السبت ٥ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم منذر الحايك

تراث الهند الديني

أورد الحميدي في جذوة المقتبس أن ابن سعدى القيرواني قال: حضرت مجلساً في بغداد قد جمع الفرق كلها: المسلمين من أهل السنة والبدعة، والكفار من المجوس، والدهرية، والزنادقة، واليهود، والنصارى، وسائر أجناس الكفر، ولكل فرقة رئيس يتكلم على مذهبه، ويجادل عنه. فإذا جاء رئيس من أي فرقه كان، قامت الجماعة إليه قياماً على أقدامهم حتى يجلس فيجلسون بجلوسه، فإذا غص المجلس بأهله، ورأوا أنه لم يبق لهم أحد ينتظرونه، قال قائل من الكفار: قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتج علينا المسلمون بكتابهم، ولا بقول نبيهم، فإنا لا نصدق بذلك ولا نقر به، وإنما نتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النظر والقياس، فيقولون: نعم لك ذلك.

هذا ما كان في بغداد عاصمة الدولة العربية الإسلامية الكبرى، في زمن قوة الإسلام وعظمة دولته، فهل يمكن اليوم أن نحلم، مجرد حلم، بهكذا مجلس، وما أحوجنا اليوم إلى المعاني العظيمة التي يمثلها هذا المجلس، من احترام متبادل، واتساع أفق، وأريحية في العيش المشترك. ما أحوجنا إليه في زمن العولمة وتحول البشر، على اختلاف مللهم ونحلهم، إلى مواطنين في قرية صغيرة هي العالم، نحتاج فيها إلى عيش مشترك حقيقي، منفتح على كل الأفكار، ومتقبل للآخر مهما كان جنسه أو دينه، وليس القناعة بتعايش مترقب حذر.

ومن أهم أسباب العيش المشترك التعرف على الآخر، وخاصة معرفة تراثه الديني، لأن الدين كان ولا يزال يلعب في نفوس البشر دوراً هاماً في أخلاقياتهم وتعاملهم وطرائق تفكيرهم، على أن نستخدم هذه المعرفة للتقارب ولتسهيل التفاهم والتعارف بين البشر، وليس للنقد والانتقاد، ولا لمحاولة الانتقاص من مفاهيم الآخرين ومعتقداتهم مهما كانت.لكل ذلك سأحاول تقديم أفكار مبسطة موجزة عن جوانب من الديانات الكبرى في العالم التي تعد غير سماوية، وفي مقدمتها الديانات الهندية. إذ أن إطلاع الإنسان على أديان الآخرين أمر على جانب عظيم من الأهمية في حياتنا المعاصرة، التي بقدر ما تقارب فيها الناس وتواصلوا بقدر ما تباعدوا واختلفوا، وأغلب أسباب الخلاف والصراعات الدامية بين البشر هو سوء فهم الآخر، وطالما كانت الأديان المختلفة للبشر وراء اختلافاتهم، خاصة بعد عودة الحروب الدينية المقدسة، والمنداة بالصليبية من طرف وإعلان الجهاد من طرف آخر، لمجرد اختلاف الدين، متناسين أن الله الذي يعلنون الحروب باسمه هو الإله العادل، ومن أسمائه: السلام والرحمان والرحيم.

أهم الأديان في الهند:

كانت الهند تشكل حاضنة أفكار وفلسفات حتى عدت معلماً بارزاً للحياة الروحية في العالم القديم، وذلك لدخولها أعماقاً غير مسبوقة في مكنونات الروح البشرية، مما حول الهند إلى مرجل عظيم اختمرت فيه مختلف أنواع الأفكار الغيبية الإلهية، فصدر عنها مجموعة ديانات امتازت بغناها بالشفافية والتسامح والسلام، وبتنوع كبير في تراثها، فمن تعدد هائل للآلهة والمبالغة في تقديسها وعبادتها، إلى حد الإلحاد وإنكارها جميعاً، وبعمقها الفكري والروحي من جهة، وبساطتها ومباشرتها من جهة أخرى. لذلك كان هناك من يعدها مرحلة متطورة عن الديانات البدائية، ولكنها تتخلف عن الديانات السماوية التي جاءت رسالات متعاقبة متكاملة.

كل هذا النشاط الفكري في الهند كان يترافق بحركة بشرية تمور وتتفاعل على كامل شبه القارة الهندية، ففي وقت غير معروف تماما من التاريخ القديم قامت جماعات، سميت لاحقاً بالهنود الأوروبيين، بالانطلاق من سواحل بحر البلطيق، وربما من جنوب روسيا الحالية، وتوضعت في إيران. وفي حوالي القرن 16 ق م، رحلت مجموعة منهم نحو شمال غربي الهند، وامتدت نحو البنجاب ووادي الغانج، ثم أكملوا سيطرتهم على باقي البلاد، وأخضعوا الشعوب الأصلية للهند ذات اللون البرونزي الذي يزداد سمرة حتى يصل إلى السواد كلما اتجهنا صوب الجنوب. وكان سكان الهند القدماء يسمون: الدرافيد، وهم خليط من شعب الكول، وكانوا سكان غابات وجبال متجولين، والتورانيين الذين قدموا إلى الهند في وقت قديم جداً واختلطوا بالكول.

عندما استولى الغزاة على الهند كانوا يتصفون بالشقرة والطول، ويمتازون بالحيوية والقوة، وكانوا أكثر تحضراً من السكان الأصليين، فاعتزوا بسمو جنسهم، وسموا أنفسهم: آرياس، أي النبلاء، ومنها جاءت تسمية آري وآريون للجنس بكامله. وقام رجال الدين الآريون، الذين ربما كانوا طبقة رجال دين بدائية أو سحرة، بتسمية أنفسهم البراهما، وبراهما تعني: ولي الله، أو رجل الله، أو العارف بالله، وصاغوا من الفيدية الهندية القديمة ديانة تسوغ تسلطهم، وتدعم بقوة الدين موقعهم الاجتماعي المتميز المتربع في قمة المجتمع الهندي.

ونظر الغزاة الآريون إلى الدرافيد على أنهم برابرة، كفعل كل الغزاة لتبرير غزوهم، وأخذ الناس هذه الفكرة ورددوها حتى العصر الحديث حيث تم كشف الحضارات الغنية للهنود القدماء، مثل حضارة وادي الأندس التي تعود لحوالي 3000 ق م، وهي تعاصر الحضارة السومرية في العراق، وكانت على صلة وثيقة بها، حتى أن بعض الباحثين يظنون بأن أصل السومريين من هناك، ولكن من المؤكد بأنه كانت بين الحضارتين علاقات واسعة أدت إلى تأثيرات متبادلة هامة قامت بينهما. وتظهر أصالة الشعوب الهندية القديمة بما استمر من تراثها بما يشبه الخلود، فالتراث الشعبي الهندي الحالي كله ملك لتلك الحقب القديمة، فمن الحيوانات المقدسة كالبقر، إلى النباتات المقدسة، والأنهار المقدسة كالغانج، وحتى فكرة التقمص ذاتها فهناك اعتقاد كبير الآن بأنها من تراث تلك الشعوب.

أولاً- الهندوسيـة:

تعد الديانة الهندوسية من أمهات الأديان في العالم وذلك لقدمها وانتشارها، ولعمق التطورات اللاحقة عليها، وقد استمدت الهندوسية اسمها من الأرض التي نشأت فيها، مشتقاً من كلمة سندهو، وهي الاسم الهندي للنهر الذي يسميه العرب السند، ومن هذه الكلمة اشتقت كلمة هند، لتطلق على الأرض التي تقع وراء نهر السند، وأصبح سكانها يسمون الهندوس أو الهنادكة أو الهنود.

وحالياً الهندوسية هي اسم لديانة غالبية سكان الهند، وقد باتت تشمل الدين والحضارة والعادات والتقاليد، مع أن المصطلح أطلق في البداية ليدل على تلك المفاهيم الدينية البدائية للهندوس، التي تكونت منها فيما بعد الهندوسية، أي ديانة الهندوس الذين يعتقدون بأن الإله براهما سلمها إلى ولده نارد موني الذي سلمها بدوره إلى تلميذه فياس دف، وعن طريقه انتشرت في أنحاء الأرض. ولا يُعرف الكثير عن منشأ هذه الديانة لأنها ترجع إلى ما قبل فترة التاريخ المدوّن، ويعتقد الباحثون الآن بأن الهندوسية تكونت من توليفة معتقدات لعدة شعوب منها: معتقدات الآريين المهاجرين من أوروبا والمبنيّة على الأساطير الاسكندينافية واليونانية، والمعتقدات الدينية البدائية للدرافيديين سكان الهند القدماء، ومعتقدات الهارابان أصحاب حضارة وادي السند المبدعة.

والديانة الهندوسية تقوم على الإيمان بما ورد في أسفار الفيدا، وكلمة فيدا تعني الحكمة، وكتب الفيدا وكل التراث الديني الهندوسي قد تـمَّ تدوينه على مراحل، علماً أنه لـم تظهر أيّة مدونات قبل القرن الثامن قبل الميلاد. ومما يلفت الانتباه هو أن الأسفار الدينية للهندوس لـم تنسب لشخص محدد، بل هي ثمرة تراث لشعوب الهند التي تمازجت وانصهرت في بوتقة مجتمع واحد.

وتعلن الفيدا الوحدة المتمايزة للكائنات باعتبار أن جميع الأحياء هي براهمن، والله هو براهمن لكنه متميز عن سواه لأنه المقتدر، تقول الفيدا: (أن الله هو براهمن، لكنه براهمن العظيم، أو براماتما، بينما سائر الأحياء هم براهمن آتماز، أي آحاد). وبراهما يعد الإله الأساسي في عقيدة الهندوس، ورغم هذا الموقع الذي يحتله إلاَّ أنَّه مهمل في شعائرهم وطقوسهم، بينما يهتمون بآلاف الآلهة التي يقدسونها، ولو أحصينا أسماء الآلهة لاقتضى ذلك مائة مجلد، فبعضها أقرب إلى الملائكة، وبعضها مثل الشياطين، وكثير منها حيوانات أو طيور أو أنهار أو جبال.

ويقول بعض علماء المسلمين بأن الهندوسية كانت ديناً سماوياً أنزل على نبي أرسله الله إلى سكان الهند، وأن طول العهد بهذه الديانة السماوية قد فتح الباب لإضافات وتعديلات أوصلتها إلى صورتها الحالية المحرفة. حيث يعبد الهندوس الآن عدداً كبيراً من الآلهة، ويقدمون الطقوس لها عن طريق تماثيل تعبّر عن تلك الآلهة، مع ذلك فلا تعد الهندوسية نفسها ديانة وثنية، ولا ترى أنها ديانة توحيد.

ويعتقد الهندوس أنه سيأتي وقت تمتلئ فيه الأرض بالظلم والجور ويختفي منها العدل، فيحتاج العدل إلى من يقيمه ويدفع الظلم، فينزل الإله في صورة بشرية ليملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. ويعتقدون أن من يتمثل فيه الإله وينزل إلى الأرض لإقامة العدل فيها هو كرشنا بطل ملحمة المها بهارتا. ولذلك يصف الهندوس كرشنا بأنه: المخلص، والفادي، والمعزّي، والراعي الصالح، والوسيط، وابن الله، والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس، وهو: الأب والابن والروح القدس. كذلك يقولون بأن كرشنا ولد من العذراء ديفاكي التي اختارها الله والدة لابنه بسبب طهارتها وعفتها. وقد عرف الناس بولادة كرشنا من النجمة التي ظهرت في السماء ساعة ولادته، وكانت أول الآيات والعجائب التي عملها هي شفاء الأبرص. وهنا نصاب بالدهشة ولا ندري هل ما سبق هو اعتقاد هندوسي بكرشنا أم اعتقاد مسيحي بالمسيح.

كذلك اندهش دارسو الهندوسية الغربيون الأوائل من التشابه بين ثالوث الهندوسية وثالوث المسيحية، فالتثليث، أي القول بأن الإله ذو ثلاثة أقانيم، أعظم وأشهر عبادات الهندوس اللاهوتية. ويدعى هذا التثليث: تري مورتي، أي ثلاثة هيئات أو أقانيم الذين هم: براهما، وفشنو، وسيفا، فهم ثلاثة أقانيم غير منفكة عن الواحد، يشكلون الرب والمخلص والمهلك، ومجموع هذه الأقانيم الثلاثة: إله واحد. ويرمزون لهذه الأقانيم الثلاثة بثلاثة أحرف هي: الآلف والواو والميم، ويلفظونها: أوم، ولا ينطقون بها إلا في صلاتهم، ويحترمون رمزها في معابدهم احتراماً عظيماً. وهذا الثالوث، كما تؤكد الكتب الهندوسية، غير منقسم في الجوهر والفعل والامتزاج، ويوضحونه بقولهم: براهما الممثل لمبادئ التكوين والخلق، ولا يزال خالقاً إلهياً هو الرب، وفشنو يمثل مبادئ الحماية والحفظ، وهو الابن المنبثق المتحول عن اللاهوتية، وسيفا المبدئ والمهلك والمبيد والمعيد وهو روح القدس، وسيفا هو كرشنا الرب المخلص، والروح العظيم، حافظ العالم المنبثق من فشنو الذى ظهر بالناسوت على الأرض ليخلص الناس، فهو أحد الأقانيم الثلاثة التي هي: الإله الواحد. فالهندوس عند عبادتهم لهذه الأقانيم الثلاثة يقولون: إنهم يعبدون إلهاً واحداً، لان هذه الثلاثة باعتقادهم، وإن اختلفت أشكالها، فهي واحد، ويتوضح ذلك من خلال رواية الكاهن الهندوسي الذي سأل الآلهة فقال: أيكم إله بحق؟ فأجابوا جميعاً: اعلم أيها الكاهن إنه لا يوجد أدنى فارق بيننا نحن الثلاثة، فإن الإله الواحد يظهر بثلاثة أشكال بأعماله: من خلق وحفظ وإعدام، ولكنه في الحقيقة واحد، فمن يعبد أحد الثلاثة فكأنه عبدها جميعاً، أو عبد الواحد الأعلى.

كل ذلك جعل بعض الباحثين يظنون بأن المسيحية اقتبست هذا الثالوث من الهندوسية القديمة، ولكننا نقول بأن ثلاثي الآلهة حالة قديمة في حضارات الشرق الأدنى القديم، وقد نشأت عن العبادات الكوكبية المحلية البدوية الأصل، القائمة على تأليه تركيبة الشمس والقمر والزهرة، فكل منهم إله له قواه الإلهية الخاصة، وكبير الثالوث هو الإله الشمس، شمش أو شماش، فهو الأب الأكبر، وهو بعل شمين، أي إله السماوات، وبعده إله القمر سين أو شين، وهو الابن والروح الأقدس، ثم الإلهة الزهرة، عشتار أو عتر أو عشتر، إلهة الحب والخصب وهي الأم الكبرى. والتثليث المسيحي لا يحتاج لتراث الهند الديني في التثليث ليأخذ عنه، فالمسيحية نشأت في أرض التثليث، وربما أخذت مع الهندوسية من مصدر واحد، فقد ثبت بشكل قاطع تأثر حضارة وادي السند بالحضارة البابلية منذ بداية الألف الثاني قبل الميلاد.

ولقد اشتهرت عالمياً واحدة من العبادات الهندوسية وهي اليوغا، وكلمة يوغا سنسكريتية، ومعناها: النير، ويشير ذلك الاسم إلى أنَّ هذه العبادة تحقّق خلاص النفس من نير الأبدان، فلا يعود البوروشا، أو الروح، مرتبطاً على نحو خاطئ بـ البراكريتي، أو المادة، التي هي متغيِّرة ومتعرِّضة للمعاناة. وتعد الهندوسية أن ممارسة اليوغا هي السبيل للخلاص من الآلام والبلايا، تمهيداً لتحقيق النرفانا التي يتمّ بها الاتحاد والذوبان الكامل للروح ببراهما الإله الخالق، وتخلص من نير البدن. هذه الدرجة الرفيعة تخول صاحبها الحصول على لقب مهاتما، وهو لقب يطلق على القديسين والأولياء من الهندوس، والكلمة بالأصل تألف من مقطعين: مها، معناه العظيم، وآتما أو آتمن، أي الروح، وبذلك يصبح مَنْ تحقّق له الخلاص صاحب الروح العظيمة.

وتعد أرض الهند منبعاً لفكرة وحدة الوجود التي ترى أن روح الإله قد سرت منه إلى كل الكائنات وحلت فيها، فكل منها مظهر من مظاهر الإله، ولذلك فقد ألَّهوا بعض البشر والنجوم والكواكب والحيوانات والجمادات وغيرها لحلول روح الإله فيهم.

وتظهر فكرة وحدة الوجود الهندوسية بشكلها الأوضح في نصوص الأوبا نيشاد، فقد ورد فيها: روح المخلوقات روحاً واحدة، ومع أنها تتجلى في كل مخلوق إلا أنها في الوقت ذاته واحدة ومتعددة، كالقمر وصورته التي تتلألأ على صفحة الماء. كما تقول: بحثت جدياً عن وجه حبيبي فوجدته منقوشاً في قلبي، وجدته ينظر بعيني، حينها أصبحنا حبيبي وأنا كائناً واحداً. فالمقصود بالحبيب هو الإله الخالق، وهو الحقيقة التي يبحث الهندوسي عنها، ويعمل على الاتحاد به، ليعودا كما كانا في الأصل شيئاً واحداً.

ومن الملاحظ أن هذه الفكرة قد انتقلت إلى بعض المتصوفة المسلمين، فبعضهم يقول: أنا الحق، ويقول الآخر: ما في الجبة إلا الله. وقد تأثر بهذه الفكرة أشهر متصوفة المسلمين الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي الذي قال: إن للحق في كل معبود وجهاً يعرفه من عرفه ويجهله من جهله. وقال:

يا خالق الأشياء في نفسه
أنت لما تخلقه جامع

فابن عربي فيما يقوله يقارب جداً فكرة وحدة الوجود الهندوسية التي ترى أن الله خلق كل شيء، وأنه حل في ما خلق، وأن هذه الأشياء، أي المخلوقات اللا متناهية، هي صورة من صور الإله، لذا فإنه يستوي المعبود والعابد لأن الكل واحد، بل إن الكائنات كلها واحدة حيث يتساوى الحيوان والإنسان، والكل يتساوى مع الخالق.

ولكن فلاسفة المتصوفة المسلمين لم يتوقفوا عند فكرة وحدة الوجود الهندوسية بل ارتقوا بها إلى عوالم غاية في الشفافية، خاصة مع أفكار أعلام وحدة الوجود مثل: ابن عربي الذي خلص منها إلى وحدة الأديان، والحلاج صاحب فكرة العقيدة الواحدة والحلول الكامل، والسهروردي داعية الإشراق أو النيرفانا، مع أن الحلاج والسهروردي قد دفعا حياتيهما ثمنا لأفكارهما تلك. يقول الحسين بن منصور الحلاج:

عقد الخلائق في الإله عقائداً وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

ولكن أجمل ما قيل في وحدة الأديان، أو دين الحب كما أسماه ابن عربي، هو قوله:

لقد كنت قبلاً منكراً كل صاحب إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

وقد صار قلبي قابلاً كل ملة
فمرعاً لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنا توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني

وهذا هو ما قال به الهندوس فيما بعد، فقد ورد في تراثهم: أعرف الخمسة والعشرين بالتفصيل والتحديد والتقسيم، معرفة برهان وإيقان لا دراسة باللسان، ثم إلزم أي دين شئت فإن عقباك النجاة. وينص الجزء الأخير من كتاب الڤيدا على أن عملية البحث عن الذات، أو الوصول إلى الله، يمكن أن تتم بطرق عديدة وخلال طّقوس دينية مختلفة، تقول الفيدا: :أنه مهما تنوعت هذه الطقوس، فهي صحيحة، وستؤول في النهاية إلى معرفة الإنسان لذاته، فليس من الضروري أن تكون الطقوس هندوسية، فقد تكون إسلامية أو مسيحية أو بوذية. ولهذا، تنادي الفيدا باحترام جميع الأديان، ولذلك يعتقد الهندوس بأنهم متميزون بمرونتهم وتقبّلهم للديانات الأخرى، وأن ديانتهم هي دعوة إلى التقارب والتفاهم والتعاون لخير الإنسانية جمعاء.

ومع كل هذه الشفافية في المعتقد، والنظرة الشمولية المتسامحة تجاه الآخرين، نجد أن الهندوسية قد مارست أسوأ أنواع التمييز الاجتماعي، فقد قسمت المجتمع الهندي إلى طبقات أربع، هي: الطبقة البيضاء، أو طبقة البراهمة التي ينتمي إليها رجال الدين والعلماء، وطبقة الكاشتريا، أو الطبقة الحمراء وتشمل الأمراء الفرسان، والطبقة الصفراء الويشيا وتشمل المزارعين والتجار، ثم طبقة الشودرا، أو الطبقة السوداء وتضم أهل الحرف والصناعة. أمّا بالنسبة للطبقة الخامسة، أو ما يعرف بطبقة الأنجاس فتشمل أهل الحرف المتدنّية مثل: حفّاري القبور وعمال النظافة وغيرهم.

ويتبع معتقد وحدة الوجود في الهندوسية القول بالتناسخ، ولا يوجد خلاف على أن أرض الهند هي مهد التناسخ، ومنبع فكرة دوران الروح، مقابل فكرة الحياة الآخرة والبعث بعد الموت التي نشأت في الشرق الأدنى القديم مع حضارات سورية والعراق ومصر. وقد ظهرت بذور عقيدة التناسخ في الهند منذ أقدم العصور، في ما يسمى بعصر الفيدا، ولكن نصوص الفيدا لم تدل عليه صراحة، ثم أخذ يظهر بوضوح أكثر في نصوص الأوبا نيشاد، ثم استقر وأصبح سمة واضحة في عقائد الهندوس في عصر الجيتا، وذلك علي أيدي الكهنة البراهمة الذين حاولوا من خلال فكرة التناسخ إثبات أفضليتهم وعلو مكانتهم.

تؤكد المعتقدات الهندوسية: إن التناسخ يتم وفقاً لما قدمت النفس من أعمال، فإذا مات الجسد، خرجت منه الروح لتحلّ في جسد آخر، فتنتقل روح الإنسان الجيد إلى جسم سعيد بعد موت الجسم الأول، ولكن ليس بالضرورة انتقال الروح إلى إنسان آخر، فقد تنتقل الروح إلى حيوان أو حشرة أو جماد، ويحدد نوع الجسم الجديد ما قدمت الروح من عمل في حياتها السابقة.

ومن الهندوس انتقلت فكرة التناسخ إلى كثير من الأمم، وتأثرت بها العديد من الملل، ومنها بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام أو المنشقة عنه كالخطابية والبيانية وغيرهما من القائلين بالرجعة، ولكن مع أن التناسخ الذي قالوا به هو امتداد لما يعتقده الهندوس لكنه يختلف عنه إذ قد أدخلوا عليه بعض التعديلات حتى يوفقوا بينه وبين عقائد الإسلام.

ومما يلفت النظر دقة التشابه في بعض المعتقدات بين الهندوسية والديانات الأخرى إن كانت سماوية أو وضعية، فعلى سبيل المثال في مجال الاحتفالات والأعياد: يحيي الهندوس يوم البدر الأخير، وهو يوم الرابع عشر من الشهر القمري، بقراءة بعضاً من كتبهم، مصحوبة بالرقص على أنغام الموسيقى، والأيام البيض في التراث الشعبي الإسلامي هي ذات الليالي البيض الثلاثة التي يكتمل فيها البدر. كما يحتفل الهندوس ببدء العام الجديد بإقامة طقوس وشعائر دينية خاصة، وقد انتقلت هذه العادة إلى كثير من الأمم، فأصبحت معظم الشعوب الآن تحتفل ببدء العام الجديد.

كما يحتفل الهندوس بذكرى إنقاذ الأميرة المخلصة سافتري لزوجها المحبوب ساتيا فان من الموت، بعد أن قبض ياما إله الموت روحه، فظلت هذه المرأة المخلصة تتوسل إليه حتى يعيد الحياة إلى زوجها، فأجابها إلى طلبها بعد مناقشة مطولة بينهما، وقد أعجب بجمالها وذكائها وإخلاصها لزوجها. وهذا ما يتطابق تماماً مع أسطورة عناة البابلية، ومع أسطورة إيزيس وأوزريس في مصر، وأسطورة عشتار وأدونيس في سورية.

كذلك يحتفلون بليلة الغفران، وهذه الليلة تقع في شهر كانون الثاني من كل عام، وبحسب اعتقادهم سيحصلون فيها على المغفرة من الذنوب التي ألمت بهم العام الفائت. كما يحتفل الهندوس بيوم الشكر اعترافاً بقدرة الإله، وشكراً له على خلقه لهم.

وفي مجال الحياة الاجتماعية نرى الهندوسية كالمسيحية فهي تنظر إلى الزواج على أنه عقد مقدس لا يجوز فسخه، إلا إذا كان هناك ما يقتضي ذلك، عندها نجد الهندوسية تبيح الطلاق كالإسلام، ومثله تبيح للرجل أن يجمع أكثر من زوجة، كما تفرض الهندوسية اعتزال النساء في فترة الحيض. وتشابه الهندوسية طقوس بعض سكان القفقاس حيث تبيح أن يتزوج الرجل المرأة عن طريق خطفها بالقوة من بيت أهلها، وتسميه زواج ركشش، وهو خاص بطبقة الكشتريا.

وفي مجال التشريع تأمر الهندوسية الحاكم أن يقطع يد السارق، وأن يقتل الزاني، ولكن الهندوسية تخالف الإسلام فهي لا تفرق في إقامة عقوبة الزنا بين المحصن وغير المحصن. ولكنها تماثل الإسلام بتشريعها أن لا وصية لوارث. والهندوسية تقترب جداً من الفرائض الإسلامية حيث تأمر بالتطهر من الجنابة بالاغتسال بالماء، هذا مع غسل الأيدي والأفواه بالماء المعطّر قبل الذهاب للمعبد ومباشرة الصلاة. كذلك كما في الإسلام يغسل الميّت بالماء، ولكن الجثة تحرق بدل أن تدفن كما يتم لدى المسلمين.

وقد توقف كثير من الباحثين إزاء العبادات الهندوسية وتماثلها مع عبادات الأديان الأخرى، إذ يقوم أتباعها كما في الأديان السماوية بالحج إلى أماكن مقدسة، والصوم، والصلاة، وترتيل الذِكْر. والهندوسية كمعظم الأديان الوثنية تحث على تقديم القرابين أمام تماثيل الآلهة، وحتى الحالة المفردة للهندوسية في تقديسها للبقر، فإني لا أراها إلا تجسيداً لما كان يتم في بلدان الشرق الأدنى القديم في بابل وفي مناطق عدة من سورية وفي مصر، من تمثيل للعجل المقدس، ومئات الرسوم والتماثيل الأثرية للأبقار التي اكتشفت في هذه البلاد هي التي تؤكد ذلك.

ثانياً: الجانتية

كان التمييز العنصري الذي مارسته طبقة البراهما قاسياً وساحقاً ضد كل الطبقات الأدنى وخاصة طبقة الشودرا، ولكونها طبقة ضعيفة أصلاً فلم تبد أي مقاومة للخروج من ربقة العبودية الآرية، لكن طبقة الكاشتري الآرية هي التي ثارت ضد تحكم البراهما وازدراؤهم لها كطبقة أدنى، ولأن أفرادها هم الأكثر ثقافة ويقومون بأعباء الحرب والحكم، فقد كانت الأقدر بين كل الطبقات على التحرك ضد البراهما، فمنها انطلقت ثورة مهافيرا وثورة بوذا ضد ظلم البراهما. وقد ظهرت الجانتية قبل البوذية، ومؤسسها مهافيرا مثل بوذا من طبقة الكاشترية، وكانت تجمع بينهما أفكار عديدة، فقد نادى بوذا مثل مهافيرا بالإلحاد ونبذ فكرة وجود الآلهة، وقال أن العالم خالد وكان موجود دوماً فلا حاجة لخالق، ومثله دعا بوذا للإيمان بالتقمص كحل للجزاء في غياب يوم آخر وإله خالق يحاسب، وتبنت الدعوتان أفكارا سلمية راقية جداً.

تستند الجانتية إلى عبادات هندية قديمة جداً مثل الطوطمية والإحيائية التي لا تزال ملامحها واضحة في عدة طقوس جانتية، وربما من هنا جاء ادعاء الجانتية بالقدم المطلق وأنها أقدم دين في العالم وهي أصل الأديان، وكذلك يعود الجانتيون بمؤسس دينهم إلى عصور موغلة في القدم، ويقولون أنه من بلايين السنين، لكن مؤرخو الأديان لا يعرفون عن الجانتية شيء قبل القرن السادس ق م. ومع احتفاظ الجانتية ببعض الأفكار والطقوس القديمة لكنها تجاوزتها إلى آفاق فكرية عالية جداً، وخاصة التي تركز على عدم إلحاق الأذى بأي كائن مهما كان، انطلاقا من فلسفة حرمة الحياة، وقدسية الروح التي تحوي المعرفة الكاملة أو الكيفالا، يقول الجانتي في صلاته اليومية:

إلى المعبود من جميع الناس
واهب السلام والفرح
أحني رأسي المتواضع
لكي يمنح السلام الدائم
لجميع الكائنات على الأرض.

كذلك دفعت الجانتية بالتقشف إلى أبعد حدوده لإذلال النفس وقهرها بالصيام الطويل والعري الكامل، ثم وصلت إلى خارج حدود المنطق البشري بإعطاء فكرة الانتحار جوعاً بعداً ذو قيمة روحية عالية، حيث يتم به تحرر الروح النهائي وبلوغها الخلود. ولذلك يتمحور كل مِن الحياة والدين في الجانتية حول فكرة واحدة هي: الخلاص من لعنة دورة الحياة، أو لعنة التقمص، فالتحرر من هذه الدورة يحتاج إلى جهد هائل في التقشف وتعذيب النفس، وأخيراً الانتحار جوعاً، فتتحرر الروح من دورة الولادة والموت، وتحقق الخلود ولا تعود للحياة في جسد آخر، وتصبح كائن سماوي، وربما إلهي، هائمة في سعادات لا تنتهي تعرف بالنيرفانا. ومن هذه الحالة الفريدة المقاومة لطبيعة النفس البشرية ورغباتها جاءت تسمية الجانتية التي تعني السيطرة على المادة، والجانتيون هم غالبوا المادة، أي قاهرو الشهوات، وجينا تعني المنتصر أو الظافر لكن ليس في الحرب أو الصراع بل على نفسه في كبح الشهوات.

وربما كانت الجانتية من أكثر الديانات حثاً على عمل الخير والإحسان للآخرين واصطناع المعروف، حتى قدمت ذلك على العبادات كلها، يخاطب مهافيرا الناس، فيقول:

في داخل نفوسكم الخلاص
فليس بالصلاة ولا بالقرابين
ولا بعبادة الآلهة
يمكن للإنسان أن يجد الغفران
أو يصل إلى طريق الحياة الصالحة
ولكن بالعمل الطيب
يمكن أن يبلغ النيرفانا.

الهندوس يعدون ديانة الجيانتية هرطقة خارجة عن دينهم كالبوذية، أما أتباع الديانات السماوية فيعدونها ديانة وضعية، أي من وضع بشر، ويقولون بأن مهافيرا يمكن أن يكون أي شيء إلا كونه نبياً مرسلا، ولكن الإسلام وبنص قرآني صريح يمنع هذه الأحكام، ويترك الحكم النهائي لله وحده الذي يظهر يوم الدين النبي من الدعي، فربما يكون مهافيرا من الرسل الذين لم يقصص الله سبحانه ذكرهم على نبينا محمد (ص)، حيث خاطبه تعالى بقوله: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله – غافر / 78). وعلى هذا فلا أحد يستطيع أن يقطع إن كان مهافيرا نبي الجانتية وبوذا أو زرادشت رسلاً من الله أم هم أدعياء. وإذا لم نعترف بمهافيرا مؤسس الجانتية بأنه نبي مرسل فلا أحد يستطيع أن ينكر كونه مصلحاً اجتماعياً، بل ربما كان واحداً من أهم المصلحين الاجتماعيين في تاريخ البشرية، وذلك لما ضمن دعوته من رأفة ورقة وتسامح، ولما أعطى الحياة أي حياة من حرمة وصلت إلى حد التقديس، وأنه ثائر من الطراز الرفيع، ثار على طبقة البراهمة المتحكمة بواسطة دين ابتدعته ليوثق تحكمها وسيطرتها واستغلالها لكل طبقات المجتمع الهندي.

ثالثاً- البوذية:

تعد الديانة البوذية اليوم من أهم الديانات الرئيسة في العالم، ورغم ما نشر عنها من دراسات كثيرة لا تزال تحتاج إلى المزيد من التعريف بها والبحوث حولها، فهي من أعمق الفلسفات الدينية ومن أشهرها، وهي نتاج المطبخ الشهير للأديان في الهند العظيمة، الذي نشرت في العالم كله عقائد الكارما والنيرفانا والتقمص والرهبنة والزهد.

وهنا يجب أن أشير إلى أنه لا يوجد في واقع الحال لا بوذا ولا بوذية، بل يوجد بودا وبودية، بالدّال، وليس بالذال. لكننا مع ذلك نستخدمها بالذال فهذا ما هو شائع في اللغة العربية، فقد قربها العرب للفظهم منذ أن سمعوا بها. وتعني كلمة بودا بلغة بالي الهندية القديمة: المتيقّظ، مع أنها تترجم غالباً بمعنى: المستنير.

كانت البوذية في الأصل حركة رهبانية نشأت داخل التقاليد البراهمانية للديانة الهندوسية، التي تكونت نتيجة تراكم معرفي ديني للتراث الهندي، وتبلورت من خلاله عبر آلاف السنين، مما جعل الهندوسية تجسِّد الشخصية القومية للمجتمع الهندي، لكنها أثقلت جداً على الهنود بتقسيماتها الطبقية الحادة، وبتعدد آلهتها المفرط، وبتعاليمها المطاطة، وفلسفتها الشمولية. لذلك قام الدعاة من قلب الهندوسية بالانقلاب عليها ونقدها وتقديم حلولهم الخاصة لديانة ومجتمع الهند، ومن هؤلاء الدعاة كان مهافيرا صاحب الدعوة الجانتية، وسد هارتا أو جوتاما صاحب الدعوة البوذية. ولكن قدر لسد هارتا الذي تحول بالاستنارة، أي بلوغ النيرفانا، ليكون بوذا، أن تتفوق دعوته بانتشارها الواسع على دعوة مهافيرا، وربما كان ذلك يرجع بشكل ما لوسطيتها بين الهندوسية والجانتية.

ومع أن البوذية في المعيار الزمني تعد مزامنة للجانتية، ولو أنها نشأت بعدها بجيل، لكنها شاركت الجانتية في بعض من أعمق مرتكزاتها، فكانت كالجانتية حركة منكرة للدنيا تتشوف إلى تحرير الذات الحقيقية، وكانت كذلك خطوة نحو تحرر اجتماعي حقيقي بتوجهها إلى كل طبقات الناس وظروفهم. وشأن ماهافيرا مؤسس الجانتية فقد وجد بوذا أن الفلسفة الدينية للبرهمانيين غير مقبولة ومزاعمهم الدينية والاجتماعية واهية. وكذلك أنكر الوصول للخلاص عن طريق تعاليم أسفار الفيدا، وما تنص عليه من طقوس لعبادة آلِهة هائلة العدد. وتحدى إدعاء الكهنة البرهمانيين لحقوق حصرية لسبيل الخلاص، بالإضافة إلى رفضه وِصاية سُلطتهم الكَهنوتية وتميزهم.

ولكن مع أوجه الشبه الدقيقة بين البوذية والجانتية في بعض النواحي، فإن أوجه الاختلاف في النواحي الأخرى كبيرة، فبينما ركزت الجانتية على الزهد المتصلب والمفرط، فقد وجدت البوذية النجاة في سلوك سبيل الوسط المعتدل، ولم يكن الزهد المفرط عند بوذا بأفضل مما كانت عليه الشهوانية. وخلاصة الفلسفة البوذية تتمثل في اجتناب كلّ شيء رديء وعمل كلّ شيء صالح، وتهذيب العقل. أمّا ما فيها من الخرافات والكهنوت والفلسفات والأسرار فقد أضيفت إليها مع مرور الزمان في بلدان وأجواء مختلفة.

لقد جعل بوذا طريق الزهد والتقشف طريقاً محبباً يسلكه الحكماء بقصد الابتعاد عن الطرقات المظلمة والاتجاه صوب النور، يقول البوذيون: إذا وجدنا شخصاً سجن ألفاً، ورجلاً آخر سجن هوى نفسه فإنَّ الأخير هو أفضل الذين يسيطرون على الأمور، فلئن يسيطر المرء على نفسه أفضل من أن يسيطر على أناس آخرين، وكلّ من يسيطر على نفسه هو الذي يستطيع أن يغسلها دائماً ويطهرها من الآثام. وبذلك أثرت البوذية في بعض المعتقدات في العديد من مناطق العالم، فعاشوا حياة العزلة والهروب من المواجهة، ومنهم في عالمنا الإسلامي بعض فرق الصوفية ودراويشها.

كانت التعاليم الجديدة التي بشر بها بوذا موجهة للرجال والنساء وإلى كل الطبقات الاجتماعية بدون استثناء، كان بوذا يرفض المبدأ القائل بأن القيمة الروحية للإنسان تتَحدَد عند ولادته، وفقاً لنظام الطبقات الاجتماعية الهندوسي. وكانت هذه الدعوة ترتكز أساساً على فلسفة أخلاقية تعالج قضية الحياة والموت عبر مفهومي الكارما والنيرفانا.

وإضافة لذلك تؤمن البوذية بنظرية الفداء، حيث ترى أنه دون مخلّص سيخضع الأفراد إلى نتائج أعمالهم، وهذا المخلّص هو بوذا، الذي يروى أن أمّه حين وضعته: أرادت النهوض ومدّت يدها إلى غصن شجرة المالبيني فانحنى من تلقاء نفسه حتّى قارب كفها، ولـم تكد تنهض حتّى كان تحتها طفل تلقاه أربعة من البراهما في شبكة نسجت خيوطها من الذهب، ووقف المولود فجأة، وتقدّم إلى الأمام سبع خطوات، ثُمَّ صاح بصوت عذب: أنا سيِّد هذا العالـم. وتستند البوذية في تعاليمها الروحية بشكل عام إلى مبدأ صراع الخير والشر، وتصف كدواء لداء التقمص ممارسة فضيلة المحبة نحو جميع المخلوقات، والتواضع، ونكران الذات.

يعتبر تاريخ البوذية منذ تأسيسها حتّى أصبحت ديناً شاملاً تاريخاً غامضاً، ولكنَّ المعروف هو أنَّه عصفت بها المشاكل وحدثت بها انشقاقات حولتها إلى حوالي ثمانية عشر طائفة. وتجدر الإشارة إلى أنَّ انتشار البوذية يعود الفضل فيه لملك عاش في مرحلة متأخرة على ظهور بوذا بحوالي قرنين ونصف هو آشوكا، الذي خلف أباه بندو سارا في حكم الدولة المورية، فوسع مملكته ومارس العنف والتسلّط على الآخرين من خلال حروب دامية، ولكنَّه لـم يلبث أن اشمأز من سفك الدماء، ومال إلى البوذية ووجد ضالته فيها، فاعتنقها وعمل على نشرها، وأعلن أنَّ فتوحه من ذلك الوقت ستكون في سبيل الدين، واتخذ لقب بيا داسي أي المحب التّقي، وسن قوانين كلها شفقة ورحمة، وهي تأمر بممارسة الفضائل وحفر الآبار وزرع الأشجار، وبناء الطرق والمستشفيات والحدائق العامة والبساتين، وتنهى عن القصاص بالقتل، وأرسل الملك آشوكا البعثات الدينية إلى كشمير وسيلان وإمبراطورية اليونان وجبال هملايا، فتحوّلت بذلك البوذية من مذهب لطائفة هندية إلى دين عالمي.

لقد أحدث أشوكا نقلة نوعية في البوذية، ولعل هذا ما دعا لاعتباره المؤسس الثاني للبوذية، بحيث تحوّلت مع انتشارها على يديه من فلسفة أخلاقية إلى ديانة لها معابدها ومفهومها للإلوهية، ولها نظامها الطقسي. واليوم يمكن أن نصنف البوذية ضمن فئتين هما: هينايانا أو العجلة الصغيرة، و ماهيانا أو العجلة الكبيرة، هذا بالإضافة إلى أشكال متعدّدة من البوذية التي تأثّرت بثقافات البلدان التي انتشرت فيها، ففي الهند بوذية مطعمة بالهندوسية، وفي الصين بوذية متأثرة بالكنفوشيوسية، وفي اليابان بالشنتوية، كما تسربت إلى بعض مذاهب البوذية مفاهيم من أتباع الرسالات السَّماوية كالمسيحية والإسلام، ولا يخلو الأمر من مفاهيم بوذية دخلت في مذاهب غير البوذيين.

رابعاً- الزرادشتية:

مع أن إيران كانت بلاد زرادشت ومهد ديانته، لكن قدر لهذه الديانة أن لا يكون استمرارها الفاعل إلا في الهند لتنضم إلى بوتقة أديانها وتشهد فيها ازدهارها الأخير.

قد لا تختلف الديانة الزرادشتية، حتى في كثير من تفاصيلها، عن الأديان العالمية وخاصة السماوية منها، ومع ذلك، فقد جرت العادة، أن لا يعترف أتباع الديانات السماوية بالزرادشتية ديانة سماوية، بل يعدونها ديانة وضْعِيَّة، بينما الديانة المسيحية تقر باليهودية ديانة سماوية سابقة لها، والدين الإسلامي يقر باليهودية والمسيحية ديانتين سماويتين سابقتين له، وربما كان من الطبيعي إنكار هذه الأديان لسماوية الديانة الزرادشتية، التي كانت بعيدة بأرضها وبقومها عن أرض وأقوام هذه الديانات التي تحتكر الصفة السماوية، فقد نبعت من أرض واحدة متقاربة، وتداخل تراثها الفكري والروحي بشكل كبير، حتى أنها تعد ديانة واحدة متسلسلة ومتجددة عبر عدد من الأنبياء.

لكن ببساطة متناهية يبدو لكل ذي نظر أن هناك تشابه وتماثل، يدعو إلى الدهشة، بين معتقدات الزرادشتية وبين الأديان السماوية الثلاثة. فتراث الزرادشتية، إضافة إلى عقيدة التوحيد، يتضمن أدب أخلاقي غاية في الشفافية، يحب الحق ويقدس الصدق، كما يبشر بالمخلص الذي سيولد وينقذ العالم من الشرور والآثام. ومن المعروف أن عقائد الديانة الزرادشتية تتمحور وتتمركز حول الإله الواحد الكبير المطلق، وهو: أهورا - مزدا، الذي تحف به الملائكة. وقد اصطفا هذا الإله داعيته ونبيه زرادشت، وأرسله إلى الناس كافة، ولما واجه زرادشت الاضطهاد من قومه هاجر عنهم، حتى تمكن من نشر دعوته، بعد أن أظهر العديد من المعجزات، وخاصة إبراء المرضى المزمنين. يقول زارا:

أنا زرادشت
سأكون بالحق ما استطعت
عدواً لمعتنقي الضلال
وملاذاً آمناً للمؤمنين بالحق.
وحتى أنال أملي بدار الخلود
سأظل يا مزدا . . أرتل لك وأحمدك. ( اليسنا: 43 / 7 – 8 )

وكما كان للزرادشتية أنصار يؤمنون بها كان لها أعداء ينكرون نبوة زرادشت، وهذا ما لا يستطيع أي مسلم البت فيه إذا تمثل الآية الكريمة: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون) – غافر/77. بل وهناك من ينكر وجود زرادشت أصلاً، ولكن سواء أكان زرادشت شخصية أسطورية أم حقيقية، فهو موجود بقوة في التراث الديني الذي أقام صرح الديانة الزرادشتية، وجعلها تقاوم الاضطهاد وتتحدى الزمن، فاستمرت بدعوتها بحيث لا يستطيع أحد إنكار وجودها.

وكذلك فإننا إذا أنكرنا نبوة زرادشت، فإننا لا نستطيع أن ننكر كونه مصلحاً قدم برنامجاً إصلاحياً اجتماعياً روحياً متطوراً بالنسبة لزمانه. ويبدو أن الفيلسوف الألماني نيتشة كان خير من عبر عن حقيقة هذا البرنامج بقوله على لسان زرادشت:

لقد عَرَضْتُ لأنظار الناس كواكب جديدة
وليالي لا عهد لهم بها. . .
نثرت الفرح على غيوم الليل
وعلمت الناس جميع أفكاري. . .
ليتعلموا إبداع المستقبل
ولينقذوا الإنسانية مما أدرج الماضي في أغوارها . .
بهذا رأيت السلام للناس
وأنا الآن أتوقع السلام لي . .

ولأني أريد أن أذهب من بينهم إلى الفناء، أودعتهم أثمن كنوزي . .

لقد تعلمت هذا الجود من الشمس
التي تلقي على البحار نضارها وهي تتوارى في الظلام
حتى ترى أفقر الصيادين يداعبون صفحة البحر بالمجاذيف المذهبة. . .
هكذا يريد زارا أن يتوارى فيغرب كما تغرب الشمس.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى