الجمعة ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم توفيق فياض

بيت الجنون - مسرحية من فصلين

حيفــــــــــا ليــــــــلاً

في أحد الأحياء المحاذية للبحر، لا يظهر في المسرحية سوى شخص واحد هو سامي الذي كان يعمل مدرساً للتاريخ والأدب.

يرفع الستار عن غرفة مظلمة تماماً. يستمر الظلام، بينما يسمع في الخارج من خلف المسرح، صفير ريح قوية ممزوج بشخير نائم.

ينقطع الشخير بينما تستمر الريح في هبوبها. صوت هذيان متقطع يأخذ في الارتفاع شيئاً فشيئاً، وفي نفس الوقت الذي يسلط فيه الضوء الأحمر على يسار المسرح، حيث يسير بعدها ببطء ناحية اليمين.

في يسار المسرح يظهر باب مغلق فيه مفتاح، ثم نافذة ذات ستار قديم في الصدر. مكتبة صغيرة تحوي بعض الكتب، ساعة حائط صغيرة تشير الى العاشرة ليلاً.

يستقر الضوء على مكتب في أقصى اليمين تحت ساعة الحائط الى جانب المكتبة . . ترى عليه صورة امرأة، بعض الكتب، وأوراق مبعثرة دونما نظام معين، تحتوي على بعض الكمبيالات المستحقة الدفع . . زجاجة خمر تكاد تكون فارغة وكأس. علبة سجائر من النوع الرديء فيها بعض اللفافات. مصباح كهربائي في طرفه الأيسر، مما يدل على أنها لأحد المثقفين. في أقصى اليمين من المسرح الى جانب المكتب، باب داخلي مغلق . . .
يسلط الضوء نهائياً على وجه رجل في مقتبل العمر، لحيته طويلة، ولا نظام في شعره ألبتة، يجلس على كرسي قديم خلف المكتب ويرتدي فوق ملابسه العادية، معطفاً شتوياً طويلاً رثاً. يرى مستغرقاً في نومه، ملقياً رأسه على ذراعيه فوق مكتبه . . بينما بقي الكتاب مفتوحاً أمامه.

تتعدد الأنوار على صفحة وجهه بشكل جانبي . . أحمر . . أصفر . . أزرق . . أخضر. ثم تتكرر بترتيب منعكس الى أن تتوقف عند النور الأحمر.

يتعذب النائم في الضوء، وكأنه يعاني كابوساً، ثم يسلط الضوء الأصفر. وفي نفس اللحظة يصرخ بأعلى صوته بفزع، قابضاً على عنقه بكلتا يديه مستيقظاً.

ينظر في أرجاء الغرفة مذعوراً . . بينما تأخذ يداه في الارتخاء من حول عنقه. يشعل مصباحه ذا النور العادي، وهو لا يزال يتفحص بنظره كل شيء من حوله متحاشياً النظر الى الجمهور. يطفئ المصباح بينما يظل الضوء الأصفر يلازمه طيلة الوقت أينما وكيفما تحرك، مستقلاً عن الأضواء التي يتطلبها السيناريو.

سامي: (مشعلاً لفافة)
الكابوس . . هذا الكابوس الرهيب! (متحسساً عنقه) مرة أخرى! وكأن أشباح الجحيم، انتقلت جميعها الى هنا . . لتشاركني هذا القبر المتعفن ! (محركاً عنقه) كادت أصابعه المتوحشة تخترق بلعومي.

(يشعل النور ثانية. ينظر حوله بخوف. يتوقف على الكتاب المفتوح أمامه يقرأ بحزم)

انهض ، انهض يا أوزيريس !
أنا ولدك حوريس . .
جئت أعيد اليك الحياة،
جئت أجمع عظامك .
واصل أعضاءك . . .
أنا حوريس الذي تكون أباه!
حوريس يعطيك عيوناً لترى،
وآذاناً لتسمع، وأقداماً لتسير
وسواعد لتعمل . . .
ها هي ذي أعضاؤك صحيحة،
وجسدك ينمو،
ودماؤك تدب في عروقك!
إن لك دائماً قلبك الحقيقي،
قلبك الماضي !
فانهض، انهض يا أوزيريس ! !
(يغلق الكتاب وهو ما زال يردد وبحزم أكثر)
انهض يا أوزيريس . .
يا أوزيريس انهض !

(ينظر الى الرسم متأملاً، ثم ييأس)

لبنى! أجل لبنى ! بل التنين ! ! من يتصور أن مثل هذه الحمامة الوديعة، تتحول الى تنين رهيب، يغرس مخالبه المتوحشة في عنقي؟
كدت أجن ! ! لكم تعذبني أيها الملاك التنين! ؟ (بضيق) هيرا ! هذه اللعنة لم تمت !

(يطفئ المصباح ناهضاً بتثاقل. يدعك لفافته في المنفضة ثم يتجه نحو النافذة. بينما يسمع هبوب الريح بوضوح . يزيح الستار ناظراً الى الخارج . . بأسف)

ايه . . . لا قمر في السماء ! (يسدل الستار عامداً . يرفع يده الى أعلى ثم ينزلها بعصبية كمن ينتزع شيئاً) قد انتزعه ذلك الشاعر اللعين من الأعالي، واغتصبه في ليلة مجنونة من ليالي الشتاء، على الشاطئ المقفر ! (معبراً بحركة من يده) ثم . . ثم ذوبه بالملح والكبريت ! (بسخرية) هه . . القمر! أجل. القمر بالملح والكبريت! ! (باستغراب) بل وشربه! كما لو كان يشرب خمرة رديئة في ليلة إفلاس ! (بضيق معبراً بيديه) لماذا لم يخنقه ذلك المجنون خنقاً؟ (ينظر الى يديه المتشابكتين بفزع) أوه . . كلا . . كلا . . (يرخي يديه وهو لا يزال يتأملهما) كنت افقد عقلي، لو رأيته يفعل ذلك ! مجرد أن أتصوره يفعل! ! (يتجه ناحية مكتبه ، وهو لا يزال يتأملهما. يشعل النور ثم يقلبهما متفحصاً) خيل إلي أنهما ملطختان بالدماء! اللعنة . . .

(ينظر الى الرسم بفزع . يطفئ النور ثانية. يسكب كأساً من الخمر، ثم يغمس إصبعه في الكأس محركاًن كمن يذوب شيئاً. يعب ما في الكأس جرعة واحدة . . يتجشأ بامتعاض).

لا بد . . . لا بد وأن ذلك المجنون . . ذوّب القمر في هذه الكأس ! (باستغرب) من يدري؟ ربما كان أحد الضالعين في الاغتيال البشري! ربما كانت هذه العملية، إحدى تجاربه الخبيثة، لاختراع ما هو كاف لإبادة البشرية. . بطريقة أسهل مما هو متبع الآن! مما هو متعارف عليه بين ساسة الدول ! أصحاب الحق الشرعيين، في تقرير ما إذا كانت، جديرة هذه البشرية باستمرارها أو غير جديرة !!

ولكن . . ولكن أي شأن لهذا الـ . . . (بأسف) يا إله السماء! حتى الشعراء أصبحوا . . . (باستغراب مفكراً) ولكن . . ولكن . . (بجدية)
قمر . . زائد ملح . . زائد كبريت . . زائد خمرة رديئة . زائد جوف مجنون ملتهب . . (مفكراً) يساوي . . يساوي . . (يتجشأ بامتعاض) يساوي فقاعات سامة . . (معبراً بحركة من يده) تتصاعد . . وتتصاعد. الى أن تملأ السماء غيوماً . . وغـ . . (ينصت الى صوت الريح، وهو لا يزال يعبر بيده ثم يتابع بعصبية) وريحاً غريبة مقيتة . . وأشباحاً رهيبة . . . (يتقدم من النافذة، يزيح الستار بحذر وينظر الى الخارج).

لا بد وأن هذا المجنون . . العالم في علم التخلص من العالم ونفسه! لا. وإنه من نسل الجن! أو . . أو إنه جن بنفسه ! ؟ حتى النجوم انتزعها؟ يا للعنة . . لم يترك لي في السماء شيئاً آنس إليه . . (عائداً الى أول المسرح) ولكن لماذا كان . . . (بضيق) لا أستطيع إدراك ذلك! لماذا كان عليه أن يختار هذه الكأس بالذات! كأسي أنا ! ! لتكون له ولتجاربه الخبيثة مصنعاً مشؤوماً للموت ! ! منتهى الوقاحة . .
(باستغراب) كأسي أنا ! وفي بيتي أنا ! ! منتهى . . .

(بجدية): قمر . . زائد كبريت زائد . . الكون الخارجي زائد . . مئة مليون ميجتون زائد . . السلام العالمي . . زائد . . . (يصمت مفكراً ثم يتابع) زائد . . السلام العالمي . . يساوي . .. (جيئة وذهاباً) يساوي . . يساوي . . ناقص الانسانية . . ناقص الكرة الأرضية ! (بحماس) ويساوي . بالطبع يساوي التكوين . . ناقص سبعة أيام ! (بحماس أكثر) وبالطبع أنها النتيجة الصحيحة الوحيدة! (بانتصار جالساً الى مكتبه): هه! كنت أظن أنني لا أستطيع حل معادلة إنسانية . . (مستدركاً) معادلة كيماوية واحدة! (بجدية) لا شك أن هؤلاء العلماء يعرفون النتيجة سلفاً . ومع ذلك . . لا ينفكون عن تجاربهم لها !! (بضيق) وعلى حساب أشيائي الخاصة. على حسابي أنا! (ينصت الى صوت الريح، ثم متابعاً) الريح الغربية . . (ناظراً الى أحد الكتب على مكتبه) ايه شيللي ! (بأسف) لقد جن هو الآخر . . اغتالته الريح الغربية . . ورمت به لأسماك البحر طعاماً! من كان يتصور أن أجمل الرياح تصبح قتالة مجرمة ! وأن ذلك الوجه الجميل – يا للتعاسة . . يشوهه سرطان البحر!

وإن تلك العبقرية – يا للضياع – تصبح وقوداً للنار ! ! ومن أجل ماذا؟ (بسخرية) العدل السياسي . . أجل. العدالة ! ! هه!؟ (باحتقار) "أنت الوجود للخريف النابض أيتها الرياح الغربية العاتية . . ذلك الذي من وجودك الخفي أوراقه ماتت وتلاحقت، كما الأشباح تهرب من ساحر"! (يسكب ما تبقى في الزجاجة من خمر ثم يشرب) كلهم مجانين أولئك الشعراء! خمر الجحيم ما تسكبه أرواحهم البائسة، الى أن تأتي على آخر رمق في وجودها! (ينظر الى الزجاجة بيأس. ثم يضعها مردداً بخوف) وتلاحقت كما الأشباح ! الأشباح !! . . (يتحسس عنقه يا للعنة . . كاد يزهق روحي، ذلك الشبح المتوحش! شبح لبنى ولا شك! (بغضب) كلا . . . كلا . . بل شبح المالك الوقح . . . (الريح بوضوح. يهب واقفاً ناحية الباب. ثم يجلس مردداً بشرود وتلعثم) عند منتصف الليل ذات مرة . . بينما في عالم الأموات زورقي، كان لموجه يفرش الشراع . . (معبراً بيديه) يدا شيتا مخيفة . . من خلف الظلام الدامس، اللتان امتدتا . . ثم . . ثم بكل ما فيهما من جن، أطبقتا حول عنقي! (بفزع) كدت أفقد صوابي . . كانت تنتصب حتى السقف ! كانت تتحول وهي تضغط على عنقي، الى تنين رهيب! تتوقد عيناه وتلتهبان. شعرها القبيح، الى حراشف مدببة يتحول. تنهش كل موضع في جسدي. . وفكاه المتوحشتان، كانتا تتسعان . . وتتسعان حول جمجمتي . . (مشيراً الى رأسه) هذه . . . الهاوية بعينها! فكّه الملتهبة . . يا للرهبة! كنت أصرخ وأنا أتردى في أعماق الهاوية، كنت أصرخ بأعلى صوتي! كنت أهوي . . وأهوي ! لم أصل الى قرار ! ! (باستغراب) ولكن لماذا شيتا؟ لماذا تنين !؟ (ناظراً الى يديه) أوه . . كلا . . كلا إنهما ولا شك يدان إنسانيتان ! لا بد وأنني لا أزال إنساناً . . كثيرون هم الذين يمسخون في أيامنا الى قرود ! الى ذلك النوع من الزواحف المخيفة ! ! قد . . .

(بحزم) لا . . . لا يمكن أن أمسخ الى واحد منها . . يجب أن أبقى آدمياً . . يجب! (ينظر الى يديه ثانية . . يبتسم بارتياح) كانت تقول عنهما لبنى، أنهما جميلتان كيدي الطفل ! ولكن . . .

(يصمت فجأة. ينصت الى صوت الريح ناحية الباب يفزع كمن يسمع طرقاً عليه) ولكن هذه اليد المتوحشة التي تطرق بابي، لا يمكن أن تكون يداً آدمية!

(صوت الريح ثانية .يهب واقفاً عند أول المسرح، مشيراً بيده جانباً ناحية الباب بغضب): ماذا؟ . . . ألم يعد ثمة قانون يردع أولئك الأوغاد؟ ماذا يظنون؟ أنني متاع لهم! يقتحمون بيتي كلما شاؤوا ! ! (يتقدم قليلاً وبسرعة ناحية الباب) كلا . . . لن أرضخ لمشيئتكم أيها الأوغاد . . . (يحذّر باصبعه متراجعاً) أيها البرابرة المجرمون! (ينصت الى صوت الريح. ثم يغضب متقدماً ناحية الباب) لا بد وأنه ذلك الدب . . صاحب الحان! كلا . . . لن أستجيب لطرقاتك . . حتى ولو هشمت الباب بقبضتك المخمورة. (صوت لاريح. مندفعاً بسرعة ناحية الباب) ما الذي تريده أيها الأهوج ؟ أن أموت ظمأ للخمر؟ ولماذا؟ لأنني لا أملك ثمنها !؟ (بشراسة) قلت لك كلا . . . لن أفتح . . حطم الباب إن استطعت! (معبراً بيديه) إنني سأكتم أنفاسك بيدي هاتين . . (ينظر الى يديه المتشابكتين بفزع) أوه . . . لست مديناً لك بشيء . . . لست مديناً . . إنك من دمي صنعت خمرك! (صوت ريح خفيفة . . ينظر باستغراب، ثم بارتياح) الى الجحيم . . أجل . . ربما ضغط شحمك المتراكم فوق قلبك عليه، فعطل خفقاته. ربما استرحت منك! يجلس خلف مكتبه مشعلاً لفافة. ينفث دخاها بعصبية ناحية الرسم، ثم يراقب الدخان حتى يتبدد من حوله. ينظر إليه بحنان ثم يأخذه اليه) لبنى . . . أين أنت يا لبنى ؟ تركتني مع الآلام وحدي. لماذا؟ قلت أنك لن تتخلي عني الى الأبد! كيف استطعت . . .

(صوت الريح ثانية. يلتفت الى النافذة بذعر) الريح المجنونة مرة أخرى. ألا تكف عن هذا العويل – بحق الشيطان - !؟ تغتالني شيئاً فشيئاً! ! (مصغياً) ما هذا؟ . . إنه البوم ينعق في الخارج ! كلا . . ليس البوم ذلك ! كلا . . ليس البوم ذلك ؟ إنها لبنى ولا ش ! أنفاس لبنى المخنوقة . . حشرجاتها ! ! (ينقر باصبعه على مكتبه) خفقات قلبها ! ! (يضع يده على صدره) بل خفقات قلبي . . لا يمكن ! مستحيل أن تكون خفقات قلبها ! ! (صوت الريح. يقفز ناحية الباب بذعر) وقع أقدام ! أقدام متوحشة! ! تدب . . وتدب . . هؤلاء الوحوش ! لا بد وأنهم . . هذه الأحذية الثقيلة !

يا إلهي . . . إنهم يقتربون ! يقتربون! (بجنون متراجعاً) الى الجحيم ايها المتسولون . . ستفتح دونكم أبوابها . . أما بابي فلا . . (مستلقياً على مكتبه باعياء) حمدا لله . . إنهم ينصرفون . . ينصرفون بعيدا! ليأخذهم الشيطان . . . (بشرود مصغياً الى صوت الريح الهادئة) "برفق فوق موج الغرب، روح الله مري" (بصمت ثم يردد ثانية) "أحلام من البهجة والفزع أمواجك، رهيبة تجعلك وحبيبة" (بارتياح معبراً بيده) رقيقة مع خاطر . . . (صوت ريح قوية. بصمت فجأة. ثم بفزع ناحية الباب) يا إله السماء! إنه آت! ! حذاؤه الثقيل ! خطواته المتوعدة . . (يهب واقفاً عند أول المسرح) أجل خطواته . . أعرفها جيداً! ذلك المالك الأحدب. . سيقذف بي الى الشارع . . ذلك المستبد (بمرارة) القانون الى جانبه . . بل الدولة وجميع سلطاتها ملك له . . رهن إشارته! حتى الحرب تخوضها من أجله لو شاء ! (بغضب) أما أنا . . عضو غير صالح في الدولة! ! ولماذا ! ؟ لأنني لا أملك كرشاً مثله! (محذراً باصبعه) لم يبق لدي شيء أيها الثور الهائج. لم يبق شيء . . لقد سلبتم كل أشيائي بعتموها في المزاد العلني كلها ! ولكنكم ما زلتم تلاحقونني لم يبق غير ما أبقيتم لي من هذه الكتب المتعفنة ! خذها إذا شئت . . لم أعد بحاجة اليها . . (بسرعة نحو مكتبه) وهذه الكمبيالات المقيتة . . (يقذف بها ناحية الباب) ها . . ماذا تظن؟ أنك ستستعبدني؟ ! أن تجعل مني سلعة حلالاً لك، ولأعوانك! (محذراً بإصبعه) كلا . . وألف كلا! إنك لن تسطتيع ذلك . . أنت . . وجهاز الدولة جميعه! هذا الجهاز المتعفن، الذي تديره وفقاً لأهوائك! سأقذف بكم الى الجحيم جميعاً . جميعاً . . هل تسمع! ؟ لا . . لن أكون عبداً لكم . . وسأفعل ذلك وحدي . . أجل. إنني ما زلت قادراً على ذلك . . وحدي ! ! (باحتقار) ألا يكفي أنكم أخرجتموني من عملي؟ وبعد أن جردتموني من كل شيء، لكي أموت جوعاً، وليسهل قهري عليكم !؟ ولماذا؟ لأنني أشكل عليكم وعلى مصالحكم المقيتة خطراً ! لأنني أزيف التاريخ كما تدعون! لأنني اشوه الأدب! ! أما أنتم فلا ! ؟

(بغضب) وماذا أردتم؟ أن أعلم أبناءكم كيف يكونون ذئاباً بشرية مثلكم؟ كيف يمتصون الدماء! ؟ (ينصت باستغراب. بسرعة نحو النافذة. يزيح الستار ثم ينظر خارجاً) غريب ! إنه ينصرف! يغيب في آخر الزقاق ! ! (بارتياح عائداً الى مكتبه) حمدا لله . . . (يشعل النور، ثم يطفئه شاهقاً بفزع) إنه يعود ! يا للعنة . . هذا الثور الهائج! (بسرعة نحو النافذة ثانية. يطل بحذر) يا للوقاحة . . إنه يتوقف! هذا الثور . . إنه يتفحص نافذتي بنظراته الخبيثة! عيناه المتوقدتان في النور . . (يرخي الستار متراجعاً) باستطاعة هاتين العينين . . اختراق اسمك الجدران . . وأحلك النوافذ ظلمة ! هاتان العينان . . . (بغضب متوقفاً) لا يوجد غيري هنا! إنني . . إنني لا أعرف أين هي ! ! إنني لم أر وجهها منذ ذلك اليوم الذي . . (بضعف) قالت أنها لن تدعني أراها ما حييت ! (يقترب من النافذة ثانية. يزيح الستار ناظراً) يا الهي ّ . . إنه ينصرفّ يغيب في الزقاق مرة أخرى ! ! (عائداً الى أول المسرح) إنهم يحطمون أعصابي . . هذه الحرب المقيتة معهم . . تكاد تفقدني كل رغبة في المقاومة . . إنها تشل أعصابي . . تشل نفسي شيئاً فشيئاً. (بحزم) ولكنني لن أستسلم لن أستسلم أبداً ! !

(يلتفت ناحية الجمهور باستغرب. يتفحص الحاضرين بارتياب وكأنه يراهم لأول مرةّ يقترب منهم قليلاً وهو لا يزال يتفحصهم) يا إله السماء! أنتم . . . ماذا تفعلون هنا؟ كيف دخلتم داري بحق الشيطان !؟ كيف استطعتم ذلك !؟

(بغضب) ماذاّ ألم يعد ثمة قانون في العالم !؟ (باستغراب) منتهى الوقاحة! إنني لا أستطيع أن أتصور! كيف يسمح شخص لنفسه دخول بيت غير بيته. ودون إذن صاحبه!؟ (بغضب) حتى حديقة الحيوان . . . بل والمقابر أصبح لدخولها وقت معين ! بل وثمة أبواب لها تقفل على موتاها !! إنني . . إنني لا أفقه كيف تدخلون بيتي كما. كما لو كنتم تدخلون حاناً . . أو . . أو مرحاضاً عاماً !؟ (بضعف) هل مدين لكم أنا بشيء؟ (بغضب) كلا . . إنني لا أسمح لكم أن تتسللوا الى بيتي . الى حياتي الخاصة ! إنها ملك لي . . ولي وحدي . . (بثورة) لماذا تنظرون إلي هكذا؟ سترمونني بالجنون . . ها ! ! أليس من حقي الثورة لحريتي ستدعون بأنني أعتدي على حريتكم! ولكن الى الجحيم . . أنتم . . وحريتكم . . . تلك التي تبنونها على حطام حرية الاخرين . . حطام حريتي . . حطامي أنا !! (برزانة) أنكم تستطيعون ممارسة حقكم في الحرية . . دون قتل حريتي لو أردتم! أن أحداً لن يمنعكم من ذلك !!فلماذا على حساب حريتي إذن؟ ولماذا ينبغي علي أنا، أن أدفع الثمن من حريتي؟ هل حاولت أن أسلبكم مرة حريتكم ؟ . .

(بحزم) كلا! إنني لم أفعل . . بل ولم أفكر في ذلك أبداً. وإذا كنتم تدعون بأنني فعلت . . فإنما لتبرروا جريمتكم. . تلك التي ترتكبونها في حقي . . وليس إلا . . (بارتياب) لا أستطيع فهم ذلك ! لماذا تنظرون الي هكذا؟ عيكم اللعنة . . ما هذه المهزلة التي تمثلونها ! مشيراً الى أحد الحاضرين) أنت . . لماذا تنظر إلي هكذا؟ كيف دخلت بيتي ! ؟ ولماذا ! ! ؟ وبأي حق فعلت !؟

(بغضب) لماذا لم تذهب الى أي مكان آخر؟ الى الجحيم مثلاً . . لماذا بيتي أنا بالذات !؟ (باستغراب) يا إلهي ! . . هل نظرت الى عينيك؟ انهما تتوقدان . . إنهما . . إنهما . . لا بد وأنها ذئبة تلك التي أرضعتك ! من يدري أي شيطان . . ذلك الذي يسكن هذه الرأس الآدمية !؟ (الى آخر) أنظر إليه . . ألا تعتقد أنت الآخر أنه . . أنه كمن لو كان . . . (بضيق) لماذا تحدق أنت الآخر بي هكذا؟ يا للرهبة . . إنك لا تختلف عنه ! (ينقل نظره بين الاثنين) انني لم أعد أفرق بينكما ! (يلف الجميع بنظرات حادة) يا للعنة . . ما الذي حدث بحق الشيطان !؟ لماذا تتخذون جميعكم نفس الهيئة عندما أنظر اليكم ! هل تآمرتم علي جميعاً !؟ (يتفحصهم بارتياب) مستحيل هل أشبهكم أنا بشيء؟ (بحزم) كلا . . كلا . . يستحيل ذلك ! إنه لمريع أن . . أن . . (متراجعاً بيأس) لبنى . . . لو إنك الآن هنا يا لبنى . . كنت تقذفين بهؤلاء الذئاب الى الشارع . . الى الشارع . . . ولكنك . . ولكنك بعيدة عني الآن . . لقد رحت بعيداً . . هجرتني . . لا بد وأنك فعلت ذلك بإيعاز منهم ! فقد سيطروا على رأسك الصغير . . استعبدوا غباءك ! ! (بأسف) ايه لبنى . . . (بصوت حالم) "أجمل العينين عيناها. وأحلى السوسنات صدرها . . . والدمع بارع فهو في الصدر خفوق، وهو في العين صلاة. كوننا ما زال رائعاً . . " (بيأس) هكذا كنت أغني لها . . هكذا كنت أغني لها . . للبنى حبيبتي ! ولكنها أغلقت عن غنائي أذنيها وتركتني هكذا وحدي فريسة للوحدة . . يعذبني الليل، ويأكل روحي النهار !

(بمرارة) لا. . لم يعد كوننا رائعاً. بل جحيماً لا يطاق أضحى . . (بضيق) الريح الغربية . . الأشباح . . طرقات أحذية الوحوش في قلب الليل . . وحرية الذئاب الآدمية ! ! (بحزن) وشبحها . . طيفها . . ذلك الذي تطير روحي خلفه كلما مر بي . . كما الى النار تطير الفراشة ! (كمن يرى طيفاً) "يا حبيبتي . . الى أين تخطرين؟ فإن عاشقك المخلص آت. حبيبك الذي يغني لك أجمل الألحان . . ." (ببكاء ناحية الباب كمن يفقدها) لبنى . . لبنى . . (بيأس عائداً الى مكتبه) طيفها مرة أخرى ! كم يعذبني أن أفقدها ! (يجلس الى مكتبه بعياء. ينصت الى صوت الريح الهادئة ثم يدندن بصوت حالم (أنت معي. . فلتعصف الرياح . . لتقصف الرعود . . (بحنان) جميلاً كان صوتها . . لبنى . . (بأسف) هكذا كانت تغني لي، كلما أكون لديها على شاطئ البحر . . كانت تحبني . . كنت أحبها حداء النفس التائهة كان صوتها ! (ينصت الى صوت الريح ثم يردد ثانية) أنت معي . . فلتعصف الرياح . . ولتهطل الثلوج . . (بشرود) مع أنسام الصباح . . ودفق عبير الشمس عبر نافذتي . . كان يدلف الي ذلك الهديل الرخيم من خلف شباكها . . وعند المساء . . كنت ألم ببيتها لأسمعها . . كانت دائماً تغني . . فتعلق على شباكها قلبي وذات صباح طروب رأيتها . . بحيرة الاخضرار رأيت! تلك المترامية على هدب الأفق البعيد في عينها. وذلك الفجر الملوح في وجهها الصغير ّ وتمطي الحرير، على ياسمين الشرفات. بله الانوثة المحوم جذلان، على تفتح القرنفل فوق صدرها ! ! (بأسف) ايه يا بحيرة الاخضرار . . يا حديقة الوجد المزهرة . . أي أعصار بدوحك مر؟ أي تنين بنبعك يا غدائر العنبر سكن ! أي لبناي . . لبناي الضائعة . . (ببكاء) أنت معي . . أجل. فلتعصف الرياح . . فلتعصف . . فلتهطل الثلوج. فلتهطل . . أنت معي . . ضمني إليك يا حبيبي . . أكثر . . أكثر . . موقد دائم الدفء قلبك لي ! . . لي ! . . . أنت معي . . (بيأس) أين ذهبت كل هذه الهمسات في عصف الرياح؟ وتلك الغمغمات على تقصف الشاطئ عند قدمينا! كيف نسيتها يا لبنى؟ كيف !؟ وكأنك لم تتفوهي قط بها !! (يأخذ الرسم اليه متأملاً بشرود) لبنى كما عرفتها . . (يضع الرسم متذكراً) إحدى ليالي الشتاء القاسية كان ذلك . . أول إشراقة في قدري كانت . . أول شرارة في موقد قلبي ! (بحنان ومحبة ناهضاً) كبسمة الدفء أطلت من خلف متاهة عمري . رقيقة عذبة . . . فخشعت في محراب تلك الآلهة الصغيرة، في مسالك الغاب أصلي . . (راكعاً معبراً بيديه) "أجل يا حبيب القلب . . إن هو إلا حبك هذا النور الذهبي الراقص على الغصون . .وهذه الغيوم الكسلى السابحة في الفضاء . . وهذا النسيم الراكض منعشاً مني الجبين . ." (ينهض متثاقلاً ناحية الجمهور (هكذا رحت أصلي لها بعد أن عرفتها . . لعشتروت. عشتروت الصغيرة الساذجة! عشتروت الحمامة . . عشتروت الأم . . وعندما كانت بشهور حملها الأولى . . (مبتسماً بسعادة) جميل ذلك . . لبنى . . (معبراً) لبنى حامل ! . . (ضاحكاً) كدت أجن . . تلك الآلهة الصغيرة . . حامل . . إله صغير يلجأ برفق الي . . الي . . لقد توردت وجنتاها حين . . (بخجل) حين رحت أتحسس ذلك التكور البديع . . زجرتني عندها خجلى . . كنت كالطفل اتوق لرؤية تلك الدمية . . دميتي التي تخبئها لي لبنى . . لقد ضربتني على يدي تردها . . (بحماس) فضممتها الي . . رحت الثم وبكل حبي كل موضع في جسمها . . خصلات شعرها . . جبينها . . أهدابها . . تورد وجنتيها . . شفتيها . . وذلك التكور البديع . . تلك الدمية المخبأة لي باحتراص ! كانت تبعدني عنها خجلة . . (راكعاً) الى أن ركعت على قدميها الحافيتين تينك القدمين الجميلتين . . قدمي عشتروت الصغيرة . . عشتروت الأم . . المبللتين بقطرات الفرحة من دموع سعادتي . (ناهضاً بحماس) كالظل بقيت أجلس عند قدميها. . تلك الشهور من حملها . . كنت لا أفارقها . . والدة الإله . . كنت أقوم على راحتها بنفسي . . أرقب ذلك التكور يعمر بالحياة . . وبفرحة طفلة . . يوماً بعد يوم! وعندما كانت تغفو الى جانبي . . كنت لا أنام ! كنت أرقب ذلك التكور يعلو بهدوء ويهبط . . (ضاحكاً) كنت أتخيله يكبر . . ويكبر . . ومن ثم . . كما تفتح الزنبقة أجفانها، أتصوره يتفتح ! ويطل من خلاله ذلك الوجه الصغير . . ذاك الملاك الوديع . . فأبسط راحتي لاحتضانه . . كان يفر . . ثم . . ثم يختبئ ! وتغمض الزنبقة أجفانها . . فأغمض على روعة أغفاءتها جفني ! (بسعادة) كنت سعيداً . . ملأت البيت بالدمى الصغيرة ! (بحماس) كل أنواع الدمى! نزعت عن فساتين الغيوم زركشها، وطرزت بوشيها فساتين دماه! الى الورود الراقصة مددت يدي . . ومن ثناياها حفنت مرح ألوانها . . وزركشت بها مهده الصغيرة ! أجل . . حتى المهد أحضرته له ! يتحتم علينا ذلك . . أن نمنح السعادة أطفالنا . . أن نمنحهم الحياة سليمة لكي يستمروا بها أن نحملهم مشعلها كما ينبغي أن يحملوه!

(بيأس) ولكنه . . ولكنه لم . . (يلتفت الى ساعة الحائط بذهول) يا إليه! كان علي أن أهذب ! . . لقد تأخرت! (يلتفت ناحية النافذة منصتاً ثم بارتياح) لقد هدأت الريح . . (يتقدم منها ويزيح الستار ناظراً الى الخارج) الزقاق مقفر . . والموت كفن نوافذه ! (يتجه ناحية الباب مصلحاً من شأن معطفه بارتباك) لا بد وأنها تنتظر. كانت تنتظرني في مثل هذه الساعة دائماً . . يتحتم علي أن أذهب ! (يفتح الباب، ثم يقف به ملتفتاً الى ساعة الحائط) هذه الساعة اللعينة كم تخونني! كان علي أن أحطمها . . يجب أن أحطمها! لقد فاتني موعدي مع لبنى . . تأخرت عن زيارة طفلي ! ملعون ذلك الذي يسلم للنسيان أبناءه فلأذهب الآن . . (يخرج مغلقاً خلفه الباب).

بيت الجنون
(مسرحية في فصلين)

يرفع الستار عن نفس الغرفة، ونفس الأشياء في الفصل الأول. يستمر الظلام فترة وجيزة، بينما يسمع في الخارج صوت ريح قوية.

يسلط الضوء الأحمر على ساعة الحائط. ثم على الكرسي الخالي أمام المكتب. يسير الضوء ببطء من اليمين الى أن يستقر على باب الغرفة في يسار المسرح، بينما يسمع سعال مكتوم خارج الباب ممزوجاً بخشخشة المفتاح وكأن فتحه يستعصي عليه.

يشق الباب محدثاً صريراً. ثم يدخل سامي بشكل جانبي، ملتصقاً بدفته مضطرباً، وهو لا يزال يسعل، يرافقه الضوء الأحمر حتى النهاية.

(يغضب وهو يحاول إغلاق الباب ساعلاً) هذه الريح المجنونة . . لا بد وأن إله الريح قد جن! عليه اللعنة . . هذا الشقي . . اللعنة على كل شيء ! (يوصد الباب من الداخل) وعلى هذا الباب اللعين! (متأكد من إيصاده) لم يدخل الي منه غير الشقاء! (يبتعد قليلاً ثم يعود ليتأكد من إيصاده ثانية) إلا تستطيع البشرية الحياة دون أبواب! ؟ (ساعلاً) أما حان لهؤلاء الجبناء الكف . . عن افتراس بعضهم البعض !؟ (يتجه نحو النافذة ممسداً شعره المنفوش) أي لعنة تلك التي راحت تغتال سلام الليل، وتهتك صمته بحوافر جيادها الجنية . . وصهيلها الرهيب ! (يزيح الستار ناظراً الى الخارج) ليشمل الموت هذه المدينة الى الأبد . . (يتأكد من إغلاق النافذة) الريح الغربية! هذه الريح الرهيبة العاتية! لم تعد هناك رمال على الشاطئ! كدت أجن ! يا لهول ما رأته عيناي! يا لبشاعة الأشياء!؟ (يزيح الستار ثانية ناظراً الى الخارج) شاطئ الموت! لم يعد ثمة سرطان واحد في أعماق البحر! اوه . . يا للرهبة، أمواجه المظلمة الرهيبة، كالأشباح المفزعة كانت تزحف نحويّ كانت ترتفع . . وترتفع . . ثم تندفع خائرة، كانت تتلوى على قدمي بوحشية كانت قدماي تنزلقان نحو الهاوية بقوة! كدت أستسلم لطغيانها! كدت أقفز في لجة ليلها المفزع! (بضعف معيداً الستار) في مثل هذه السرعة! أوه . . يا للشقاء من كان يتصور! ؟ (بغضب متجهاً الى مكتبه) لماذا لم تحمل هذه الريح المتوحشة، مياه البحر معها الى الجحيم! الى أي مكان آخر ؟ لماذا رمال الشاطئ!؟ أليس غير الرمال في العالم تحملها معها!؟

(يلتفت ناحية النافذة مشيراً) لماذا – بحق الشيطان – لم تحمل معها هذا العالم الآسن . . ربما أتت بعده بعالم أفضل . . أو . . أو هذه المدينة الزانية!؟

(ناحية الجمهور بحدة) أو هذا القبر . . هذا البيت وكل أشيائه المحنطة! ولكنها لم تفعل ! مجرد أن تتحداني . . أن . . اوه . . تلك الرمال . . يا للعنة! (يجلس الى مكتبه بإعياء ضارباً على ركبتيه) لا بد وأنها ليلة من الإفلاس، تلك التي تمخضت عني! (بصمت . . ثم بسخرية) هه . . في المرحاض! مسكينة أمي . . ألم تجد غير المرحاض تسقطني فيه؟ (بيأس) يا للتعاسة! هل ضاقت بها الدنيا! في المرحاض!؟ (بغضب) ولكن ثمة مبرر لم يكف لها! إنها تلك الطائرات المفترسة . . إنها هي التي ولدتني في المرحاض، وهي تلد الجنون بعينه، مع مئات القنابل . . والتي كانت تصبها تلك الليلة على هذه المدينة . . ودون انقطاع! تلك الرعود البربرية . . . وتلك الزلازل المفزعة، هي التي تمخضت عني . . وفي المرحاض! وكأنني . . وكأنني . . (بعصبية ناهضاً ناحية الجمهور) أي ليل من الخوف والرعب!؟ (مشككاً) ولكن . . أليس هو الإفلاس بعينه؟ إفلاس العقل! إفلاس العالم من كل قيمة الاخلاقية! بل إفلاس الانسانية بأسرها!؟ (بغضب) وماذا غير ذلك يعني . . أن يستبق ذلك الجحيم مولدي؟ أن أكون وليد خوف ورعب! أن تنحي الخالق عصبة مجنونة من الحدادين، والنحاسين عن إدارة مصنع الحياة . . ولتستبد هي به ! أليس الجنون بعينه؟ بل منتهى الجنون! أن يصبح الحداد والنحاس مسؤولين عن هذا المصنع! (بسخرية) هه . . أنا . . هه . . من صنع حداد! ولا بد أنني سأنتهي على يديه! (بمرارة) يا للتعاسة . . إنني لا أستطيع تصور ذلك! ولكنها الحقيقة . . والبرهان على ذلك، أنني ولدت في المرحاض! (بسخرية) الحرب . . الحرب من أجل الحياة الأفضل! هه . . من أجل أن تضعني أمي في المرحاض! وقبل أن يحين مع ذلك موعدي ! أجل. من أجل أن تكون المراحيض مهود ولادة للبشرية! ولماذا؟ لكي أحيا حياة أفضل! يا للشقاء . . (ناحية الجمهور) هل . . هل . . (توقف فجأة . يتفحص الجالسين بارتياب، مشيراً ناحية الجمهور باستغراب) ماذا؟ أنتم . . ألا تزالون هنا! ؟ ماذا تفعلون هنا بحق الشيطان! ؟ أوه . . يا للغباء! ظننتم أنني سأترك هذا البيت لكم! بل يا للوقاحة! منتهى الوقاحة! كدت أنسى أنكم هنا! كدت أنسى تماماً! ما كان علي أن أفعل . . يتحتم علي ألا أغفل عن ذلك مطلقاً! أنكم تحتلون بيتي . . تسرقون حريتي . . ودون مبرر دون أن يردعكم قانون عن ذلك ! لا . . لا . . لن أنسى مطلقاً . . أعدكم بذلك . . أنه لسوء حظكم! ولكنني سأبر بوعدي ! (بسخرية) أنكم تضيقون – ولا شك – بي ذرعاً ! ها . . (بجدية) إنكم على حق! طبيعي أن يضيق المجرم بآثار جريمته! وطبيعي أن يدفعه ذلك الى ارتكاب جريمة غيرها . . بل والتمادي في جرائمه . . حتى يتمكن أخيارً من القضاء على كل ما يذكره بجريمته الأولى! قانون ذلك . . بل دستور هو عندكم وشريعة! (بارتياب) لماذا تنظرون الي هكذا؟ لماذا تتخذون جميعكم نفس الهيئة حين أنظر اليكم . . أو أحدثكم! ؟ هذا التجهم القبيح . . هذا الصمت الرهيب، هذه الشراسة الساكنة في أشداقكم! يا إلهي! ما أسرع أن تتحول سحناتكم الى أشكال مفزعة! الىوجوه متوحشة بشعة! حتى أنفاسكم . . ثقيلة وبطيئة! وكأنها لهثات الذئاب المتضورة جوعاً . . فحيح الأفاعي المتحرقة الى الدماء عطشاً ! (بجدية) لم أرتكب خطأ . . إنها الحقيقة! ولكني تماديت في ثرثرتي، وكأنه لم يبق لدي ما أفعل، ما كان علي إزعاجكم بمشكلة تخصني وحدي وتقلقني ! لا أدري! ربما كانت تخصكم أيضاً: ؟ بل لا بد وأن تخصكم . . إنني لم أدعكم الى بيتي! ولكنكم دخلتموه دونما، إذن مني! اقتحمتموه علي اقتحاما! (مشيراً الى إحدى الحاضرات) هل تخصك هذه المشكلة؟ أعني . . أعني أن تكوني مجرمة . . وأنتقضي على كل أثر لجريمتك!؟ (مستدركاً) اوه . . لم أقصد . . كنت أعني . . أعني . . أن يكون جنينك من صنع حداد . . ثم . . ثم يميته؟ أجل. هذا ما كنت أعنيه بالضبط!

(بسرور) أشكرك . . لا يتحتم علي ذلك . . ولكنني أشكرك! مجرد أن تفهميني . . مجرد أن تنتصري لرأيي . . مجرد أن تحاولي إقناع غيرك بصحة رأيي . . تميل بكفة الغلبة لي في النهاية . . وانتصاري! طبيعي أن لا توافقي . . لا بد وأن يكون جنينك خلقاً إنسانياً!

(بحماس متراجعاً) أي أم توافق على جنون كهذا . . أن يكون المرحاض مهداً لوليدها؟ لا توجد أم في العالم توافق على ذلك ! يتحتم علينا جميعاً أن لا نوافق . . أن ننتصر لجميع الأمهات في العالم!

(بغضب) ولكن أمي . . أجل ولدتني في المرحاض . . أحد في العالم كله لم ينتصر لها! أم واحدة لم تعترض على ذلك! ما كان يحدث – بحق الشيطان – لو أنها . . لو أنها تتلقفني براحتيها! ؟ ما كان يحدث لو أن ذلك الجحيم اجتاح العالم وهي . . وهي تجلس على كرسي المرحاض! ؟ (باحتقار) بالطبع . . طبيعي أن تضحكوا! إنكم تعتبرونها قضية خاصة . . طبيعي أن لا تشذوا! قانون هو أن تدركوا الحقيقة بعد فوات الأوان! هذه طبيعتكم! نهاية العالم . . كيف يمكن لأم أن تضحك من مأساة كهذه! كيف يمكن لأم أن لا تثور لامتهان أمومتها! ؟

(بحماس معبراً) أي أم لا ترغب في أن تأخذ طفلها إليها . . أن تضمه الى صدرها، وتقبل ثغره أن تراقبه وهو يلوك ثديها بلثته اللحمية . . ويدغدغه بيديه الصغيرتين! منتهى السعادة . . كل أم تحب ذلك!

(بحزن متراجعاً) ولكن أمي لم تحظ بذلك . . إنها لم ترني ولو لمرة واحدة ألثم ثديها! في نفس اللحظات التي كانت تمنحني فيها الحياة . . كانت تفقد هي حياتها! (بنقمة) النزيف . . النزيف الأحر القاني أجل . إنه هو الذي قتلها، ودون أن يستطيع والدي، أن يفعل من أجل شيئاً ! أي شيء! (بغضب) وما الذي كان يستطيع فعله، وفي ذلك الجحيم الذي كان يجتاح العالم؟ ماذا ! ؟ إنه لم يكن يعلم! إن أحداً لم يستشره! بل تآمروا عليه جميعاً. (بثورة) أجل. تآمروا عليه . . العالم بأسره . . وسيظل ذلك النزيف القاني لطخة جريمة مروعة . . تلوث يديه أبد الدهر . . العالم بأجمعه! أجل . العالم بأسره . . هو المسؤول عن هذه المأساة الأليمة . . مأساة ولادتي! على كاهله سيحمل وزرها الى الأبد . . الى الأبد ! (بضعف) أليس هو البؤس بعينه، أن يرضع الانسان ثدياً غريباً عنه . . أن ينشأ ويكبر مع مأساة ولادة كولادتي! ؟ (بحزن) حتى أبي . . ذلك المسكين . . لقد جروه هو الآخر الى الموت قسراً . . كان يحمل الموت معه للآخرين! (بحماس) إنه لم يوافق مرة على ذلك! لكنه أرغم . . لم يكن له ثمة مبرر . . إنها الحرية . . الحياة الكريممة! (بشرود) أخذني اليه يقبلني . . كان يغالب دمعه . . كنت ألهو حينها مع الأطفال. أجابني بأنه سيعود قريباً! سألته عن سفره . . وعن تلك الملابس الرهيبة . . كان يبدو مرعباً . . (ببهجة حزينة) قال لي أنه يحبني كثيراً ! (بأسف) وحين استقل السيارة . . (معبراً ببكاء) جريت خلفه . . كنت أصرخ بأعلى صوتي منادياً . . أبي . . أبي . . كان يلوح لي وهو يبتعد . . ويبتعد . . كنت لا أزال أجري خلفه . . وأجري ! رأيته يمسح دموعه وهو يلوح لي . . الى أن غابت السيارة بعيداً! الى أن غاب والدي ! إنه لم يعد بعد . . لقد غاب الى الأبد! ؟ (بضعف) لم أره منذ ذلك اليوم . . كنت في التاسعة من عمري . . في التاسعة فقط! يا للضياع! (بشرود يائس) وأخيراً بقيت وحدي . . لقد ذهبوا جميعاً ! أمي . . والدي . . ذلك الإله الصغير طفلي . . لبنى . .

حتى لبنى تركتني مع الآلام وحدي . . لم يبق لي شيء! لا شيء! (يجلس الى مكتبه بإعياء) لا شيء . . الريح الغربية دائمة الهبوب . . لعنة المرحاض . . المجانين . . رمال الشاطئ المتعفنة . . ومن ثم سرطان البحر! أجل . سرطان البحر! هذا السرطان المسعور ذلك القطيع المفزع! لم يبق في أعماق البحر سرطان واحد ! ! كانت جميعها تزحف على الشاطئ . . كانت تغرس مناقيدها المسنة المتوحشة في أعمال الرمال . . وهي تنهش . . وتنهش . . أوه . . يا للرهبة! (يصمت. ينصت الى صوت الريح. يدندن بشرود ثم يردد) ذهب الصيف . . ولم تعد هناك طيور تغني . . ماذا أفعل الآن، وقد تركتني وحيدا؟ ماذا أفعل الآن، وقد تركتني وحيداً؟ تركتني وحيداً! (يدندن. ثم يصمت منصتاً الى صوت الريح) ولكن لماذا تركتني وحيداً يا لبنى؟ لقد أحببتك . . بل عبدتك! كيف استطعت؟ كيف !؟ أن تحطمي حياتي . لقد قضيت أجلم سني عمري أناضل من أجلها . . (بضعف) للا مأوى كنت . . للا طعام كان مأواي في الليل محطات القطار، وعفن الميناء في مخازنه مع الجرذان! وفي النهار، في جحيم الشمس. . وزفير المداخن الخانق! كيف أوفر الراحة بعدها لعيشي! كان علي أن أفعل ذلك لوحدي . . وحين حصلت عليها! إياها سلبتني! لقد سلبتني كل شيء ! ! (بغضب واقفاً) ولماذا؟ من أجل كل ذلك الجنون الذي تماديت فيه! (بيأس) أولئك السحرة المختالون . . لقد سلبوا عقلها . . أولئك اللصوص المتآمرون ! تلك الرأس الغبية! أحد خنجر يصوب الى قلبي . . أثقل صخرة تشد إليها رجولتي ! كيف ؟ كيف ! ؟ إنني لا أستطيع أن أتصور . (بشورد) يا إلهي . . تلك الرأس الصغيرة! من كان يتصور ! ! عندما عرفتها لأول مرة . . كانت بسيطة ساذجة . . رقيقة عذبة . . كان ذلكا لحزن الوديع الساكن في عينيها يزيد من سحرهما . . أجابت من خلف حزنها ذات مرة . . أن لا أحد في الدنيا لها! أخبرتني بأنهم تحت الردم جميعاً . . وذات ليلة مجنونة من ليالي الحرب ! ! (بعطف) كاد قلبي يتفطر حزناً . . شعرت أنها قريبة مني . . قريبة جداً ! أحسست أنني في أمس الحاجة الهيا . . لأن تكون الى جانبي . . لأنها تشاركني شيئاً ما . . مأساة ولادتي ! لعنة تيهي وتشردي ! (بأسف) ولكنها تغيرت . . تغيرت تماماً ! إنها لم تعد تلك التي كنت في حاجة اليها! تلك الساذجة الطفلة! ! ذلك الحزن الساكن في عينيها . . فقد تغير كل شيء ! (بضيق وتشكٍّ) الى نمرة شرسة تحولت، وفجأة! على أطراف فكيها المفترستين . . كانت الدماء لا تنفك تقطر . . يا للتعاسة . . كان صعباً علي أن أصدقّ في الصباح تركتها ذلك اليوم . . في الصباح فقط! وحين عدت اليها في السماء، كان كل شيء قد تغير! ليست العينان عينيها . . ولا الشعر شعرها ! كل شيء أصبح غير الذي كان في الصباح حين تركتها! بحثت عن تلك الواحة الخضراء في عينيها، فلم أجدها! كان وجهها . . كان صحراء لون الكبريت المحرق رمالها! حتى شعرها . . أجل شعرها! كان على النمرة أن تستكمل شكلها تلك اللبدة الصفراء الرهيبة . . كانت تغمر رأسها ووجهها . . بل وعينيها المشعتين بحقدهما . . كانتا تتوقدان من خلالها!

(بخوف) لم أجرؤ على الاقتراب منها . . كدت أفقد – يا للرهبة – في جحيم تينك العينين عقلي! حسبت أنني بنوع من عمى الألوان أصبت فجأة! ولكنها كانت هي . . أجل هي . . النمرة الشرسة! كانت هناك . . في زاوية البيت تربض أنه الجنون بعينه! منتهى الجنون! لم أجرؤ حتى على الكلام . . على استرداد لبناي . . صديقتي . . (بحنان) كان ذلك التكور الجميل . . ذلك الجنين الخالد الى رحم النمرة ولدي أنا . . . يمنعني من أن أعارضها في شيء! كنت أريد لها السعادة . . كل السعادة، وفي كل شيء! على حسابي . . حساب سعادتي ! أجل. هكذا كنت أعاملها دائماً! ينبغي علينا جميعاً ، أن نعامل نساءنا الحوامل هكذا فبعضنا ذلك الذي يحملنه لنا في أرحامهن ويحرسن ! (بسعادة) هل أجمل من أن يرى الإنسان بعضاً منه ينمو ويكبر؟ يمتص الحياة ليخرج اليها! وليملأ عليه بالسعادة علامه! ؟ ولكن . . ولكن . . (بيأس) كيف استطاعت ذلك؟ كيف!؟ لم يحدث في التاريخ . . لقد تعلمته جيداً. أجل . لم يحدث أبداً! نمرة واحدة لم تفترس طفلها! أما هذه النمرة الشرسة . . النمرة مفترسة أطفالها لقد افترسته . . أجل. اغتالته! كيف استطاعت ذلك – بحق الشيطان - ! كيف !؟ أن تجهضه بيديها هي! بيديها المجرمتين فعلت ذلك! (بغضب) كذب ذلك . . منتهى الكذب! لم يكن أبداً ضعفاً في الدم! لم يكن مطلقاً سوءاً في التعذية! أبداً لم يكن! كلهم كذابون أولئك الأطباء . . أفاكون جميعاً! بيديها المجرمتين فعلت ذلك . . وبإيعاز منهم! لقد ساعدوها على ذلك . . ولماذا؟ لأنه سيكون ولدي! (بأسف) يا الهي . . لقد أحضرت له المهد! إنه لم يره! كيف ندع للأرض بحق السماء . . أن تستقبل أطفالنا! وقبل أن تستقبلهم مهودهم! ؟ قبل أن يروا على درب الحياة نورها . . وهم الحريون بحمل مشعلها !؟ مشعلها المقدس. يا الهي . . ذلك الوجه الجميل ! تانك العينان! (ببكاء) ذلك الإله الصغير !؟ كم كنت أمني النفس به عزاء . . أن أراه يعبث بأشيائي . . بأشياء البيت كلها ! أن يملأ عالمي هديلاً عذباً . . أن أراه على الشاطئ يجري ويمرح . . في رماله الناعمة يغرس قدميه الصغيرتين . . وبيديه الطفلتين يصنع منها بيوت أحلامه . أن أشاركه مرحه ولهوه . أن آخذه الى صدري، أحكي له الحكايا. قصص آلهات الاغريق والأميرات الجميلات. أن أغني له أجمل الألحان . . أغان للجمال والحب عذبة . . متناسياً في روعة السحر على بسمته، كل مشاكل الحياة من حولي وجحيمها . . وتلك اللعنة التي لا تمحي . . لبنى! (بحزم) يتحتم علينا ذلك! أن نتنازل عن كل سعادة في الدنيا، مقابل ما يمنحنا أطفالنا من سعادة! أن نمنحهم نفوسنا! (مشيراً الى إحدى الحاضرات بإشفاق) هل رأيت قبره في الخارج؟ هناك عند مدخل البيت! ذلك القبر الصغير . . (بسعادة حزينة) إنه جميل! أليس كذلك!؟ (بأسف) لقد ذوت جميع أزهاره . . لم تعد لبنى تسقيها . . وشغلتني بمشاكلها وجنونها عنه! مؤسف ذلك! ولكنه ما زال جميلاً! (ببكاء) كلها جميلة. . تلك القبور التي تحوي في داخلها أطفالنا . . كلها عزيزة علينا! (يردد بشرود) "على شواطئ العوالم اللامتناهية أطفال يحتشدون، العاصة تدور في الجو على غير هدى، والسفن تغور في اليم معدومة الأثر، والموت جوابه يترصد، والأطفال يلعبون، على شواطئ العوالم اللامتناهية حشد من الأطفال عظيم!" (ببكاء) كم طويلة هي الساعات التي قضيتها . . في ضوء القمر الى جانب قبره! لقد فقدت كل شيء بعده . . كل سعادة! (بإعياء) ولماذا؟ لأن لبنى أصبحت تؤمن بالحرية . . حرية الذئاب . . تلك التي لقنوها! (بغضب) حرية ماذا؟ أن تهدم حريتي لتبني على أنقاضها حريتها . . أن تسترد حريتها المسروقة في تشردها وتيهها . . وما سلبتها الحرب من حقها في الحياة من حريتي أنا ! أجل . . أن تنتزع رئتي، لكي تتنفس هي بها! لقد علموها ذلك جيداً . . أولئك الذئاب! (بثورة) ملعونة تلك الحرية. . وملعون كل ناشد لها! (بيأس) ألا يكفي ذلك لأن يفقدني صوابي! لأن يجعلني أفر بعيداً، ولو الى الجحيم نفسه! لقد أرادوا لي ذلك . . (بحزم) ولكنني قررت ألا أفعل . وأن أقف في وجههم جميعاً ّ بل قررت أن أنتقم . . أن أنتقم لنفسي ولحريتي . . أن أخلق من هذا الجحيم الذي خلقته لي لبنى، جحيماً لها . . ولكل أولئك الذئاب . . ولكلبها الوقح . . ذلك الذي أحضرته لتعوض به عن الأطفال . . وليحتل فراشي . . أنني أعرف . . أجل . أعرف جيداً أن الانتقام خروج على القانون، بينما الاعتداء مخالفة له فقط . . فأنا مدرس للتاريخ! ولكنني قررت أن أنتقم . . وأن أنتقم بنفسي! (بحدة) فالقانون الذي يعتدى عليه دون رادع، ليس قانوناً هو ألبتة! (بيأس) ولأول مرة! أجل لأول مرة أصبحت أؤم الحان . . نعم أنا . . مدرس الأدب والتاريخ! أنا الذي كنت منذ المساء آوي الى عش لبنى! أصبحت اقضي ليلي مع السوقة في الحان أعب الخمر . . تلك الخمرة الرديئة القاتلة . . علها تنقلني بعيداً عن لبنى . . وعن كلبها، وعذابها المبرح في جحيم قربها! لأعود اليها كل آخر ليل، ثملاً مخموراً . . كنت أقذفها بكل ما يأتي الى يدي .. بل ومزقت جميع ثيابها وقذفت بها الى الشارع . . كل زينتها وأشيائها . . بل كل ما يتعلق بها ويعوزها! لكي أجعلها قعيدة البيت تموت بحقدها . . (بانتصار) لقد فعلت هي الأخرى كذلك! ولكنه لم يعد يهمني . . لقد طردني أولئك الأوغاد من عملي لم أعد مدرس التاريخ والأدب! لم أعد أصلح لذلك! هه . . ولماذا ! ؟ لأنني أشكل على مصالحهم خطراً ! أن أبغي الحياة الكريمة لأبنائهم، هه . . خطر . . أن أنقذ أبناءهم من ذلك الجنون . . أن أجنبهم من التردي في وحل آبائهم . . هه . . يا للشقاء – خطر !

(يجلس الى مكتبه بإعياء. يأخذ زجاجة الخمر الفارغة اليه . . يتأملها ثم يحاول استنزاف ما فيها من خمر، ثم يضعها بعصبية) لم يبق لي شيء. أجل . . طردني أولئك الأوغاد . . لقد قضوا على آخر عزاء لي! ولكنني لن أخضع لهم! ولن أستسلم أبداً . . لا يمكن أن أستسلم . . فلأمت جوعاً كما يبغون. يستطيعون هم شل معدتي وإسكاتها . . أما لساني، فلا! مستحيل أن . . (يصمت فجأة. ينصت الى صوت الريح القوية بذعر) الريح الغربية مرة أخرى! هذه الريح المجنونة العاتية . . إنها تزهق روحي . . لا تهب إلا لاغتيالي . . حتى الريح – يا للعنة – جندوها لصالحهم ! (بضيق) ألا تكف هذه الريح – بحق جهنم – عن هبوبها؟ لا بد وأنها لم تترك على الشاطئ . . ذرة من الرمل واحدة! (بخوف) لا بد وأنها حملتها معها جميعها، وأنها كشفت عنها مرة أخرى! اوه . . كلا . . كلا . . حتى ولو كان إله العواصف نفسه فقد . . اوه . . يا الهي! مستحيل لا أستطيع أن أتصور . . (ينصت الى صوت الريح. يقفز ناحية الباب بذعر وفزع) دبيب أقدام! في هذا الوقت المتأخر من الليل! ؟ يا للرهبة ! إنها تدب . . وتدب . . هؤلاء الوحوش . . لا بد وأنهم قد . .لا بد وأنهم تبعوني الى الشاطئ! لا بد وأن ذلك الوغد . . كان يختبئ خلف المنحنى! (متراجعاً) كلا. . لا يمكن أن يكونوا . . أن أحداً لم يرني حين ذهبت . . (ينصت ثانية ثم يضيف) حذاؤه الثقيل . . نفس الحذاء . . نفس الدبيب . . لا بد وأنه يقترب من البيت . . أنه ينظر الى النافذة . . نظراته تخترق الجدار! كلا . . بل هو قطيع من الأحذية . . الأحذية الثقيلة المفزعة. القطيع يزحف نحو البيت! (صوت الريح بوضوح . . صارخاً بغضب) ليوقف هؤلاء الأوغاد زحفهم المقيت . . ليسكتوا مطارق أحذيتهم . ليخرسوا هذه الطبول البربرية . . هذا الهتاف البشع على دروب المشانق! (بصمت . . الريح بهدوء. ثم باستغراب) أنهم يبتعدون . . يبتعدون . . (بخوف) نفس الليلة . . نفس الريح . . نفس الجنون! كنت ثملاً حين رجعت الى البيت لقد شربت طول الليل دونما انقطاع! (بيأس) وجدتها تنتحب . .كانت تضم ذلك الكلب اللعين اليها . . كنت متعباً . . وفي أمس الحاجة اليها . . كنت أود أن أعانقها . . على صدرها الدافئ انتحب! كان كلانا يحترق بعذابه للآخر، كان كلانا ينصهر في جحيم الثأر المتأجج في صدره. وددت لو ينسى كلانا ما بيننا . .لعنة الانتقام . لعنة هيرا، التي لا تزال تجري في دمائنا! أن نبدأ حياتنا من جديد . . ولكنها . . (بغضب) ولكنها لم تعطني الفرصة لذلك الجنون بعينه! أقصتني بعيداً عنها . . صرخت كالمجنونة في وجهي كما . . كما لو كنت وحشاً ضارياً ! أنه الحقد . . ذلك الحقد الأسود، والذي كان يأكل قلبها . . تلك النمرة الشرسة! (بثورة) لقد فقدت عقلي عندها . . انقضضت عليها . . قبضت بكل ما تملكه يداي من قوة، ورغبة في الانتقام . . على عنق ذلك الكلب المقيت . . كانت تقاوم . . النمرة الحقود تقاوم . . تنشب مخالبها المفترسة في عنقي . . إلا أنني لم أتركه . . زهقت روحه على صدرها . . بين ذراعيها ! (بإعياء) لم أفكر أبداً في قتلها هي! لم أفكر مرة في ذلك! كنت أريدها تتعذب وتتألم بقدر ما أحببتها! إلا أنها . . هذه الشقية! اندفعت كالمجنونة الى الخارج تصرخ بأعلى صوتها! لقد جن . . سامي جن . . أنه يريد قتلي! يريد قتلي! يريد قتلي! (بهستيريا) الشقية . . أنا مجنون! مدرس الأدب . . مدرس التاريخ. . مجنون! اندفعت خلفها . . (يتوقف فجأة. ينص الى صوت الريح ملتفتاً ناحية الباب بفزع) الأحذية المتوحشة . . يا للعنة . . أنهم يتقدمون! أنهم يعودون (بجنون نحو النافذة. يزيح الستار ناظراً الى الخارج) يا للشيطان! إنه هو نفسه! ذو القبعة السوداء! إنه يتوقف . .ينظر الى النافذة . . نظراته الموقدة . . لا شك أنه رآني، حين كنت أدفن جثتها عميقاً! خشية تلك الريح المسعورة! (متراجعاً بخوف) هذه الريح اللعينة . . كادت تحملها مع الرمال . . يا للرهبة . . لم يبق منها سرطان البحر شيئاً! تانك العينان! ذلك الفم الجميل! أوه . . يا لبشاعة الأشياء . .قطيع من سرطان البحر!؟ كانت مجرد هيكل عظمي! رمة متآكلة . . كيف حدث ذلك! كيف!؟ وبمثل هذه السرعة! (بغضب) هذه الريح المقيتة انى أتت!؟ (يعود الى النافذة ثانية. يزيح الستار ناظراً الى الخارج بغضب) إنه لا يبرح مكانه! عيناه المتوقدتان . . (يفتح النافذة بثورة) ما الذي تريده أيها الذئب؟ ها . .أيها الثور الهائج! إنني لا أخشاك .. لا ! لا أرهب نظارتك هذه الخبيثة . .لم أرد قتلها . . أنك تعرف ذلك جيداً! أبداً لم أفكر في ذلك . . إنه ذلك الوقح كلبها ما أردت قتله! إنها فعلت ذلك بنفسها! لقد فرت من البيت . . كان كالمجنوننة تجري ناحية الشاطئ . . كانت تريد الانتحار ولا شك! أنني . . إنني لم . . لقد حاولت إرجاعها فقط . .ردها عن ذلك الجنون! ولكنها أبت ! (بهستيريا) لماذا لا تتكلم؟ لماذا لا تأتي الي!؟ لماذا تقف كالصنم هكذا!؟ ها . .؟ لما لا تقول أنك رأيتني، أدفنها في جوف الرمل عميقاً . .عميقاً !؟ فإنني لا أخافك . . هل تسمع؟ لا أرهبك! لقد فقدت كل شيء . .إنها هناك أيها الذئب . . هناك على الشاطئ . . كتمت أنفاسها بيدي هاتين . . هناك . . لا . . بل أنتم الذين قتلتموها. . لقد فعلت ذلك بإيعاز منكم . . لقد أردت إرجاعها فقط . . كانت تريد الانتحار! كانت تغرس أنيابها المتوحشة في يدي . . أردت إنقاذها من ذلك الجنون . .كانت تجري بكل قواها نحو البحر . . كادت تقذف بنفسها في ليل أمواجه الرهيب . . (يندفع نحو الباب بجنون ثم يعود الى النافذة) هناك . .هل تسمع . . فإنني لا أخافكم . . (يندفع نحو الباب بجنون يحاول فتحه) لا أرهبكم . . سأتحداكم جيمعاً . . سأنتصر عليكم جميعاً . . جميعاً . . وحدي (يخرج) وحدي.
ستـــــــار
(انتهت)

كتبت هذه المسرحية في ستينات القرن العشرين في فلسطين


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى