.

http://books.islam-db.com/book/رسالة_في_الشاي_والقهوة_والدخان/1/27

... ثم كان هناك نقاش في بدايات شربها بين رجال الدين حول تحريمها، فألفت الكتب في ذلك، حتى قويت حجة الإباحة، وغلبت.

قال بعضهم يدافع عن إباحة شربها::

عرِّجْ على القهوة في حانها
فاللطف قد حفّ بندمانها
يقول من أبصر كانونه
أفٍّ على الخمر وأدنانها
فاشربْ ولا تسمع كلام الذي
بجهله يُفتي ببطلانها

لنشرب القهوة ونحن نقرأ ديوان خليل مطران، وها هو يصفها محبًّا:

أرأيت صوغ الدر في العُقيان
هذا حباب البنّ في الفنجان

وكذلك:

في كفّه فنجان تِبْر فاخر
قد فاح منه نشر بنّ عاطر
مترشّفًا فنجانه متمهلاً
كترشّف السكير كأس طِلا

(ديوان الخليل) ج 1، ص 154- 155.

من أجمل النصوص النثرية في القهوة ما قرأناه في كتاب (ذاكرة للنسيان) لمحمود درويش:

إليكم نبذًا:

"لا قهوة تشبه قهوة أخرى. لكل بيت قهوته، ولكل يد قهوتها، لأنه لا نفس تشبه نفسًا أخرى، وأنا أعرف القهوة من ‏بعيد تسير في خط مستقيم في البداية، ثم تتعرج وتتلوى وتتأود وتتلوى وتتأوه وتلتف على سفوح ومنحدرات، ‏تتشبث بسنديانة أو بلوطة وتتغلب لتهبط الوادي وتلتفت إلى ما وراء وتتفتت حنينا إلى صعود الجبل وتصعد حين ‏تتشتت في خيوط الناي الراحل إلى بيتها الأول".

" فالقهوة هي القراءةُ العلنية لكتاب النفس المفتوح .. والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار".

"القهوة لا تُشرب على عجل، القهوةٌ أخت الوقت تُحْتَسى على مهل، القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة تأمّل وتغلغل في النفس وفي الذكريات".

محمود درويش: (ذاكرة للنسيان)، ص17- 21.

ولا ننس قصة نجيب محفوظ "القهوة الخالية"، وهي تروي لنا حكاية الشيخ الذي فقد أبناء جيله واحدًا تلو الآخر.

وبعد،

فقد أصدر عبد المنعم شميس كتابًا في سلسلة "اقرأ" وسمه بعنوان: (قهاوي الأدب والفن في القاهرة)، وهو كتاب لطيف فيه تقاليد شرب القهوة، وفيه حكايا عن الأدباء وفكاهاتهم، وأخبار هذه القهاوي ومواقعها وميزاتها. وأذكر أن مجلة (أخبار الأدب) أصدرت عددًا خاصًا مميزًا بتفاصيل لا غنى عنها للباحث المستقصي. وهو ضمن الأعداد (نحو المائتين) التي أهديتها لمكتبة البلدية في باقة الغربية، فالأعداد غير مفهرسة، وأنت مضطر للبحث في كل عدد عن موضوع معين- الأمر الذي يستلزم الوقت والهمّة والدافع.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى