المبدع أحمد الكبيري عداء الحكايا والمسافات اللذيذة
كان من المتوقع أن يصير بطلا عالميا في المسافات الطويلة، فقد جرب العدو لمسافة لا تقل عن سبعين كيلومترا، أطلق ساقيه للريح ومضى ذات يوم طفولي يطوي الطريق الرابطة بين مسقط رأسه بوزان ومدينة الشاون، قطع المسافة إياها في زمن قياسي، فرح به الأحبة وصنعوا له في أعماقهم مستقبلا زاهي الألوان برفقة ذهب الأولمبياد.
و كان من الممكن أيضا أن تكون له شأن آخر في عوالم أخرى، لكن الفتى خذل الجميع واستبدل المسافات بالحكايا الطويلة، هاجر نحو الرواية والشعر والحب العميق، ترك حلبة السباق، لينخرط في متاهات الأدب ولذائذه، لهذا يقول بأنه ما خذل الجميع، وإنما استبدل سباقا بآخر، بل إنه حافظ على نفس النوع من المسافات، بالانتصار للرواية أفقا للتجريب والحكي المديد.
في باريس الصغيرة، وزان أو دار الضمانة نشأ المبدع أحمد الكبيري، في ذات المدينة التي كانت تزدهي بحيها اللاتيني تماما كما مدينة الأنوار، وذلك قبل أن تعتل بالمسخ والانهيار، تعلم الفتى حب التراب، تعلم من جبال الريف كيف يكون الشموخ، وكيف يكون الابتهاج، لكنه سيختار الرحيل انهزاما في لحظة من سوء الأحوال النفسية، سيلتهم" الداد "، محاولا إنهاء علاقته بهذا العالم دون أن يتم الثانية عشرة سنة من عمره، ألم يقل لوركا بأن " فوق باريس، القمر بنفسجي، يصير أصفر، في المدن الميتة ". لكن الأقدار سترفض هذا الرحيل المدبر، وسيدمن الكبيري صناعة الحياة وينقلب بعدئذ إنسانا مبتسما في كل الأمداء.
من حكايا الجدة، ودروس الشارع البعيد، من التسكع الليلي، من سماوات البذخ وعذابات الانحناء، من الأسطوري والواقعي، بدأ شاعرا عميق الشعر، وفي سنة 1978 بالضبط كتب أول قصيدة تقطر حبا أسماها " لأول مرة تراك عيني "، ومضى الشاعر المحب يحاور الكائن والممكن، يسائل الحلم في انبنائه واغتياله. لكنه في لحظة ما سيجد نفسه منساقا نحو المسافات الطويلة عفوا نحو الروايات الطويلة.لقد صادق هذا ال " أحمد " اليراع منذ زمن بعيد، كان يحصل على أعلى العلامات في درس اللغة العربية، لكن من ينصت لأنجال الهامش المقصي؟ لقد مارس الحكي مبكرا، استجمع الجمر بين يديه ومضى يلهب القول الجميل لمواجهة الواقع العنيد.
من وزان إلى فاس شد الرحال، ليتخصص دراسيا في القانون، بالرغم من انفلاته وانقلابه الدائم على كل القوانين، هناك في فاس الأدب والسياسة وكل ما هو جميل، سيستمر المبدع أحمد الكبيري في رتق الأيام الرديئة، سيمضي بعيدا في الإخلاص للحرف والسؤال، يكتب مقاطع حزينة من زمن الفداحة، يحكي تضاريس الألم وآهات الانسحاق وزفرات الضجر وحشرجات الرحيل، سيكتب من أجل المعذبين في الأرض قبل السماء، لأنه القادم من جبال الشموخ والتهميش في آن، ولأنه يحمل في أعماقه قلبا كبيرا، فآل المسافات الطويلة لهم قلوب بحجم السماء.
سيلتحق الكبيري بالرباط ويستقر على ضفاف الوادي الرقراق بسلا العامرة، ليعمل في قطاع منقوع في الأرقام أكثر من الحروف، ويولد من جديد روائي بهي يكتب من أجل البسطاء، من أجل أناس لا يذكرهم أحد، أولئك الذين يتمثلهم مالكو وسائل الإكراه كخزان انتخابي فقط لإعادة إنتاج القائم / الماسخ من الأوضاع. ولأنه مقتنع ومؤمن بأحقية الهؤلاء في الحكي والإنكتاب، فإنه ينحاز إلى البساطة في التعبير، يلتقط الهامشي،و يعيد صناعته بهاء روائيا يأسر الخافق إلى غير المنتهى، فما جدوى الكتابة إن لم تكن من أجل القضية؟ وما جدوى الإنكتاب إن لم يكن من أجل الذين هم تحت؟ لهذا فالحرف عند صديقنا الباسم فاه مدى الحياة تعبير عن هم اجتماعي غائر، عن جرح نرجسي عميق، عن جيل المصابيح المطفأة.
و على طول طريق المصابيح المطفأة بفعلهم طبعا، كان المبدع أحمد الكبيري يكتب لغة اليومي والقاع الاجتماعي، ويقول ضمنا لمن استحبوا اغتيال الضوء وزراعة العوسج، يقول لهم بكل بساطة، بأن النور سيشع من رحم المعاناة، وأن المصابيح ستشتعل وستزورها الفراشات، أي نعم هي اللحظة مكسرة ومطفأة ومأوى لخفافيش الظلام، لكن الصبح لناظره لقريب، فالكبيري مدمن حلم وضحك ومسافات طوال.
يستمر الكبيري في العدو الروائي يعيد لمصابيح الزمن اشتعالها في عتمة البياض كما قال العزيز بلمو، يداعب جراح ذاكرة متورمة، بل منتصرة قبلا وبعدا لنوستالجيا الفائت البهي، يعيد اعتبارا مفتقدا لشخصيات أسطورية، للصديق الخياط المفتون بالشعر وإذاعة لندن، لرفاق الدرب وآل الجبل الذين حاق بهم السخط المخزني منذ زمن بعيد، إلى أن نحتوا عبارة "نطلعوا للجبل" الثورية بامتياز. ألم يقل بورخيس في سويعات البذخ الشعري " ذاكرة الزمن، مليئة بالسيوف والسفن، وبغبار المملك، وجلبة سداسية المقاطع، وبأحصنة الحرب العظيمة "، وذاكرة الريف مليئة جدا بالندوب،موغلة عميقا في الحزن والبكاء، ألهذا يحرص الروائي الكبيري على الضحك ملء القلب؟
حكاياه خليط من حناء وزعتر، ماء ورد وأريج زهر، لا يدع الفرصة تنتحر دون أن يهدي الأحبة ضحكا طفوليا، دون أن يحرضهم على الابتهاج والفرح مهما اكفهرت وعبست في وجههم الأيام، فالرواية عنده تفجير معتق للأحاسيس، بذر مستمر لشتائل الفرح والصمود، لهذا فهو يكتب تفاصيل الهوامش المنسية، يطوي المسافات الطويلة جنوب الروح الشقية، يعيد للمكان قبل الزمان ألقه المهدد بالانقراض، يروي عطشا بإكسير الولادة، يطرد حزنا بكيمياء الضحك اللذيذ، كما خبثا بالنفس الطويل.
عداء المسافات والروايات اللذيذة يحن دوما للعبة تحطيم الأرقام القياسية، إنه منشغل آنا بقراءة خمسين متن روائي، لقد جعل من السنة الجارية أفقا لتحطيم هذا الرقم، دون أن ينسى رقما آخر متصلا بالتخلص من عشر كيلوغرامات زائدة، ودون أن يتخلص طبعا من فرحه الطفولي بأحبته من آل الدروب، فعلى طول كل المسافات يظل المبدع أحمد الكبيري حالما باشتعال المصابيح، منحازا للهامش المقصي، منتصرا للبساطة والضوء العميق "فلاشيء سوى هذا الضوء، ضوء الصباح، الذي سيقودك على الأرض، ضوء هذا الصباح، إبرة في الأطلس، حبة في العتمة، عين مفتوحة على كنز" هكذا صاح بول إيلوار في قصيدة الحواس، وهكذا يستمر الكبيري في رتق الحلم الممزق على امتداد الوطن، يأخذنا إلى الغائر والحقيقي، بدون مساحيق تجميل، يحاور تضاريس النسيان، يحكي عن مآسينا الفادحة ويصيح عاليا بأن القناديل ستشتعل يوما، نكاية في جلادي العشق وصناع الألم. يستمر عداء المسافات والروايات اللذيذة في إهداء الفرح وتحطيم الأرقام وتطويع الحروف، لكن متى يشع نور المصابيح أيها الكبير أحمد؟