الثلاثاء ٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥

تعقيدات الزمن وحبكة السرد البصري

يمثل مسلسل «DARK» تجربة استثنائية في الدراما التلفزيونية الألمانية، إذ يعيد تشكيل مفهوم الزمن والسرد ضمن أفق التخييل العلمي. في هذا النسق، يتحول الزمن من امتداد خطي من الماضي إلى الحاضر والمستقبل إلى حلقة دائرية متشابكة، تتقاطع فيها الأجيال وتتداخل الأحداث بحيث يصبح كل فعل مركزا لموجات تتجاوز حدود اللحظة والزمان. الزمن في هذا العمل كيان نشط يعيد تشكيل ذاته عبر شبكة علاقات معقدة، فيتداخل الماضي بالحاضر والمستقبل، وتتولد مفارقات تتجاوز قدرة المنطق التقليدي على تفسيرها، بينما تظل الإرادة البشرية محكومة بالدورة نفسها التي تعيد إنتاجها. وتعكس البنية السردية لهذا العمل البصري كونا متشابكا، حيث يعكس كل كشف أو تصرف لشخصية العلاقة بين السبب والمسبب، وبين الذاكرة والكينونة. تمتد الأحداث عبر أربع أجيال وثلاثة أزمنة رئيسية (1953 و1986 و2019) مع خطوط زمنية لاحقة (1921 و2052)، فتتكون شبكة زمنية جوهرية لبناء الحبكة، حيث أي محاولة لتغيير الماضي تترجم إلى تثبيت الأحداث نفسها بطريقة مختلفة، مولدة مفارقات حول الحرية الفردية والحتمية الزمنية، متقاطعة مع الميراث الفلسفي لفردريك نيتشه، وبالأخص فلسفة الزمن الدائري وفكرة العود الأبدي، فضلاً عن نظريات الفيزياء ما بعد الكوانتية التي تسعى إلى استكشاف أبعاد الزمن من منظور يتجاوز التناقض الظاهر بين ميكانيكا الكم، التي تفترض الزمن معيارا خارجيا ثابتا، والنسبية العامة، التي تصوره كنسيج ديناميكي متغير متشابك مع المكان.

المحور المفاهيمي يتمثل في أن الزمن ظاهرة ناشئة تنتج عن بنية أعمق للكون، سواء من خلال التشابك الذري أو من هندسة الزمكان الذرية، فيتحول الزمن من إطار مطلق إلى مفهوم علائقي ينبثق من التفاعلات بين المكونات الأساسية للكون، ما يعيد النظر إلى الزمن كشبكة مغلقة للأحداث.

يمتزج البعد الفلسفي بالسرد البصري، فالبيئة الرمزية، من الغابة السوداء إلى الكهوف العميقة والمحطة النووية، تتحول إلى مجال للتأمل الانطولوجي، حيث تتقاطع القوى الزمنية مع الإرادات البشرية. يطرح المسلسل أسئلة جوهرية عن الحرية والمصير والوجود، مستحضرا أبعادا ميثولوجية وفلسفية تتقاطع مع البناء الدرامي، فتتيح للمشاهد إدراك الترابط بين المواقف الإنسانية والحدث الكوني في إطار الزمن الدائري. تظهر هذه الأبعاد في التفاعلات بين الشخصيات والأجيال المختلفة، حيث تصبح قرارات كل فرد محكومة بالنسق العام للأحداث، ما يخلق توتّرا فلسفيًا حول الإرادة والمصير، ويثير أسئلة عن طبيعة الحرية وحدود الإرادة الفردية وإمكانية كسر دورة الأحداث المتكررة.

على المستوى البصري، يتسم المسلسل بدقة اختيار زوايا التصوير والإضاءة وتصميم المشاهد، بشكل يمنح المشاهد إحساسا مستمرا بالغموض والتوتر، ويحول البيئة، سواء كانت الغابة السوداء، الكهوف العميقة، أو المحطة النووية، إلى مجال حيوي تتفاعل فيه القوى الزمنية مع القرارات البشرية. ولعل الموسيقى التصويرية لبن فروست تعزز الجو النفسي المشحون وتدعم الإيقاع البصري الذي ينسجم مع التوتر السردي، مانحة كل حلقة طابعا بصريا متكاملا، وكأن كل مشهد يحمل لغة بصرية تعكس البنية الدائرية للزمن.

واذا كان العمل الدرامي بناء متكامل ومنسجم في منظوراته وتحققاته، فإن الأداء التمثيلي ساهم في ترسيخ المصداقية الدرامية، إذ يجسد الشخصيات عبر مراحل عمرية مختلفة، بشكل يعكس تطورهم النفسي والاجتماعي عبر الأزمنة المتعددة. يسمح هذا التنوع- في تقديري- بفهم التشابكات الزمنية المعقدة ويضفي عمقا على الحبكة، إذ تتقاطع الصراعات الداخلية للشخصيات مع المسار الكلي للأحداث، والمصائر بما يعزز البعد الفلسفي والوجودي للعمل، ويحول «DARK» إلى تجربة بصرية تلفزيونية متكاملة تجمع بين التفكير النقدي والمتعة البصرية المشوقة، ليحقق المسلسل بذلك توازنا نادرا بين الرمزية الفكرية والتشويق السردي، في سياق يدمج التأمل الفلسفي بالإثارة الدرامية، محولا تجربة المشاهدة إلى اختبار معرفي وجمالي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى