الجمعة ١٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم أحمد بلخيري

المصطلح المسرحي في الثقافة العربية

اهتم بعض المثقفين العرب، وبعض الهيئات العلمية والثقافية، بوضع المؤلفات والمصنفات الخاصة بمصطلحات هذا العلم أو ذاك، أو هاته المعرفة أو تلك. والسبب في ذلك الاهتمام هو الرغبة في تحقيق تواصل أنجع بين المشتغلين في المجال العلمي الواحد، أو المجال المعرفي الواحد أيضا. وكذلك من أجل ضبط أسس ذلك التواصل. وما هاته الأسس سوى المصطلحات.

وقد فطن أحد المشتغلين بعلم المصطلح الفلسفي خصوصا فقال : إن مدار الأمر، والغاية التي يجري إليها الكاتب والقارئ، إنما هو الفهم والإفهام. فإذا كانت معاني الألفاظ تختلف باختلاف المتكلم والسامع فكيف تتضح؟ وكيف تفهم؟ إن التفاهم بألفاظ متبدلة المعاني أصعب من التعامل بنقود متبدلة القيم، فلا بد للعلماء إذن من الاتفاق على معاني الألفاظ، ولا بد لهم أيضا من تثبيت الاصطلاحات العلمية، حتى لا تتبدل الحقائق بتبدل الألفاظ التي أفرغت فيها. إن الألفاظ حصون المعاني، وتثبيت الاصطلاحات العلمية هو الحجر الأساسي في بناء العلم .

أجل، إن ضبط المصطلح هو الحجر الأساس في بناء المعرفة وتطورها. علما بأن حياة المصطلحات نابضة دوما، لأنه لا حدود للطاقة العقلية والإبداعية للإنسان.

وقد يميل المرء ذات اليمين وذات الشمال فيجد أمامه عددا من الكتب المخصصة لوضع وجمع مصطلحات علم محدد ومعرفة بعينها. هذا في اللغة العربية ناهيك عن اللغات الأخرى. وقد تثير هاته المصطلحات نقاشا بين المتخصصين خصوصا في المعارف التي تدرج ضمن العلوم الإنسانية، وتستقطب المزيد من العناية والاهتمام.
لذا كانت الرغبة في دراسة المصطلح المسرحي في الثقافة العربية قديما وحديثا.
ولعل المرء يتساءل لماذا إقحام الثقافة العربية القديمة في موضوع مخصص للمصطلح المسرحي؟ خاصة بعد أن استقر في الأذهان أن العرب لم يعرفوا المسرح، وفق الطريقة الإيطالية، إلا في منتصف القرن التاسع عشر.

الواقع أننا لم نرد الإستسلام للأحكام الجاهزة، والنظرة العجلى. لذلك كان الحرص شديدا على ضرورة فحص وقراءة شروحات وتلخيصات الفلاسفة العرب لكتاب "فن الشعر" لأرسطو قراءة متأنية.
وقبل أن نشير إلى الخلاصة الرئيسية التي تم التوصل إليها في هذا الصدد، يحسن بنا أن نتوقف لا عند عدد من الآراء، بل عند رأي واحد يتكرر.

1- يقول محمد عزيزة في كتابه "الإسلام والمسرح" : وأخيرا عندما أراد (ابن رشد) أن يترجم كتاب (فن الشعر) لأرسطو واجهته صعوبة لغوية دقيقة عندما وجد نفسه أمام كلمتي (الكوميديا) و(التراجيديا). وقد خرج من هذا المأزق باستعمال كلمتين تقولان الشيء الكثير وتدلان دلالة واضحة على اتجاه تفكيره.
فقد استعمل كلمة (الهجاء) ليدلل بها على الكوميديا و(المديح) للتراجيديا.

وقد ارتكب بذلك خطأ له دلالته لأنه استبدل (الزمر الدرامية) ب (الأنواع الشعرية) ولا شك أن ابن رشد لم يكن جاهلا خطأ ترجمته، وأن التبرير المرتبك الذي يأتي به للدفاع عن ترجمته يؤكد في نفوسنا هذا الشعور، وهو أن التفكير الإسلامي قد تجاهل أو لم يرغب أن يتوقف أمام مفهوم التمسرح لنحاول إذن أن نعرف السبب" .

2- يقول محمد غنيمي هلال في هامش رقم 3 من صفحة 54 في كتابه "النقد الأدبي الحديث" : "... وقد أطلنا قليلا في هذه المسألة لأنها كانت مطموسة في القديم في التراجم العربية، ولهذا فقد كتاب الشعر أثره عند العرب، لأن هؤلاء ترجموا الملهاة بالأهجية، والمأساة بالمديح فمسخوا قضايا أرسطو ولا يزال هذا الخطأ لدى بعض من وازنوا بين نقد أرسطو وبين العرب" .

3- بعد الإشارة إلى عدم إقدام العرب القدماء على ترجمة مآسي الإغريق يقول محمد مندور : "ولذلك ضلوا ضلالا بعيدا حتى في ترجمـــة لفظي التراجيديا والكوميديا اللتين ترجمهما متى بن يونس بلفظي المدح والهجاء، عندما رأى أرسطو يعرف التراجيديا بأنها فن جميل يمتاز بالنبل وتمجيد البطولة بينما تهدف الكوميديا إلى نقد المثالب والعيوب... وضللت تلك الترجمة الخاطئة فيلسوفا كبيرا كابن رشد فأخذ يطبق الأصول التي وضعها أرسطو للتراجيديا والكوميديا على المدح والهجاء العربيين.."
4- بعد الإشارة إلى "أن العرب القدماء لم يعرفوا فن المسرح بأية صورة من الصور" ، ينقل سيد حامد النساج رأي محمد مندور السالف الذكر، ولكنه في هاته المرة مأخوذ من كتابه "الأدب وفنونه".
ذلك هو الرأي الذي ترسخ في الأذهان. وبسبب رسوخه تحول إلى مسلمة ويقين. لكن هذا البحث أعاد النبش في تلك الشروحات والتلخيصات فتوصل إلى رأي مخالف تماما يضاد الرأي السابق. ولم يكن بناء هذا الرأي قائما على فراغ، أو على جدال نظري قد لا يبدو مفيدا، وإنما تم بناؤه اعتمادا على الدراسة التحليلية للمتون العربية القديمة المقصودة. فكانت نتيجة هذه الدراسة انجاز معجم اعتمادا على لغة القدماء من الفلاسفة المسلمين.

إن هذا المعجم -الذي هو موضوع الفصل الأول- كفيل بدحض الرأي السابق، ورفع شبهة الجهل وعدم المعرفة عن أولئك.

واللافت للانتباه أن الرأي الواحد الذي تردد عند أولئك الباحثين اعتمد فقط على كلمتي هجاء ومدح، على اعتبار أن الأولى ترجمة للكوميديا، والثانية ترجمة للتراجيديا أو المأساة. لكن الحقيقة أن هناك مصطلحات أخرى عديدة، تكشف بالملموس معرفة الفلاسفة المسلمين للمسرح اليوناني. يكفي هنا أن نشير إلى : قوموذيا - طراغوذيا - ثيطرا - التنظيف - حسن الوجه - الدراماطا - المسكن - صناعة النفاق - المنافق الخ...
ولم يكن أولئك الفلاسفة العرب يخلطون بين الشعر اليوناني وأنواعه وبين الشعر العربي وأغراضه. إذ توجد عبارات تدل دلالة قطعية على أنهم كانوا على دراية تامة بالاختلاف بين الشعرين.

فهذا الفارابي يتكلم عن طراغوذيا، وديثرمبي، وقوموذيا، وديقرامي، ودراماطا، وايامبو، وافيقى وريطورى، واينى، وساطورى، وفيوموتا، وايفيجانا ساوس، واقوستقى . ولم يقتصر الأمر على ذكرها فقط، وإنما تعداه إلى تحديدها. و"هي أصناف أشعار اليونانيين ومعانيها على ما تناهى إلينا من العارفين بأشعارهم وعلى ما وجدناه في الأقاويل المنسوبة إلى الحكيم أرسطو في صناعة الشعر" .
والغريب حقا هو أن يتوصل إلى هاته الحقيقة باحث في الفلسفة الإسلامية وليس باحثا في مجال الأدب والمسرح كما هو الشأن بالنسبة للسابقين. ذلك أن جمال الدين العلوي يقول في كتابه "المتن الرشدي" عن تلخيص كتاب "فن الشعر" لأرسطو من لدن ابن رشد : "وليس في خاتمة تلخيصنا هذا ما يشعر بعدم اطمئنان ابن رشد أو عدم رضاه عما قدمه من تأويل أو تفسير لأقاويل أرسطو، وذلك رغم وعيه الظاهر بتباعد طبيعة الشعر اليوناني وطبيعة الشعر العربي، ومن ثم وعيه بصعوبة تطبيق القوانين الأرسطية في الشعر على ديوان العرب" .

ويعزز الباحث رأيه بكلام لإبن رشد لا يتعلق مباشرة بالتلخيص، أي برأي أرسطو، ولكن بموقف ابن رشد نفسه .
هذا، وتجدر الإشارة إلى إمكانية عقد موازنة أو مقارنة بين مصطلحات الفصل الأول أو بين المتون نفسها من جهة، وبين كتاب سيد حامد النساج "البناء الدرامي للمأساة عند أرسطو"، والفصل الثاني من كتاب غنيمي هلال السابق الذكر والمعنون ب "الشعر عند أرسطو" من جهة أخرى.
إن هاته الموازنة أو المقارنة خليقة بأن تبين -بدون شك- أن ما هو موجود في كتاب حامد النساج والفصل المذكور من كتاب غنيمي هلال -من حيث المحتوى لا من حيث المصطلحات- هو عينه الموجود في تلخيصات وشروح العرب القدماء.
على أن أولئك القدماء تضمنت تلخيصاتهم وشروحاتهم كل أنواع الشعر اليوناني، بينما لم نجد للأنواع الشعرية الأخرى -عدا المأساة والملهاة- ذكرا في المرجعين السالفين.

ليس هذا فحسب، بل أن أولئك القدماء اجتهدوا ووضعوا مصطلحات باللغة العربية تؤدي القصد المطلوب، مثل مصطلح المنافق، وصناعة النفاق. وابن رشد نفسه يميز بين المديح هذا الغرض الشعري المعروف في الشعر العربي، وصناعة المديح. إن المديح باعتباره غرضا شعريا يتعلق بشخص. أما صناعة المديح (أي التراجيديا أو المأساة) فلا تتعلق بشخص بل بفعل action، وبصفة خاصة الفعل النبيل أي الفاضل. "ومدائح الفضائل ليس توجد في أشعار العرب" . وبالإضافة إلى كون الفعل فاضلا فهو "كامل"، أي يتكون من سائر المكونات الفنية التي يتأسس عليها المعمار الفني التراجيدي.

صفوة القول، إن الفصل الأول يتضمن في ذاته أطروحة، من شأنها أن تصحح خطأ شائعا وتعدل تصورا.
أجل إن العرب القدماء لم يعرفوا المسرح -كممارسة- على النمط الغربــي، ولكنهم -وخاصة الفلاسفة العرب14 شراح أرسطو- عرفوا التراجيديا والكوميديا معرفة نظرية. وادركوا عدم وجودهما عند العرب في أشعارهم.
إن عنوان هذا البحث هو "المصطلح المسرحي عند العرب"، وليس المصطلح المسرحي العربي. والفرق بينهما عند القارئ اللبيب واضح لا لبس فيه. والواقع هو أنه لا مجال للتعصب العرقي في مجال المصطلحات المسرحية. إنها نتاج حضاري عام، تساهم مختلف الثقافات في بلورته وتشكيله. وهي كذلك دليل ساطع على تفاعل الثقافات وانفتاحها. يكفي أن نستحضر في هذا السياق "المسرح الملحمي" وهو مصطلح ألماني حديث وضعه برتولد برشت، و"مسرح القسوة" للفرنسي انطونان أرطو، و"مسرح المهاجرين"15 الذي كان موضوع دراسة من قبل فردريك معتوق، و"مسرح النقد والشهادة" أو "المسرح النقدي"16 لمحمد مسكين إلخ. وعلى هذا الأساس، يمكن الحديث عن هجرة المصطلحات المسرحية.
على ضوء ما سبق تمت دراسة المصطلح المسرحي عند العرب. ولما كان العنوان محصورا في الإطار العربي، فقد كانت فصول هذا البحث محصورة في ذلك الإطار. وهكذا أمكن لنا أن نتتبع توظيف المصطلح المسرحي في الثقافة العربية القديمة والحديثة.

وبالنسبة لهاته الأخيرة، فقد كان التتبع انطلاقا من المعاجم ذات الصلة بالثقافة المسرحية. وفي هذا الإطار كانت الدراسة المفصلة لمعجم ابراهيم حمادة "معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية" على وجه الخصوص.

وقد عن لنا -من خلال الدراسة- أن الحاجة ماسة لتتبع المصطلح المسرحي ومحاولة تحديده، اعتمادا على المادة العربية وليس الغربية كما هو الشأن بالنسبة لمعجم ابراهيم حمادة السالف الذكر. وقد كانت ثمرة ذلك وضع "معجم صغير" خاص بالمصطلحات المسرحية حسب تداولها عند العرب.
لقد وصفنا هذا المعجم -الفصل الثالث من هذا البحث- بكونه صغيرا من حيث عدد المصطلحات. والواقع أن هناك اغراء قويا لمواصلة السير في هذا الاتجاه، من أجل إنجاز معجم "كبير"، يكون خاصا بالمصطلح المسرحي عند العرب.

غير أن مفهوم المعجم -في إطار الثقافة المسرحية- لا يقتصر فقط على المصطلح المسرحي، بل إن الضرورة تقتضي إنجاز معاجم أخرى لا تخرج عن نطاق الثقافة المسرحية. وفي هذا السياق، يبدو مفيدا الإلحاح على ضرورة إنجاز "معجم للنصوص الدرامية"، و"معجم للمؤلفين الدراميين"، تيسيرا للراغب في الاطلاع أو تكوين صورة عامة أو معرفة جوانب من الثقافة المسرحية العربية. ومن أجل تيسير مأمورية البحث العلمي كذلك. على أن يكون كل ذلك على الصعيد القطري كمرحلة أولى، بالنظر إلى صعوبة إنجاز ذلك على الصعيد العربي عامة ودفعة واحدة، مع مراعاة المقاييس الضرورية في هذا الشأن.

هذا، ومما هو جدير بالإشارة هو مواكبة المصطلح المسرحي عند العرب لما جد في الأبحاث المعاصرة وخاصة منها الأبحاث السيميولوجية. وهكذا وجد المصطلح السيميولوجي طريقه إلى النقد المسرحي العربي. وقد تجلى هذا بشكل بارز في الفصل الرابع وخاصة في كتاب "المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة" لحسن المنيعي.

أخيرا، هناك إشارتان ضروريتان. أولاهما تتعلق بترجمة بعض المصطلحات المستعملة عند الفلاسفة المسلمين القدماء إلى اللغة الفرنسية. ذلك أن هناك مصطلحات لا صعوبة في ترجمتها إلى تلك اللغــة، مثــــل "التنظيــف" "catharsis"، و"الطراغوذيــا" "La tragédie" إلخ؛ ولكن هناك مصطلحات أخرى روعي في ترجمتها معناها الإصطلاحي وليس معناها اللغوي المتداول والمألوف، مثل مصطلح "الإدارة".
إن ترجمة كلمة الإدارة، حين استعمالها في معناها العادي، تكون l’administration. أما مصطلح "الإدارة"، هذا المصطلح المسرحي الموجود في المتون القديمة فيدل على "التحول" الذي يعد عنصرا في البناء التراجيدي، مثل تحول أوديب من السعادة إلى الشقاوة. وعليه، فإن ترجمة ذلك المصطلح كانت ب : La péripétie.
وأما الإشارة الثانية التي ترقى إلى حد اعتبارها قضية، فتتعلق باستعمال عدد من الكلمات العربية لكلمة واحدة باللغة الفرنسية أحيانا. ويمكن هنا الاقتصار على تقديم مثالين يلخصان مجمل القضية، قضية الإختلاف في تعريب المصطلحات.

المثال الأول هو وجود كلمات عربية للكلمة الفرنسية الواحدة code. فهناك من يستعمل الشفرة17 ، وكود وهي كلمة ليس لها من العربية سوى الأصوات والحروف ومع ذلك خضعت للإشتقاق، ودستور، وسنن.
والمثال الثاني هو استعمال ابراهيم حمادة كلمة التشويق18 لترجمة كلمة suspense. بينما استعمل حسن المنيعي كلمة المماطلة 19 لترجمة الكلمة الفرنسية نفسها.

صفوة القول، إن هاته القضية تعتبر إشكالية حقيقية، تواجه النقد المسرحي العربي المعاصر. لذا، فإن البحث لها عن حل ملائم يؤدي إلى توحيد المصطلح -على الصعيد العربي- أمسى أمرا ضروريا.
تلك هي النقط التي عن لنا تسطيرها في هاته المقدمة. وقد راعينا في صياغتها الإقتضاب مع التركيز. وقد كان العرب القدماء يقرون بأن البلاغة هي الإيجاز.

ختاما نرجو أن يكون هذا البحث بالقراءة جديرا، وعلى هدي البحث العلمي سائرا.

* المقدمة التي وضعها أحمد بلخيري لكتابه "المصطلح المسرحي عند العرب".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى