الاثنين ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٦
بقلم عز الدين عناية

تحديات المرأة المؤمنة في اليهودية والمسيحية والإسلام

عزالدّين عناية

أمْلت التحولات التي شهدها العالم في التاريخ الحديث دورا مغايرا للمرأة في الساحة الاجتماعية. وكانت المرأة سواء المسلمة أو المسيحية أو اليهودية الأبرز من حيث التأثر بهذا المناخ الجديد. فقد شهد الواقع الذي تسود فيه الأديان الثلاثة تبدلات عميقة تجلّت في تشكّلِ ثقافة مغايرة، طرحت رؤى جديدة انعكست على دور المرأة وعلى حضورها في المجتمع، وبالمثل على مساهمتها الحضارية بشكل عام. فما عادت المرأة المتأتية من الثقافة الإسلامية أو الثقافة اليهودية-المسيحية تلك المرأة المنزوية والسلبية، المنفعِلة بالأحداث والتغيرات دون مساهمة فيها أو صنعها، بل باتت شريكا فاعلا في التحولات الكبرى. وصحيح أن المرأة في التقليد الإبراهيمي عامة تتماثل من حيث بعض السّمات والرؤى والمعتقدات، ولكنها تتغاير من واقع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى. فالواقع الغربي المسيحي قد شهد تحولا فاق ما عليه الحال في الواقع الإسلامي، وهو ما انعكس على دور المرأة وكيانها. حيث اكتسبت المرأة الغربية جملة من الحقوق رفعتها إلى مصاف الرجل، بما خلّف تبدلات عميقة داخل الأسرة وداخل المجتمع، انعكست سلبا وإيجابا على الوئام الاجتماعي، لعل أبرز السلبيات الحاصلة في ذلك التحول ما تشهده الأسرة في الغرب من هشاشة ومن تحلّل باتا يهددان تلك المؤسسة العريقة بالانخرام؛ وأبرز تلك الإيجابيات الحاصلة تتمثّل في تعويل المرأة على ذاتها في تدبير شؤون حياتها وفي تخلّيها عن تلك السلبية التي لازمتها، باعتبار الرجل راعيا وحاميا لها. وبما يوازي ذلك التحول خطت المرأة في الواقع الإسلامي خطوات جبارة في العقود الأخيرة، من حيث التحرر من سلطة المجتمع البطرياركي، ومن حيث الانطلاق في تحقيق كيانها كعنصر فاعل وإيجابي في المجتمع بعد أن كانت عبئا على الرجل، أو بالأحرى أُريد لها أن تكون غائبة ومحصورة في الشأن المنزلي دون مساهمة تُذكَر خارجه على المستويين المعرفي والفاعلي. ولعل الخطوة الكبرى التي خطتها المرأة المسلمة وهي خروجها لطلب العلم والمعرفة ومن ثمة الانخراط في سوق العمل، وإن لا يزال حضورها المباشر في الفعل الاجتماعي وفي التعويل على ذاتها منقوصا أو دون ما هو مطلوب.

المرأة المؤمنة في زمن التحولات

ذلك بشكل عام، ولكن لو دققنا النظر في التحديات التي تواجه المرأة المؤمنة، أو بالأحرى المرأة المتديّنة والملتزمة بتعاليم دينها، أي التي لها مرجعية إيمانية في نشاطها وفي حضورها. نجد أن هذه المرأة علاوة على ما تجابهه من تحدّ من المجتمع الحاضن، من حيث تحديد دورها أو الضغط على حرية نشاطها، تواجه تحديا آخر متأتيا من رفيقتها المرأة التي باتت لا تشاركها تلك المرجعية الإيمانية التي تنطلق منها. فالمرأة في الغرب على سبيل المثال تشهد خصومة مع المرجعية الدينية لا سيما المرجعية المؤسساتية الكَنَسية. يتجلى ذلك في محاولة التخلص من سلطان الكنيسة الذي لا زال يحضر بقوة في التشريعات المتعلقة بالزواج والطلاق والإجهاض ويتحكم في بنية الأسرة عامة. فقد تركّز الخصام بين المرأة والكنيسة في الغرب حول العديد من المسائل، ويتجلى ذلك في الدول التي لا تزال فيها هيمنة الرؤى الكنسيّة الكاثوليكية حاضرة في التعليم وفي الشأن الأسري، لا سيما في جنوب القارة في إيطاليا وفي إسبانيا، فعلى سبيل المثال لم تنل المرأة الإيطالية حق الطلاق سوى مع قانون "فورتونا باسليني" 1970، وهو حق طبيعي لم تفتكه سوى أخيرا. فالتقليد الكاثوليكي يَعدّ الطلاق عامة ولا يزال إثما وخطيئة بناء على ما يرد في الكتاب المقدس، "فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً؟ إذاً ليسا بعد اثنان، بل جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان. وجاء في إنجيل متى (9: 19) "فسألوه: لماذا أوصى موسى بأن تُعطى الزوجة كتاب طلاق فتطلّق؟ أجاب: بسبب قساوة قلوبكم سمح لكم موسى بتطليق زوجاتكم. ولكن الأمر لم يكن هكذا منذ البدء. ولكني أقول لكم: إن الذي يطلق امرأته لغير علة الزنى ويتزوج بغيرها فإنه يرتكب الزنى، والذي يتزوج بمطلقة يرتكب الزنى". بناء على أن ما جُمِع في الأرض لا يفرق إلا في السماء. ما انجر عن إلغاء هذا الحق الطبيعي أو تعطيله إفساد من نوع آخر للحياة الأسرية وللعائلة. إذ صحيح أن الطلاق هو مضرة ولكن منع الطلاق أحيانا يغدو مفسدة أشد وأقوى.

ضمن تلك التحولات في الغرب ظهر اللاّهوت النّسوي خلال العقود الأخيرة، بوصفه تأملا لنساء مسيحيات في سياق الدين والحياة على ضوء الإنجيل، وكان من أبرز المداخل المعرفية الناشطة لاختراق الضّيق الذي حُصرت فيه المرأة. فبعد حضور دوني للمرأة في الكنيسة امتدّ قرونا، لم تسنح الفرصة للتنديد بحياة القهر التي ترزح تحت وطأتها المرأة، سوى إبان حقبة الستّينيات. حيث شكّل كتاب فاليريا غولدستاين 1960، "أنا مرأة وأدرُس اللاّهوت"، قطعا مع اللاّهوت الرّجالي وتدشينا لمرحلة جديدة عُرِفت باسم اللاّهوت النّسوي. رَوَت الكاتبة في مؤلفها ملحمة دونية المرأة داخل بنية الكنيسة وتعرّضت لوضعها كامرأة مؤمنة تعيش قهرا مسلَّطا عليها من قِبل مؤمنين، حينا بوعي وآخر بلا وعي. والحقيقة أن الحركة النّقدية للكتاب المقدّس قد لفتت النّظر نحو المسألة النّسوية وقضاياها، منذ ما يزيد عن القرن، ولكن ما كانت بذلك الإصرار والتركيز والوضوح، فقد نُشِر سنة 1895 مؤلَّف نسويّ جماعي برعاية إليزابيث ستانتون بعنوان: "الكتاب المقدّس النّسوي" وهو عبارة عن شروحات لنصوص متفرقة من الأسفار المقدّسة متعلّقة بالمرأة. لكن مع توالي السنين بات اللاهوت النسوي حائزا على اعتراف في أوساط الدراسات الدينية، بوصفه خطا متميز على غرار "اللاهوت الأسود" و"لاهوت التحرر".

ولئن كان اللاّهوت الأسود -Black theology – مع جايمس كوين قد دفع قُدما، على ضوء رسالة العدالة والتحرّر الإنجيلية، بالوعي بكرامة الشعوب الملونّة وقضاياها، التي لا تزال عرضة لأشكال شتى من التمييز، بما يتلخّص بالأساس في روايات أزمنة العبودية الوافرة، المعبَّر عنها في لغة الأسلاف الأفارقة؛ فإن اللاّهوت النّسوي لم يطالب فحسب بالتساوي التام والشامل بين الرجل والمرأة، بل نادى بإلغاء الأحكام الجنسانية في الحياة الاجتماعية المدنية وفي الحياة الكنسية أيضا. يرْشَح هذا الوعي دائما من تطلّع إلى تحوير جذري للأسس اللاّهوتية للوجود المسيحي، بدءا من صورة الله، التي لا تزال رهينة الثقافة الذكورية، مع أن الآية التوراتية جلية "لأنه هكذا قال الرب. ها أنذا أدير عليها سلاما كنهر ومجد الأمم كسيل جارف فترضعون وعلى الأيدي تُحمَلون وعلى الركبتين تُدلَّلون. كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا" (إشعياء 66: 13).
ذلك أن مطلب العودة إلى لغة استيعابية، تُوظَّف في الكتاب المقدّس وفي اللّيتورجيا، يهدف أساسا إلى الإسهام في إلغاء ذلك التمييز الجنساني، ويتطلع إلى الإيحاء بأصالة تلك المطالب وثرائها. وهو ما ينبغي ألاّ يطمس جدّية المطالب وأشكال العنف الحاصل، وبالمثل الدوافعَ الإيجابيةَ للإلهام الدّيني والرّوحي في جوانب كبرى من تلك المقاربات. فكل تلك القضايا حاضرة، حين يغوص الفكر في قراءة مستجدّة للذّاكرة داخل التاريخ الرّسمي، المدوَّن من قِبل المنتصرين، الرّجال. حيث يلوح سعيٌ إلى كشف الواقع المطموس والمقموع للطّرف الأنثوي. ذلك أن الأنساق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي تطوّرت عبر الزمن، قد رهنت المرأة داخل حالة من الخضوع والاستغلال، سُخِّرت فيها لحاجات الذَّكَر ورغباته. لذلك يظهر اللاّهوت النسوي بمثابة نظرية نقدية تحرّرية للجموع البشرية وليس للشقّ الأنثوي فحسب. يسعى وبشكل جاد إلى إصلاح صورة الألوهية الذّكورية، ويتطلع أيضا إلى مقصد إعانة الذّكر، على هدى المسيح، للإقرار بالمكوّنات الأنثوية في كيانه، حتى تعبّر المرأة عن ذاتها كشخص، لأن كلاهما إنسان بحسب صورة الله المتجلّية فيهما، وهو ما يجد دعمًا في سفر التكوين. والواقع أن ثورة المرأة على الكنيسة في الغرب قد تأتّت ضمن ثورة اجتماعية أشمل، بلغت مداها في ما عُرف بانتفاضة 1968 في فرنسا، التي للأسف انحرفت نحو المناداة بثورة جنسية مستهترة تسقط بموجبها كافة الحصون الأخلاقية من أجل حرية متهتكة.

من جانب آخر وعلى مستوى تشريعي تبقى المرأة المسلمة في عيش حياتها الطبيعية والتزامها بدينها الأقرب للاعتدال والانتظام وفق ما هو طبيعي، فهي قادرة على أن تبني أسرة وفي الآن قادرة على أن تعيش حياتها الدينية وخياراتها الروحية، في خلو تام من التناقض بين ما هو طبيعي وما هو اجتماعي وما هو ديني، فالخيار الاجتماعي الأسري الذي تسلكه المرأة المسلمة لا يمنعها ولا يحدّ من خياراتها الدينية والروحية، وبالعكس أيضا، لا تحول خياراتها الدينية دون تحقيق كيانها الاجتماعي الطبيعي. بخلاف ذلك نجد المرأة في بعض التقاليد المسيحية، على غرار الكاثوليكية، تعجز عن الجمع بين حياة اجتماعية أسرية طبيعية وحياة روحية رهبانية، فهي أمام خيارين وأمام سبيلين، إما أن تكون مرأة علمانية أو مرأة دينية، مرأة مجتمع أو مرأة كنيسة. وهو في الحقيقة مأزق ليس هينا وليس أصيلا في المسيحية بل طارئا، عرفه هذا الدين مع القرون الوسطى. منذ أن بدت العزوبة شرطا لازما للاندماج في سلك الرهبنة، لكن هذا التقليد الإلزامي للمرأة لاختيار أحد النهجين، العزوبي أو الأسري، لاقى معارضة قوية منذ ظهور الإصلاح البروتستانتي مع مارتن لوثر (1483-1546م) الذي أبى إلاّ أن يثور على التقليد السائد وقرّر الزواج بعد تكريسه من الراهبة كاثرين دي بورا التي أنجبت له ستة أبناء، وذلك بعد أنكر الطابع السائد لخيار الرهبنة، وعدَّ نموذج الحياة المسيحية الأمثل مجسَّدا في العائلة لا في العزوبة القسرية. لقد كانت الثورة البروتستانتية في الحقيقة، في جانب منها، ثورة على مفهوم الرهبنة الذي أملته كنيسة روما. حيث سمح ذلك التحول للمرأة وبالمثل للرجل أن يقوم كلاهما بالدورين الكنسي والاجتماعي، سعيا من وراء ذلك إلى خلق توازن في المكوَّن الأسري، أي في النواة الأساسية في المجتمع.

هذا المطلب لإعادة الدور للمرأة والحضور في مجتمع الكنيسة لا تزال المرأة الكاثوليكية الراهبة دون بلوغه، مع أن هناك إلحاحا من جانب العديد من اللاهوتيين واللاهوتيات في هذا المسار. ولا يزال مفهوم النسوية مصطلحا محرِجا في الأوساط الدينية لما يستبطنه من مراجعات ودلالات عميقة توحي بالرفض والنقد والتصحيح والثورة أحيانا، ثورة من جانب المرأة في مقابل الرجل، وثورة للمرأة على المفاهيم الدينية التي سادت وباتت واقعا مترسخا. لكن النسوية المؤمنة هي بالحقيقة وعي ذاتي جديد يشمل كل ما يتعلق بالمرأة، وقد ولّدت تلك الحاجة تطورات حصلت في الاجتماع الحديث هدفت إلى مراجعة أنظمة السلطة التقليدية، لا سيما منها السلطة الدينية التي تبقى مقاليدها بحوزة إكليروس ذكوري متمثل في الكنيسة، وسائرة وفق رؤى ذكورية متمثلة في اللاهوت، بات كلاهما يزعج المرأة كشريك في الدين وفي الوجود.

سعيا لتأصيل النسوية المؤمنة

لم تنشأ النسوية المؤمنة في جانبها المسيحي من عدم، بل وجدت في التراث الديني سندا ودعما وبالمثل أيضا خذلانا وعائقا، لذلك وجبت قراءة أنثروبولوجية متأنّية تقطع مع القراءة الأيديولوجية بغرض بناء رؤية نقدية ما بعد أيديولوجية. إذ بالتمعن في التجربة المسيحية المبكرة للمسيح (ع) مع المرأة، نلحظ تطويرا وتجديدا متمثلا في رد اعتبار للمرأة والتعاطي معها ككيان حر ومكرَّم بعد أن كانت مبعَدة عن المعبد أو في عداد الكائنات النجسة، وهو ما استلهمه المسيح من روح الناموس القديم الذي يضع المرأة جنب الرجل في تلقي رسالة الروح القدس وفي تولي مهمّة البشارة والدعوة والرسالة، إلى حدّ الحديث عن المرأة الحَوارية على غرار الرجل الحَواري، أو بتعبير مسيحي "رسولة" على غرار (يونياس) الوارد ذكرها في الرسالة إلى مؤمني روما (16: 7). لكن ذلك الموسم الإيجابي في تاريخ المرأة المسيحية كان خاطفا، سرعان ما عادت إثره المرأة إلى رهن المجتمع بغياب المسيح. إذ يبدو ذلك التحول قد وقع الانثناء عليه والتنكر له بمجرد رحيل المعلم الأول للمسيحية. ففي الرسالة الأولى إلى مؤمني كورنثوس (14: 34) إعلان فجّ بشأن حضور المرأة، يأتي بشكل صارم ليحدّد حضورها، يأمر بمقتضاه النساء أن يخرسن في الكنائس، فليس مسموحا لهن أن يتكلمن، بل عليهن أن يكنّ خاضعات. والأمر ذاته يتكرر في الرسالة إلى مؤمني أفسس (5: 22-23) "أيتها الزوجات اخضعن لأزواجكن كما للرب، فإن الزوج هو رأس الزوجة كما أن المسيح هو رأس الكنيسة".

والجلي ضمن قراءة مقارنة للتراثين المسيحي والإسلامي أن ليست الرؤية الفقهية الإسلامية التقليدية فحسب في أزمة، بل اللاهوت التقليدي المسيحي أيضا في أزمة تجاه المرأة وتجاه تناول قضاياها. إذ تتوجه انتقادات سواء من النسوية الإسلامية أو من النسوية المسيحية إلى كون الفقه واللاهوت كلاهما قد كُتِب من وجهة نظر ذكورية حازت فيهما المرأة موضعا ثانيا، رغم أن المرأة تماثل الرجل وتضاهيه في النصوص المقدسة المرجعية. وصحيح ضمن هذه الأوضاع أن الأمر قد يبدو متماثلا، لكنه في واقع الأمر متغاير من حيث الإجحاف. فالدونية التي لحقت المرأة المسلمة عبر التاريخ غالبا ما كانت مأتية جراء الواقع الاجتماعي الذي أملى على المرأة أوضاعا دونية ولفّها بتصورات حالت دون انطلاقتها الحرة، ولربما ما كان الفقه الإسلامي في مدارسه الكبرى بتلك السمة المجحفة التي ميزت اللاهوت المسيحي، وذلك لكون الفقيه المسلم هو بشر يجتهد، وليس وصيا على قوله تعالى أو ناطقا باسمه، على خلاف الدور الذي يحوزه البابا والإكليروس في المسيحية بوصفهم يمثلون ظل الله في الأرض وما يحيط بقولهم من قداسة وشرعية.

وفي عصرنا الراهن تبدو المطالبات من المرأة -والرجل أيضا- سواء داخل التراث الإسلامي أو داخل التراث اليهودي المسيحي بإعادة النظر في الرؤى الفقهية واللاهوتية القديمة مدعاة لجدل واسع. وأحيانا يُفسَّر هذا الجدل خطأ كونه تنكرا للدين وابتعادا عن التعاليم الصحيحة، والواقع أن هذا الجدل يندرج ضمن التصحيح للتصورات الذكورية والتصويب للدور الرجالي، ولذلك ليست النسوية الكتابية داخل الأديان الإبراهيمية نسوية خصيمة للربوبية أو الدين، بل هي نسوية إصلاحية للذكورية الدينية التي احتكرت الدين وانحرفت بتأويلاته. من هنا ينبغي تحديد جوهر قضايا النسوية الكتابية بوصفها نسوية مؤمنة لا كما يجري نعتها أحيانا بوصفها نسوية متمردة أو خصيمة للمقدّس. ومن هذا المأتى يتوجب على المؤمن عامة داخل التراث الإبراهيمي أن يعي قضايا المرأة اليوم بوصفها قضايا تصحيح، لا بوصفها قضايا إهانة أو تسلّط مقلوب تمارسه المرأة، مدفوعة بذاكرة جريحة وتراث مشحون بالتجاوزات.

والجلي أنه عادة ما يُختزل دور المرأة في البيت ويُترك باقي المجتمع إلى الرجل، لكن التحولات الحديثة فرضت إعادة تقسيم للأدوار والفضاءات مع مراعاة طبيعة كل منهما. ولم يعد الفاصل بينهما ما يُسمّى بطبيعة الأشياء، بعد أن تسربت لتلك الطبيعة العديد من الانتقادات، بل بات الصواب في تقاسم الأدوار وِفق الوِفاق والوئام والشراكة. فالمرأة شريك فاعل في البيت والمجتمع بعيدا عن التقسيمات الكلاسيكية، وهو ما دفع إلى ندية وتماثل مع الرجل ويقود في الآن إلى مساواة كانت مطموسة في ما سبق. وهذه المساواة هي مساواة حضَّ عليها الدين وآزرها وألحّ عليها، لكنها بقيت غير مفعَّلة أو مؤوَّلة بطريقة مغلوطة، ولذلك تقود النسوية الإيمانية تحولا من داخل الحضن الإيماني لتصحيح المفاهيم الخاطئة.

وإن يكن ثمة مراجعات قوية، وأحيانا غير معهودة، مطروحة داخل النسوية المؤمنة تصل إلى أعلى درجات الجرأة، يتوجب الإصغاء إليها اليوم كونها نسوية مسؤولة وتنطلق من أرضية إيمانية. ففي الجانب المسيحي كانت المرأة ولا تزال خارج نطاق التحكم بتسيير الكنيسة لاهوتيا. فهي مكمِّلة لدور الرجل وأحيانا مجبَرة على الصمت والانزواء. ولذلك ضمن مسار التحولات التي شهدها الغرب، لم يكن خروج المرأة في تلك المجتمعات بقيادة الفكر الديني، بل بقيادة الفكر العلماني اللاديني الذي تنبّه إلى الحصر التاريخي للمرأة. ومن هذا الباب نشأت خصومة كبيرة في الغرب بين المرأة والدين. فكان لتحقيق المرأة كيانها متوجَّب عليها الخروج والثورة على الدين وعلى ممثلي الدين حتى باتت المرأة عنوان التحرر من الكنيسة، نجد ذلك في شعار الثورة الفرنسية وفي تحرر الفن من طابع الحشمة والحياء، وهي عملية رد فعل رمزية شهدها الغرب الثائر على ممثلي الدين. بخلاف ذلك جاءت النداءات الأولى لتحرير المرأة في الثقافة الإسلامية من أوساط مؤمنة ومشبَعة بالتراث الديني وهو ما مثّله قاسم أمين في مصر والطاهر الحداد في تونس.

رؤية نقدية في قراءة التراث

صحيح أن الفقه الإسلامي الحديث قد شهد تطورات كبيرة في الموقف من المرأة، لكن يبدو الأمر في الغرب ولا سيما في الكنيسة الكاثوليكية حتى اليوم حاضرا ضمن باراديغمات القرون الوسطى من حيث التنكر والتعاطي مع موضوع المرأة. فقد شنّ المفكر اللاهوتي السويسري هانس كونغ حملة شرسة على خيارات الكنيسة القروسطية تجاه المرأة السائدة حتى اليوم، واعتبر أزمة المسيحية في خضوعها إلى باراديغم مسيحية القرون الوسطى، سواء في الممارسة الكهنوتية المتجلّية في الموقف الدوني من المرأة، أو في الإصرار على الإلزام العزوبي، الذي يمثّل شرطا لازما لرجال الدين وللراهبات، إضافة إلى الإقرار بعصمة رأس الكنيسة. فهذه العناصر الثلاثة: دونية المرأة وعزوبة الإكليروس وعصمة البابا، هي المفاتيح الرئيسية التي تميز مسيحية القرون الوسطى. ولعل التناقض الصارخ لكنيسة روما مع المرأة متجل اليوم في الموقف من المرأة داخل الكنيسة، حيث يتواصل حرمانها من الرواتب ومن منحة التقاعد التي يتمتّع بها الكهنة ورجال الدين الذكور فحسب ومن الترقي الكهنوتي على غرار الرجال. وكذلك في الموقف من المرأة خارج الكنيسة حيث لا يزال الإصرار على مصادَرة حريتها في تقرير مصيرها من حيث خيارات الطلاق والإجهاض واستعمال موانع الحمل وتنفيرها منها، فضلا عن كبح حريتها في تشكيل عائلتها على هواها. وهي عناصر لم تسوَّ بعدُ ولا تزال تخيّمُ على علاقة الكنيسة بالمرأة في الغرب. لذلك نجد المرأة الغربية وإن تقترب روحيا من المسيحية، فهي تبتعد لاهوتيا من الكنيسة، والأمر ناتج عن خلاف بين الطرفين يمتدّ إلى المسائل التشريعية والثقافية.

في ما يتعلق بالجانب اليهودي، بعد انطلاق حركة الاستنارة الإصلاحية (الأفكلارونغ) التي تُعرف بالهسكلاه أيضا، والتي نادت صريحا على لسان مؤسّسها موسى مندلسون (1729-1786م) بضرورة تبني الثّقافة العلمانية كسبيل للاندماج، إلى جانب الدعوة إلى تحطيم المنبذ العقلي -الغيتو- الذي ضربه اليهود حول أنفسهم، إضافة إلى المنبذ السياسي الذي فُرض عليهم، شهدت أوضاع اليهودية تحولات من حيث النظر إلى الذات وإلى العالم. فقد حصلت جرأة في التعاطي مع التراث، وهو بالواقع موقف شبيه بما حصل في الجانب الإسلامي، إذ يشكّلُ ثقل تراث الأحبار وطأة وعائقا. حيث جاءت الاستنارة اليهودية في شكلها النسوي خروجا من الغيتو الأكبر ألا وهو الغيتو التراثي المفروض على المرأة من الرؤى المحافظة والتقليدية، وقد مثّلت المصلِحة راكيل فرناغن (1771-1833م) هذا الوجه التحرري للمرأة اليهودية بالمناداة بتحرّر اجتماعي من الغيتو الداخلي المضروب على المرأة. كما شهد الواقع اليهودي تحولا ثانيا كبيرا، لحقت آثاره المرأة انطلق مع مؤسسة "التحالف الإسرائيلي العالمي" (Alliance Israelite Universelle) بما قامت به من تثوير للنظام التعليمي اليهودي التقليدي، الذي كان يحاكي نظام الكتاتيب المنتشر في بلاد المغرب، بإنشاء المؤسسة معاهد تدريس مختلطة تعتمد أنظمة تربوية غربية وعصرية أولت اهتماما كبيرا للغات الأجنبية. وازداد سحب البساط من التعليم التقليدي اليهودي بإغراء الخريجين والخريجات بالاندماج في سوق الشغل، ناهيك عن تكثف دمج المرأة ضمن دائرة الثقافة الغربية حتى بلغ تغريب الشخصية اليهودية مستويات تضاهي ما عليه المرأة الغربية. وفي أعقاب التحولين البارزين اللذين طرآ على أوضاع المرأة اليهودية، نرصد تحولا ثالثا شهدته المرأة اليهودية مع فترة الستينيات من القرن الماضي، حيث بدأنا نشهد إعادة قراءة نسوية للكتاب المقدس اليهودي لا سيما في الولايات المتحدة، حصل ذلك تحت تأثير النسوية المسيحية، نجد فيها قراءات معاصرة تقطع مع القراءات التقليدية للنص المقدس في شكلها المحابي للرجل. استعادت بواسطتها النسوية اليهودية نماذج عالية من التحرر في التراث اليهودي، عُدّت مثالا للمرأة اليهودية المضاهية للرجل في المجالين الديني والدنيوي. ومن هذه الرموز ما تعلق بمجال النبوة التي تخلصت من بعدها الذكوري وشملت النساء أيضا كما يورد ذلك العهد القديم مع النبية دبورة والنبية خَلْدة الوارد ذكرها في سفر الملوك الثاني (22: 14)، وكذلك مع السياسية إستير التي خلّصت شعبها من مخاطر الإبادة (سفر أستير: 47).

لعل الأمر الغائب اليوم بين مختلف أشكال النسوية المؤمنة وهو التنسيق بين مختلف هذه المداخل. فلا شك أن المجتمع الحديث اليوم يفرض على المرأة في سائر التقاليد الدينية الإبراهيمية تحديات متنوعة باتت تهدد كيانها كمرأة مؤمنة ومتدينة، ما يتوجب معالجة الأمور معا وبروح منفتحة على قضايا العصر. وصحيح أن المرأة داخل التراث الإبراهيمي قد قطعت شوطا في مراجعة تراثها، وفي الحصول على حقوقها، ولكن يبقى عليها اليوم العمل جاهدة على المحافظة على خصوصيتها كمرأة مؤمنة برغم ما يشهده العالم من مظاهر زحف أشكال اللاإيمان واللادين.

عزالدّين عناية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى