بوم السأم ينعق فوق أشجار العزلة

بدأ كل شيء أمام عيوني مختلفا منذ الذي حدث لي، لقد انقلبت الدنيا رأسا على عقب، بدأ كل شيء أسودا في وجهي، لم أعد أغذ الخطى نحو وجبة طعام شهية أو شراب بارد لذيذ، ولم تعد دروب حياتي السهلة معبدة أو مفروشة بالورود كما كانت، صرت أشعر أني مهيض الجناح، أحاول التحليق في سماواتي المألوفة لكنني لا أستطيع، أحمل يراعي فأتوه في دنيا ضبابية غائمة!
يدعي كل من هم حولي أن وجهي قد بدا منذ فترة وجيزة شاحبا، مصفرا على غير عادته،وأن حركاتي تبدو بطيئة وغريبة وصوتي متهدج متقطع ولا معاني لكلماتي في أغلب الأحيان، أنا لست في سن الشيخوخة ولم أصبح كهلا بعد، لا أدري فربما يتغير الإنسان ما بين عشية وضحاها لأمر جلل أصابه فأنا في حال لا أحسد عليه أبدا!

ويدعون كذلك أنني سابح في فضاء آخر غير الذي يعيشونه وأنني أصبحت عبدا لأفكاري وخيالاتي، لكنني أدعي العكس فلا خيالات ولا فنار فضاء لي وأحاول إقناعهم أنني أعيش في
فراغ قاتل أو في منطقة انعدام وزن، حيث لا قناعة لدي بمحطات توقف أو استراحة أمام ناظري،أنا أستغرب ما حدث لي فجأة فأنا الذي كان يسن شرذبات ونتوءات حركاتهم وسلوكهم وانفلاتهم على مسن هدوئي أصبحت أسير على غير هدى بلا طمأنينة ولا استقرار!

كيف سأواصل الكتابة وأستمر فيها؟ لا أدري، لقد انقطعت حبال وصالي الحقيقية بها، لقد توقفت لفترة ليست بالضئيلة، أصبحت تائها في زحام مشاكلي وهمومي مع الحياة، أتعثر يوميا بأفاعي الوحدة وهي تنفث بوجهي سمومها البغيضة، يقتلني بوم السأم الذي ينعق يوميا في أذنيّ ّمنذ ساعات الصباح الأولى، أحاول أن أجدني فلا أجدني،أحاول أن أخاطب نفسي فيرمقني ذلك البوم بعينيه البشعتين، حديد ثباتي واتزاني بدأ يصدأ للرطوبة المرتفعة في مناخ العزلة والانطواء الذي فرضه علي القدر والطبيعة والظروف القاسية .

هل سينضب بئر نفط الكتابة في داخلي؟ كيف سأرمم أشلاء نفسي المبعثرة وأجمعها وأعيد ترتيبها كما كانت؟!

لقد انسدت في وجهي كل مقومات الحياة التي تساعدني على مواصلة نهج الكتابة، انسدت سبل الفرح والبهجة والحبور والتفاؤل والخير والجمال، لقد انقطع الحبل السري الذي يربطني بمنابع الكتابة، لا أدري كيف سأثبت في مواجهة أعاصير الانغلاق والظلام وأصمد في وجه التحديات، فلقد ُسدت حتى منافذ الهواء، لقد كانت أكسجين الأمل الذي تتنفسه رئتا قلمي وقرطاسي، لقد رحلت أمي!