الخميس ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم محمد العمراني

المهندس الزراعي الصغير

قصة للأطفال

سمع تامر بكاءً مثل صوتِ طفلة مريضةٍ يرتفع بالتدريجِ وهو يمضي جهة حقل العائلة. تعرّفَ على مصدر الصوت، فهو قادم من نَخلَةٍ صغيرةٍ ذابلةٍ زَرَعَهَا أبوه قبل ثلاث سنوات. وهي الآن بقرب نخلة سَامِقَةٍ (1) ذاتِ عراجين تمر كثيفةٍ. كان فصل الصّيفُ وحرُّ الشّمسِ يحرقُ الوجوهَ. قال تامر بعد أن ربّتَ على جذعِهَا الصغير بِيَدَيْهِ مُوَاسِيا:

أيتها النخلةُ الصغيرةُ لمَاذا يبدو وجهكِ شاحبًا، لم البكاءُ؟

أجابته النخلةُ وَجَدَائِلُهَا (2) مثل ضفيرةِ شعرٍ تيبّستْ عليها الدموع من العطش والجفاف:

انظر إليّ، انظر إلي، إن سعفِي الذي وُلدتُ به أخضرَ يترامى الآن في الأرض. أنا لا أنتجُ تمرا كالأخريات ما عدا عرجونًا صغيرا، انظر لتلك النخلة العالية، إنها تناديني بالقصيرة التي لا تنجبُ تمرًا. أيها الولدُ إني أشتاقُ إلى الماء.

رد عليها:

اسمي تامر، تعلمين أن هذه السنة تغيّر المناخ. لقد ارتفعت درجة حرارةُ الأرض واحتبسَ المطر وحلّ الجفاف وهذا حال الدنيا التي نحياها كما أخبرنا المعلمُ. ثم إنكِ ما زلتِ صغيرةً على ولادة عراجين التمر. سوف تكبرين وتنجبينَ كثيرا.

ردت النُّخَيْلَةُ (3) مبتسمةً:

سعدتُ بمعرفتكَ يا تامر، أنا أريدكَ أن تقتربَ منّي؛ هل تقبل أن تكون صديقي؟ اقطفْ ما يحلو لك من تمراتي، سأخبئها لك وحْدَكَ بين أشواكي وسَعَفِي. لكن أرجوك، تحدث مع والدك، إنه يتركني عطشى منذ مدة؛ لأنه يفضل الأخريات اللواتي ينجبن عراجين التمر.

رد تامر:

من اليوم أنا سأرعاك يا صديقتي العزيزة.

ذهب تامر يترجّى والده الفلاح أن يسقي النخلة الصغيرة ويساويها في الحقوق مع النخلات الكبريات. لكن الأب رفضَ ذلك قائلا:

إنها نخلة قصيرة القامة وعقيمةٌ (4)، ثم إن الماء قليل جدا هذه الأعوام الأخيرة.

آنذاك أخذ تامر الصغير ذو العشر سنوات مسؤولية سقي النخلة. كان يذهب مع والده ويلعب مع نخلته الصغيرة التي تحب ولادة التمر. تارةً يجلس تحت ظلّها. يدوران مع الشمس، وحينا يرقص لها، أو يقص لها قصصا مختلفة. لكن تامر فهم أنّ النّخيلةَ تقاومُ العطشَ.

حقل العائلة بعيد والماء قد جفّ من البئر؛ لذا كان على الأب منذ سنتين أن يجلبَ الماء في قنينات كبيرة على ظهر حماره من بئر البلدة إلى هنالك؛ لذلك صار بخيلا مع النخلة الصغيرة.

في البداية جمع تامر أصدقاءَهُ وسط النهار. طَلَبَ منهم مساعدَتَهُ في حمل قنينات وجَرّاتٍ وأكياسٍ مائيةٍ صغيرةٍ إلى الحقل. ثم يسقي نُخَيْلَتَهُ هناك. بعدها بدأ يفكر في طريقة أخرى تكون مفيدة وغير متعبة. إيهٍ، لقد وجدَ أن الماء الذي يسقي به والدُه النّخلاتِ كثيرٌ عليهنّ. إثرَ ذلك راح يجمع بعض المعلومات عن تقنية التنقيط من معلمِّه في المدرسة الابتدائية. المُعَلِّمُ اسماعيلُ الذي أنشأ مع تلاميذ قسْمِهِ مَجَلّةً وَرَقِيَّةً تَرَأّسَهَا التلميذُ تامر، تُعْنَى بجمعِ ملفاتٍ ورقيةٍ بسيطةٍ يكتبُ فيها الأطفالُ بأقلامهم حيثُ يُرْفِقٌونَهَا بصور للبيئة في القرية. بَذَلَ تامر جهودا كبيرةً في المَجَلّة، أما مُعَلِّمُهُ اسماعيلُ فقد تنبأ له بكثير من الحماسة والحكمة أنه التقني الصغير الذي دخل المدرسة فلّاحا صغيرا وسيتخرج منها مهندسا زراعيًّا.

العملُ يسيرُ بسرعةٍ مثل فصلِ المعلمِ اسماعيلَ، الأناملُ تخطُّ ما شاء الله لها من حواراتٍ مع الآباءِ ومع المعلمين الآخرين والإخوةِ الكبارِ وموظفي الجماعةِ القرويّةِ إلى أن اكتمل عدد المجلة حول الري بالتنقيطِ.

أخذ تامر بعض الأنابيبِ البلاستيكيةِ وثقبها ثقوبا صغيرة بمساعدة معلمه وجعل فيها منقطات ثلاثة تأخذ الماء جميعُها من قنينة واحدة. هكذا لم يعد بحاجة لإتعاب أصدقائه معه. قنينة واحدة كافية في السقي كل أربعة أيام؛ إذ يسكبها في المضخ وتبدأ المنقطات في السقي بطيئا. يا لها من فكرة عبقرية!

نسيَ الأب تماما أمر تلك النخلة الصغيرة. لم يعد يمر قربها. كلف تامر بسقيها، وتطَّوَّعَ للعناية والاهتمام بها مدة طويلة.

كم كانت دهشة الأب ذات صباح وهو يمر من جهتها وقد ازدادت اخضرارا، ودبّت فيها الحياة! تعلو جذعها جدائل كثيفة وكرانيف (5) بنيّة اللون تُزَيِّنُ عنقَهَا وجسمَهَا، فيما سعفها (6) اشتد شوكُهُ وهو يقف شامخًا في أعمدة الجريد ويحرسها من المعتدين الذين يسرقون التمر. ها هي ذي في موسمها الرابع وما زال تامر يرعاها ويشذّبُ (7) عَسِيبَهَا () بِمُنْخُلٍ (8) صغيرٍ، كما يغذيها بالسَّمَادِ (9) من حين لآخر، إنها الآن صديقته المفضلة، وهما يعرفان معا أن الصداقة لا حدود لها ولا جنس لها، كما أن الصديق وقت الضيق، وأن الثمار والظلال ستكون جزاء له ذات زمن، نعم صداقة تامر للنُخَيْلَةِ ذَكّرَتْهَا بالنخلةِ مع مريمَ العذراءِ في القرآن الكريمِ وصداقةِ جذعِ النخلةِ مع رسولِ الله محمد (صلى الله عليه وسلم).

ها هي ذي النخلة الصغيرة أخيرا تَحْبَلُ (10) بطلعٍ من خمس عراجينَ أشبه بعناقيدِ عنبٍ، يُعْطِي الوالدُ تامرًا بعضَ اللقاح المُكَوَّنِ من فسائلِ الطّلع وغُبَارِهَا الأبيضِ من نخلة تنتجُ اللقاح، فَيُلَقِّحُ صديقَتَه النّخيلة مثل طبيب يحقنُ مريضًا، ثم يصير الطّلع بلحا أخضرَ، وأخيرا يصيرُ رطبا طَازجًا.

كان مذاق التمر حلوًا لذيذًا كثيرَ الطّعم قليلَ النّواة، تَكَفّلَ تامر بِتَنْقِيَّتِهِ وقَطْفِهِ في موسمهِ الأوّلِ باتفاق مُسْبَقٍ مع والده، أخذَ بعض التّمر لمعلمهِ اسماعيل وأصدقائه الذين غَمَرَتْهُمْ السّعَادةُ لِنَجَاحِ مَشْرُوعِهِمْ على أرض صديقهم، راجين أن يتم تعميمه على باقي النخيل.

ها هي ذي النّخيْلةُ الصغيرةُ مبتسمةٌ فرحةٌ تتحدث إلى صديقها الوفي:
تامر اقتربْ منّي واقطفْ من الثمار ما يشبعك، خذ لأصدقائك وعائلتك، ولا تنسَ أن تستظلّ بظلي الوفير وأن تجعل ثماري وجريدي صدقة دائمةً على أصدقائكَ ومُعَلِّمِي قَرْيَتِكَ.

أُعجِبَ الأبُ بابنهِ وهو يرى تلك النّخيلة الصغيرة التي اسْتَهْزَأَ بها تؤتي أُكْلَهَا تمرًا ناضجًا، فقرّر أن يرضخَ (11) لإصْرَارِ ابنِهِ ويسألَ عن خبير كي يساعده في مشروع التنقيط لكل النخيل، سَاعَدَهُمَا المُعَلِّمُ اسماعيلُ بإنشاء ملف وإرسالهِ إلى المَسْؤُولِينَ قَصْدَ المُسَاعَدَةِ.
تَحَقّقَ للأبِ ذلك وصَارَت النّخلاتُ متساويات في الحُقُوقِ، كما أنه قَبِلَ طلبَ ابنِه أن يَتَطَوّعَ بما تنتجه صديقته النُّخْيَلَةُ الصغيرة، بحيثُ يَذْهَبُ تَمْرُهَا لتشجيعِ الأطفالِ على التّمَدْرُسِ (؟) بالقريةِ.
صار على طريقِ تامر كثير من الأطفال الذين زرعوا فسائلَ النخل في المدرسة، قادمين بها من حقول آبائهم لتكون ثمارها صدقة جارية على مدرستهم.

هوامش:

( ) كرانيف: جمع كرناف وهي الأصول المتبقية في جذع النخلة بعد قطع جريدها وسعفها وهي تسهل عملية الصعود للنخلة مثل درج أو سلم خشبي.
السعف: ورق النخل.
( ) عسيب: جريدة النخلة المستقيمة.
( ) منخل: اسم آلة لقطع جريد النخل وتشذيبه.
( ) تحبل: تحمل

=انتهت =

قصة للأطفال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى