الخميس ٢١ تموز (يوليو) ٢٠١٦
بقلم أحمد هيهات

الموقعة الخاسرة

انخرط رابح هذه الأيام على غير عادته في مشاجرات متكررة في كل لحظة ولأسباب وجيهة وأخرى ضعيفة متهافتة ملأت نفسه حزنا وحسرة وغضبا، فقد كان يفكر في قضاء يوم ممتع وسعيد ينتهي بانتصار معسكره في هذه الموقعة التي سيكون لها وزن كبير في رجحان كفة المعسكر الذي يشجعه ويتعاطف معه في هذه الحرب التي ازدادت استعارا وتشويقا، ويزداد بذلك قربا من حسم المعركة الكبرى وجمع المغانم الكثيرة.

في الصباح المبكر من ذلك الأربعاء الأسود الذي بدأ متثاقل الخطى في اتجاه المساء الموعود الذي سيعرف الموقعة المنتظرة، ومع زقزقة العصافير الأولى وبطبطة البط وصياح الديكة استيقظ من نومه الخفيف ومشاعره تتأرجح بين الفرح والسرور القائم على حسن الظن وثقته الكبيرة في جنود الكتيبة التي ستقود موقعة اليوم، وبين القلق والتردد من الطوارق والمستجدات التي قد تحمل بعض المفاجآت غير السارة.

بعد الانتهاء من وجبة الفطور الخفيفة التي لم تتعد فنجان قهوة شاب سوادها بياض خفيف بسبب كمية الحليب القليلة التي حولت سواد القهوة إلى لون رمادي دامس قلق كسماء اختلطت فيها الغيوم السوداء الماطرة بالسحاب الأبيض الخفيف، توجه رابح رأسا وبدون تردد إلى المصطبة التي اعتاد أبوه أن يتناول فيها فطوره بكل تؤدة وأناة فاصلا بين الكأس والأخرى بوقت مستقطع طويل لتدخين القنب الهندي المعد بعناية كبيرة، وقبل أن تتوقف خطواته عن السير نحو أبيه انطلقت كلماته القليلة التي طلب فيها من أبيه أن يمكنه من الراتب الأسبوعي قبل أوانه.

رفض الأب دون تردد متحججا بعدم توفره على المال خصوصا وأننا في منتصف الأسبوع الأول من الشهر، وقد أنفقت ما توفر لدي في تسديد مختلف الفواتير، لم يقتنع الابن فغادر البيت ووجهه محمر محتقن تكاد تنبعث مع أنفاسه شرارات محرقة، محاولا حماية طنجرة الضغط التي يحملها بين كتفيه من الانفجار، وهو يفكر في إمكانية عدم مساندته لمعسكره الذي يحتاج إليه في هذا اليوم العصيب لأنه لم يوفر الأموال الكافية والعدة اللازمة.

بعد تفكير متقطع ممتد على طول النهار الذي قضاه وقد توزعته الأفكار بين طريقة تأمين الأموال التي تمكنه من مساندة معسكره، والهواجس المضنية المتعلقة بعدم القدرة على متابعة الموقعة وحضور كل تفاصيلها، بعد هذا التفكير العقيم قرر خوض معركة صغيرة تبدو – نظريا- مضمونة النتائج إلى حد كبير وهي محاولة إقناع الأخ الأصغر بالنيابة عنه في حراسة القطيع لمدة ثلاث ساعات لا غير، وبعد نقاش طويل وجدال عقيم خسر معركته الثانية مع أخيه لأن الأخير بدوره كان قد عقد العزم على مساندة معسكره الخاص والذي يمثل الطرف الثاني في الموقعة المنتظرة.

بعد أن فقد كل أمل في تحقيق شروط حضور الموقعة ومساندة معسكره المفضل، وبعد أن استسلم للواقع الذي لم ير إمكانية لرفعه لأنه لم يكن صاحب حول أو طول منتظرا من يزوده بأخبار الموقعة، ولمن مالت الكفة ورجحت في النهاية، جاء الفرج من حيث لم يكن يحتسب إنها الأم التي عيل صبرها وأشفقت على ولدها ورقت لحاله وجادت بما ادخرته لقساوة موسم القر، فزودته بالمال اللازم إلا قليلا ونابت عنه في رعاية القطيع، أنسته الفرحة في هذا الموقف الذي تدمع له العيون وتذوب له القلوب ضرورة شكر أمه ولو بقبلة سريعة على اليد أو الرأس.

فأسرع دون إبطاء إلى المقهى المتواضع الذي لا يجد صاحبه بدا في مثل هذه المناسبات من الاستعانة بصناديق المشروبات وحزم علب البيض المصنوعة من الورق المقوى كمقاعد، والتي يمثل عددها ثلاثة أرباع عدد المقاعد ويبقى الربع الرابع للمقاعد الخشبية القديمة والبلاستيكية المختلفة الأحجام والألوان والتي يغوص فيها أحيانا بعض الزبناء إلى الركب بل إلى الأذقان.

أخذه مكانه مع رواد المقهى الدائمين والطارئين الذين لا يمكن التمييز فيهم بين المساندين لهذا المعسكر أو ذاك إلا من خلال بعض التعليقات أو صراخ الفرح أو الغضب أو السباب في حق أحد أعضاء المعسكرين، وقبل أن يستقر بشكل نهائي في مقعده الذي تآكلت إحدى قوائمه اضطر إلى الدخول في مشاجرة جديدة مع نادل المقهى الذي رفض أن يقدم له براد الشاي الذي اعتاد احتساءه في كل مرة يزور فيها المقهى، وفرض عليه أن يختار مشروبا باردا أو ساخنا لشخص واحد، وهو ما أربك حساباته وخلط أوراقه لأنه كان قد وزع الميزانية الهزيلة على أداء ثمن الشاي واقتناء لوازم تعديل المزاج الذي عكرته كثرة المشاجرات التي خاضها على امتداد هذا اليوم الطويل من دخان وما يرتبط به من طقوس شبه مقدسة عند أغلب رواد مثل هذا المكان.

بعد أن تدخل بعض الأصدقاء وتمكنوا من تليين الموقف وتلطيف الجو انصرف رابح بخطى سريعة لإحضار ما تبقى من عدة لمتابعة الموقعة قبل انطلاقها بلحظات قليلة، عاد إلى الطاولة الخشبية المهترئة التي بدأت تتباعد قطعها ذات اللون الأخضر القريب من الأسود بسبب طبقات الأوساخ التي ترسبت وتراكمت عليها محاولة التخلص من الحبل المعدني الحديدي الذي يجمع بينها، بعد أن عجزت المسامير عن تقريب وجهات النظر بين هذه القطع التي تتوق إلى تغيير الوضع والمكان وإن كان إلى ساحة النيران، عاد إلى مكانه فوجده محتلا من قبل أحد الزبناء الذين يتجبرون عند القدرة ويلينون عند العجز، والذين لا يقصدون المقهى إلا نادرا ومن ثمة فهو لا يعترف بالقوانين المتواضع عليها بين روادها من احترام للمكان الموسوم بصحيفة أو قطعة قماش أو قبعة أو حتى قطعة ورق، لم يستطع استرداد مقعده إلا بعد مشاجرة طويلة اقتضت تدخل صاحب المقهى شخصيا واطفاء التلفاز مدة غير قصيرة والتهديد بإغلاق المقهى والانصراف بشكل نهائي.

أثناء متابعة الموقعة عكر صفو مزاجه وبالغ اطمئنانه صديقه الذي يقاسمه الطاولة بسبب توجيه وابل من السباب والكلام البذيء في حق نجمه المفضل قائد الكتيبة الذي كان قاب قوسين أو أدنى من أن يقضي على الخصم من خلال الهجمات الخاطفة التي اخترق فيها غير ما مرة صفوف العدو، وقام في مناسبات متعددة بعمليات خطيرة خلف خطوط العدو، فدخل رابح مرة أخرى في مشاجرة مع جليسه سرعان ما اشتد أوارها وتدخل فيها أعضاء المعسكرين ولم تهدأ إلا بتدخل الحكماء وإيقافهم للموقعة بشكل مؤقت.

انتهت الموقعة ولم يستطع أي معسكر إعلان الفوز وإنهاء المعركة لصالحه واكتفيا بالوعيد والتهديد في الموقعة المقبلة ، ولم يستطع أي طرف أن يظفر بلحظات السعادة والفرح والاحتفال التي كان يستعد لها، فحضر بدلا عن ذلك التبرير وتقديم الذرائع والتعلل بالآمال في مستقبل الأيام ، أما رابح فقد استأنف مشاجرة جديدة مع نفسه لأنه خسر الكثير في مشاجراته السابقة في سبيل هذه الموقعة التي لم يربح من ورائها شيئا يذكر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى