اللُّغةُ العربيّةُ مَيْدانُها الشِّقُّ الأيْمَنُ منَ الدِّماغِ
يرى التّربويونَ أنَّ الدِّماغ يتكونُ مِنْ شقّيْن: الشّقِّ الأيمنِ والشِّقّ الأيْسر، وأنَّ الشقَّ الأيمنَ معمارُهُ الأشكالُ والصورُ والموسيقى والإيقاعُ والزخارفُ والبنى الفنيّةُ، فيما يتمثلُ المنطقُ والفلسفةُ والأعدادُ، والحساباتُ في الشقِّ الآخر، وهو الشقُّ الأيسرُ، وتبعاً لذلك يتجلى في العددِ والمعدودِ، فمنْ يطرقُ مسألةً عدديّةً ، يستحضرُ الشقّيّنِ: الشقِّ الأيمنِ و تتجلى فيه الصورةُ ، والشقِّ الأيسرِ يظهرُ فيه العددُ، فيُؤنثُ العددُ تبعاً للمعدودِ الذي ظهرَ على شاشةِ الشقِّ الأيمنِ، فإنْ كانت الصورةُ تُظهرُ التأنيثَ ذُكّرَ العددُ والعكسُ صحيحٌ، فالقضيّةُ اللُّغويّةُ نجدُها تتولدُ في الشقِّ الأيمنِ، ويعالجُها تركيبيّاً في الشقِّ الأيسرِ، وينسحبُ ذلك على الصورةِ الفنيّةِ التي هي عمادُ الجمالِ وموطنُ البيانِ ، ومنها يخرجُ الأسلوبُ بتنوّعِ الأشكالِ، فالتراكيبُ اللُّغويّةُ يغلبُ عليها المنطقُ وهي تتربعُ الشقَّ الأيسرَ، وتلوّنُها الحواسُ بزخارفِ الشقِّ الأيمنِ، فتمسي العبارةُ المنطقيَّةُ موشاةً ومتشحةً بهندامِ البيانِ، فيكمنُ سحرُ العبارةِ في جماليَّةِ بنائِها.
وخيرُ مثالٍ على ذلك ، الصورةُ التي نلتقطتُها بعدسةِ الثقافةِ، عندما نتأملُ الآيةَ القرآنيّةَ، قال تعالى:"أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ"(إبراهيم: 24)
فقدْ ذُكرتِ الكلمةُ الطيّبةُ في الشقِّ الأيسرِ، وفي الشقِّ الأيمنِ ذُكرتِ الشجرةُ الطيّبةُ، وهنا نلمحُ الشجرةَ الطيّبةَ التي هي حديقةٌ من الأشجارِ الطيّبةِ، فهي نخلةٌ إن أحببتَ أن تنسجَ للكلمةِ الطيّبةِ وصفاً، وهي شجرةُ فاكهةٍ إنْ اخترت لها نوعاً، وهي عرائشُ العنب إن أردتَ لها توصيفاً، فالشقُّ الأيمنُ يشحذُ الخيالَ؛ كي تبنى أجملُ الأوصافِ لهذه الكلمةِ الطيّبةِ بشتى الأشجارِ، وكأنَّ الشقَّ الأيمنَ قد تعاطى مع الذائقةِ البلاغيّةِ الكامنةِ في دماغِ المتأملِ أو الصائغ لتبرِها، فالحواسُ تتجندُ للوصفِ، بينما خيطُ الفكرِ قد ارتبطَ بالشقِّ الأيمنِ، والشقُّ الأيسرُ يراقبُ البناءَ ومنطقيّةَ الصياغة.
فاللُّغةُ العربيَّةُ التي تربو على 12 مليون كلمةٍ، وتُكتب من اليمينِ إلى الشمال، قد انطلقتْ من الشقِّ الأيمنِ وعانقت الشقَّ الأيسرَ، علاوة على أنّها اللُّغةُ التي كُتبَ بها القرآنُ الكريمُ، وبقيت متألقةً على كرور الأيام، لم تطالْها شوائبُ الزمنِ وواكبت الحضارةَ والتطورَ، فهي لُغةٌ حضاريّةٌ ومتطورةٌ باستمرار.
الجانب التربوي للغة العربية
المتأملُ لطريقةِ التدريس التي كانت قديماً يجدُها تنهضُ على فكرةِ تقديمِ القاعدةِ النَّحْويّةِ التي هي من مداميكِ الشقِّ الأيسرِ بالغناءِ والإيقاعِ، فألفيّةُ ابنِ مالك قد نُسجت شعراً تعليميّاً ، وقُدمتْ للأجيالِ بتأثيرِ الشقِّ الأيمنِ الكامنِ فيه اللحنُ والإيقاعُ، فعندما يُطلبُ إلى الطالبِ قاعدةً ما نجدُهُ يتغنى بأبياتٍ شعريّةٍ، ومن ثمَّ يقدمُ القاعدةَ والسياقَ الذي يناسبُها، فمن يسألُ عن أقسامِ الكلامِ فالمنطقُ يقولُ: اسمٌ و فعلٌ و حرفٌ، وعندما يتدخلُ الشقُّ الأيمنُ نجدُ بيتَ الشّعرِ المغنى:
كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقم واسمٌ وفعلٌ ثمَّ حرفٌ الكلم
وإذا أرادَ الطالبُ معرفةَ أحكامِ التجويدِ، يقدمُ قصيدةَ التجويد أو الشّعر التّعليميّ، ومن ثمَّ إلى الشقِّ الأيسرِ؛ كي يستخرجَ القاعدةَ المنطقيَّةَ، فالبدايةُ من الشقِّ الأيمنِ، وهذا دليلٌ آخرُ على أنَّ اللُّغةَ العربيّةَ دون اللّغاتِ قاطبةً ميدانُها الشقُّ الأيمنُ.
ولدى حفظِ الأبياتِ الشّعريّةِ نجدُ الطالبَ يتثاقلُ من حفظها، إنْ تمَّ التركيزُ على الشقِّ الأيسرِ، ونجدُهُ يتغنى بالقصيدةِ إنْ قُدمتْ بلحنٍ جميلٍ آسرٍ؛ لذا نجدُ الشّعرَ قد نُسجَ على بحورٍ شعريّةٍ مغناةٍ، وهي التي تتفقُ واللحنَ والموسيقا وهما من ركائزِ الشقِّ الأيمنِ، فبدلاً من حفظ أبياتٍ معيّنةٍ يحفظُ الطالبُ القصيدةَ كاملةً إنْ درّست له بالأيمنِ أولاً، ومن ثمَّ بالأيسر، ويتجلى الاثنان عند الإلقاء تباعاً.
ميدانُ الإبداعِ في اللُّغةِ العربيّةِ
ممّا لا شكّ فيه، أنَّ المتأملَ فيما يحيطُ به يلفي تربةً خصبةً تنطلق منها دوحة ُ الإبداعِ، فمنْ يُعملُ فكرَهُ يُفعّلُ محركاتِ الشقِّ الأيمنِ، من تأمّلِ للأشكالِ، ودقةِ الوصفِ، وقوةِ الملاحظة، يمتشقُ قلمَة ويخطُّ سطورَ قصتِهِ أو ينظمَ أبياتَ قصيدتِهِ؛ إذ لا يتأتى له ذلك إلا إذا ابتنى المشهدَ في الشقِّ الأيمنِ والوصفَ المنطقيِّ في الشقِّ الأيسر ناسجاً عباءة قصتهِ، وكذلك وهو ينظمُ قصيدتَهُ بصورِها الفنيّةِ يكونُ قد أنعمَ النظرَ في عديد المشاهداتٍ والتأملات العميقة؛ فتنقدحُ الفكرةُ في الأيسرِ، ويلونُها بطيفِ البلاغةِ من الشقِّ الأيمنِ، لإنَّ هناك صوراً فنيّة يلتقطتها بعدسِةِ الكاميرا الذهنيّة من الواقعِ المحيط ِ، وتصبحُ من خصائصِ أسلوبِهِ ولا يجاريه فيها كاتبٌ آخرُ، ومن هنا جاءت فكرةُ المعجمِ الشعريّ للشاعرِ القادمةُ من حديقةِ الشقِّ الأيمنِ الثريةِ بما شاهدَهُ، فيبرز الإبداع بحلّة اختارها الكاتب لكلماته التي باتت ترفل بها في معارض أعماله، إنْ قصيدةً وإنْ شعراً وإنْ رسماً وإنْ صوراً.
اللُّغةُ العربيّةُ واللغاتُ الساميّةُ
لمّا كانتِ اللُّغةُ تزخرُ بهذا الكمِّ الهائلِ من المفرداتِ فقد كانت هي مصدراً للُّغاتِ الجزريّةِ المسماة باللغاتِ الساميّةِ، فهي اللُّغةُ التي اشتملتْ على 28 حرفاً ، وهي الوحيدةُ في اللُّغاتِ الساميّةِ التي تتكونُ من هذا العددِ من الحروف، فبقيّةُ اللُّغاتِ الساميّةِ تقفُ عندَ حدود 22 حرفاً، إضافةً إلى حرفٍ عُرفتْ به اللُّغةُ العربيَّةُ ولم يُعرفْ في اللُّغاتِ الجزريّة الأخرى وهو حرفُ الضّاد، وقد سُميتْ باسمِ الجزءِ؛ ليدلَّ على الكلِّ، إنَّها لغةُ الضّادِ، وهي لُغةٌ اشتقاقيّةٌ، وليستْ لغةً عازلةً، ولها أصلُ ثلاثيّ، ومزيدُ الثلاثي، والرباعيّ ومزيد الرباعيّ، وقد قسّمها ابن جني إلى اشتقاقٍ أصغرَ من الحروف الثلاثةِ للأصل يُؤخذُ منه المصدرُ والمشتقاتُ، ومن التباديلِ لهذه الأصلِ اللُّغويّ، نشأ الاشتقاقُ الكبيرُ، وما مدرسةُ الخليلِ في معجمِ العين إلا مثالٌ على هذه التباديلِ أو التقليباتِ، إضافة إلى التوافيق في تقليباتِ الرباعيّ، فالفكرُ الرياضيُّ كان حليفَهُ في الشقِّ الأيسرِ ، والمستعملُ والمهملُ في الشقّ الأيمن؛ ممّا يدلُّ على أنَّ اللُّغةَ تنطلقُ من الشقِّ الأيمنِ إلى الشقِّ الأيسرِ، وهذا لا نجدُهُ في اللغاتِ الأخرى التي تنطلقُ من الشقّ الأيسرِ في الأغلب الأعم إلى الشقّ الأيمن.
اللُّغةُ العربيّة والعبريّة
وبالوقوفِ عند قواعدِ العددِ، نجدُ أنَّ اللُّغةَ العربيّةَ في العددِ المُركبِ والعددِ المعطوفِ تجعلُ المعدودَ مفرداً ويُعربُ تَمييزاً، أمّا في العبريّةِ فنجدُ المعدودَ يكونُ في العبريّةِ جمعاً، فعندما نقولُ في اللُّغة العربيّة: ثلاثةَ عشراً ولداً، نجدُهُ في العبريّةِ تتفقُ والعربيّة في مخالفِةِ العددِ للمعدودِ، غير أنَّها تختلفُ في جعلَ المعدودِ جمعاً، فتقول: (شلوشه عسر يلديم: ثلاثة عشر ولداً)، وكذلك مع ما يلحقُ بجمعِ المذكرِ السالمِ (عشرين، ثلاثين ...)، فتأتي بالمعدودِ جمعاً، فتقول: (عسريم اشقليم: عشرين شيقلاً)، وعندَ الحديثِ مع الآخرِ نجدُهُ يكتشفُ أنَّكَ لا تعرفُ قواعدَ العبريّة التي تجمعُ المعدودَ، فبدلاً من قولِكَ عشرين شقليم ، تقول وَفقَ قواعدِ اللغةِ العربيّةِ عشرين شيقلاً، فتنفرد العربية بالتمييز المفرد، وتختلف عنها العبرية، علماً أنَّ العبريَّةَ تستخدمُ في التوراةِ المعدودَ مفرداً ويجوزُ فيها الوجهان، أما في العربيّة فالوجهُ الواحدُ، الإفرادُ للمعدودِ، فتقول: خمش عسره نفشاً: خمس عشرة نفساً، فاللُّغةُ العربيّةُ وهي الأساسُ، والعبريّةُ لهجةٌ منها.
وتبقى اللُّغةُ العربيَّة تاجَ اللغاتِ في يومِها، وفي أيامِها، والمستقبلُ لها؛ ذلك بأنَّها لُغةُ العلمِ والمعرفةِ والحضارةِ والتّطورِ، وهي نبراسٌ لكلِّ باحثٍ وكاتبٍ وشاعرٍ وأديبٍ.