الاثنين ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨

تكريس الضياع الثقافي في سنين الضياع

بقلم: د. فؤاد الحاج

خلال الفترة الماضية وبينما نحن منهمكون في المتابعة السياسية والمخططات الصهيو-أمريكية لمجريات الأوضاع في العالم والتي ندرجها ضمن مسلسل المؤامرة المستمرة ضمن عملية ما يسمونه الديمقراطية الأمريكية في انتخاب الرئيس القادم لأمريكا والصراع بين المتنافسين "باراك أوباما" و"جون ماكين" على من يقدّم خدمات أفضل وأمن ودعم أكثر للكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين وللأراضي العربية المحتلة، مروراً بالجزر العربية التي تحتلها إيران في الخليج العربي وبما يحدث في لبنان في السودان والصومال وارتيريا واليمن إضافة لما يحدث من جرائم إبادة جماعية للعراقيين وقتل وترحيل وتشريد لعلماء وكوادر العلم في الجامعات العراقية يضاف لهم المثقفين على مختلف مستوياتهم، وذلك ضمن مؤامرة يتعاون فيها حكام أنظمة يقال أنها عربية - وهي كذلك بالاسم فقط - بالاشتراك مع أعداء الإنسانية بقيادة إدارات الشر الأمريكية المتعاقبة، وقد أضيف لها مؤخراً همّ جديد هو أزمة الغذاء وارتفاع أسعار النفط والمواد الخام الأساسية، ونقص ماء الشرب وارتفاع حرارة الأرض وما إلى هنالك من هموم عالمية تسبب فيها إخضاع الدول لسيطرة "صندوق النقد والبنك الدوليين" دون أن يتجرأ أي نظام مهما كان بقول كلمة لا لهما.

على الرغم من محاولة بعض الكتّاب والمحللين السياسيين بطريقة أو بأخرى تسليط الضوء على مخاطر العولمة في ظل سيطرة "صندوق النقد والبنك الدوليين" وما يسمى بـ"هيئة الأمم المتحدة" على مقدرات وثروات الشعوب وصرفها عن الاكتفاء الذاتي زراعياً، من خلال تدمير الأراضي الصالحة للزراعة وتحويلها إلى امتداد أفقي للمصانع التي تلوث البيئة، وإنشاء الأبنية والعمارات للسكن، وللطرق السريعة، دون أن تلتفت الحكومات والأنظمة الحاكمة في بلاد العرب من المحيط إلى الخليج إلى وضع أي خطط للاكتفاء الذاتي زراعياً، وهنا ألفت النظر إلى أن عراق العروبة والحضارات كان قد ابتدأ عام 1996 ضمن مخطط الاكتفاء الذاتي زراعياً وحيوانياً تحت شعار (الثورة الزراعية ثروة للأمة) وابتدأ بدعم المزارعين وأصحاب الأراضي الزراعية لاستثمارها من أجل الحصول على كافة أنواع الحبوب من القمح إلى الأرز والشعير والحمص والفول وغيرها من الحبوب، وفي عام 1999 أثمرت هذه الخطة وابتدأ الاكتفاء الذاتي تقريباً وتمت السيطرة على رفع الأسعار، وابتدأت العوائل في تربية الدواجن في المنازل بإشراف حكومي وصحي، كما ابتدأت الهجرة العكسية من المدينة إلى الريف، وكذلك تم تصدير الكميات الزائدة من الحبوب والقمح والجلود والحيوانات الداجنة إلى سوريا والأردن تدريجياً، على الرغم من أن أمريكا كانت تقصف الأراضي والمستودعات الغذائية وتحرق المحاصيل الزراعية وتدمر الأراضي الصالحة للزراعة، وأن كل عراقي حر وشريف لا بد أن يتذكر ذلك ولا بد أن يكتب عن تلك المرحلة.

على أية حال، ضمن هذه اللوحة المأساوية للأحداث المتتالية التي تجري في بلاد العرب والتي تبدو وكأنها لوحة من المآسي لم يسبق لها مثيل تضم من الضياع الثقافي ما يجعل المرء في حيرة من أمره، وفي الوقت الذي كنت أتابع تطورات الأوضاع وتحوّلها في لبنان وفي سوريا وفي الخليج العربي، كنت أتساءل لماذا تم الإعلان عن المباحثات السرية السورية الصهيونية بوساطة تركية فجأة وفي توقيت لافت هو إعلان "اتفاق الدوحة للمصالحة اللبنانية" كما أسموه، ولماذا قبلت الأطراف اللبنانية بالحل القطري وتوقيع "اتفاق الدوحة" مع العلم أن هذا الحل عملياً ليس بجديد، بل الجديد هو فقط الثوب القطري الذي ألبسوه إياه! ولماذا التركيز على دور قطر في حل بعض الأزمات، ولماذا قبلت الأنظمة الحاكمة في سوريا وفي بلاد نجد والحجاز وفي مصر وكذلك قبول إيران بذلك الحل، مع أن ما يسمى "المبادرة العربية لحل الأزمة اللبنانية" كانت هي المفتاح أو الأساس الذي تم الاتفاق عليه في الدوحة!! ولماذا أعلن أحد مساعدي عمرو موسى أمين عام جامعة تلك الأنظمة المستعربة عن "أن الحل الذي جرى لحل الأزمة اللبنانية هو الذي سيكرّس لحل مشاكل المنطقة"!! وهل صحيح أن "اتفاق الدوحة" كان حلاً للأزمة اللبنانية أم هو مرحلة تهدئة لمنع وصول العاصفة التي ستقتلع كل شيء في طريقها!

أسئلة وتساؤلات كثيرة كان بودي أن أناقشها وأكتب عنها، ولكن، ما كل ما يتمناه المرء يدركه، لأني وجدت أن هناك مشاكل وقضايا أخرى توازي تقريباً إن لم تكن أكثر أهمية برأيي يجب التركيز عليها وطرحها ومناقشتها علها تجد طريقاً إلى الكتّاب، والمفكرين، والباحثين، ومراكز الدراسات والبحوث إن وجدت في البلاد العربية، وفي الجامعات والمدارس، ليفوها حقها من الكتابة والطرح والمناقشة من أجل بناء شبيبة العرب وتحصينهم فكرياً، وأخلاقياً، وسياسياً، واجتماعياً، وحمايتهم من الضياع في زمن التيه والتشرد على الأرصفة إن في الوطن الأم أو في بلاد الاغتراب.

بعد هذه المقدمة أعود لأقول أنني وفي خضم المتابعة لما ذكرته أعلاه، ومن خلال زيارات العديد من الأصدقاء، أن معظم ربات البيوت والسيدات والآنسات متلهفون ويتحدثون عن مسلسل تلفزيوني مدبلج إلى العربية بلهجة سورية اسمه بالعربي (مسلسل نور ومهند) لا يعرفون كم عدد حلقاته ولا متى سينتهي، على الرغم من اختلاف وجهات النظر حوله بين مؤيد ورافض لبعض المواقف والمشاهد فيه.

وبعد أن استمعت إلى الكثير من الآراء حول هذا (المسلسل) بدأت برحلة بحث الكترونية عبر شبكة الانترنيت حول هذا الموضوع فوجدت أن مصدر (المسلسل) واحد في معظم المواقع الإلكترونية، وأنه بالأساس مسلسل تركي مدبلج إلى العربية بلهجة سورية، وتبثه فضائية "أم بي سي الرابعة" يومياً، وما لفت انتباهي أن هذا المسلسل ليس بجديد بل أنه يعود إلى عام 2005، وأن فضائية الـ"أم بي سي" استضافت على نفقتها أربعة من ممثلي هذا المسلسل من تذاكر السفر إلى الصور الـ"بوستر" إلى الإقامة والهدايا، وأقامت لهم حفل استقبال حيث تم إحضار بضعة عشرات أو مئات من الصبايا العربيات المغرمات بـ(مهند) وبالمسلسل، كما أجروا لقاءات مع عدد من المشاهدين في الأسواق والطرقات لإبداء رأيهم في المسلسل، إضافة إلى لقاء وحوار مباشر مع جماهير قيل أنها حضرت خصيصاً إلى مدينة الإعلام في دبي للقاء المعجبين والمعجبات بـ"مسلسل نور" حيث تم للقاء بهم بعد حملة إعلانات مكثفة من قناة "أم بي سي" عن حضور "أبطال" المسلسل وعن موعد ومكان اللقاء، وكذلك قامت فضائية "العربية" بتغطية شاملة لهذا اللقاء، مما جعلني أشاهد بعض الحلقات من البداية وأتابعها كي أكتب بعدل وإنصاف هذا التحليل، لذلك من هنا أبدأ.

أولاً إن المسلسل هو قصة حب وحقد وكراهية، قصة حب وكبرياء وعذاب، وقصة مظاهر تعالي وكبرياء، وأيضاً قصة تواضع وحب الأهل في القرية، بعبارات أخرى إنها قصة أجيال، قصة صراع بين صدق وبساطة وطيبة ابن القرية الواعي الذي لا ينسى أصله ويعود بطيبته وأصالته للأرض التي ولد ونشأ فيها كما النبتة التي نبتت في تلك الأرض دون سماد كيماوي أو عناصر دخيلة عليها أي دون كيماويات وحالية من الزيوان، وفي لوقت نفسه هي قصة خداع وكبرياء ومظاهر تعالي لمن تنكّر لأصله وأهله، على الرغم من أن المسلسل يتضمن بعض مشاهد الاحترام العائلي والتعلق بالتقاليد والعادات الحميدة رغم مظاهر الفساد والانحلال الاجتماعي في حياة بعض أفرادها تحت مسمى "حرية الاختيار"، لن أروي قصة المسلسل في هذا الموضوع التحليلي بقدر ما يهمني أن أطرح تساؤلات وأجيب عليها، علني أساهم بطرح تصوّر إلى واقع الشبيبة في بلاد العرب والعالم بشكل عام، ومن هذه التساؤلات:

1 - لماذا تم دبلجة هذا المسلسل باللهجة السورية؟ هل لأن تلك اللهجة أصبحت معروفة بعد سلسلة من المسلسلات الدرامية والسياسية والتاريخية التي لقيت النجاح مثل (باب الحارة) و(بوابة الصالحية) (أبو كامل) (زوج الست) و(هناء وجميل) و(بقعة ضوء) و(وردة لخريف العمر) وغيرهم العشرات، أم لأن الأجور مناسبة للجهات العارضة وللمنتجين؟ أم أن هناك غايات أخرى من عرض مثل هذه المسلسلات المدبلجة؟ وهل للتقارب التركي-السوري علاقة بالأمر؟ وهل هناك مخطط سياسي ما يجري تنفيذه لتحديد مسار المرحلة المقبلة سياسياً؟ أم أن الغاية منه ضرب الصناعة الفنية العربية بشكل عام والسورية على وجه الخصوص بعد موجة اكتساح المسلسلات السورية للتلفزيونات العربية؟

وإذا كان الأمر غير ذلك كلياً فلماذا تقوم "أم بي سي" بعرض مثل هذه المسلسلات؟ وهي المؤسسة التي يمكن القول أنها "سعودية" لأن مالكها "سعودي" والمعروف أن مثل هذه المسلسلات لا يمكن أن يوافق عليها من يدعي حرصه على خدمة الحرمين الشريفين.!! فهل أصبح منفتحاً ومعجباً بتركيا؟!

2 - لماذا التركيز الإعلامي الكبير على مثل هذه المسلسلات ومنها مسلسل تركي آخر يحمل عنوان "سنوات الضياع" وأيضاً مدبلج باللهجة السورية؟

3 - هل هناك مخطط اختراقي لعقول الناشئة والجيل العربي الجديد؟

4 - لماذا أصبحت دبي قاعدة "مهمة" للفضائيات الناطقة بالعربية، ألا تكفي قاعدة "افيدجانو" في ايطاليا لبعض الفضائيات الأخرى التي تبث سمومها عبر لبنان ومصر وبعض أقطار المغرب العربي؟ أم أن ذلك يعتبرونه انفتاح إعلامي وتجاري، ضاربين عرض الحائط بالعادات والتقاليد والأخلاق والدين؟ لأن المسلسل المذكور واضح بأنه يسمح بالزواج والطلاق حتى بعد أن يصبح الرجل عجوز ولديه أحفاد، بسبب كما يصورون في المسلسل أن الرجل تزوج رغماً عنه تحقيقاً لرغبة أبيه كي لا يغضبه وكذلك كي لا يفقد نصيبه من الميراث وغير ذلك مما يدور من أحداث في المسلسل، وأن البنت يمكن أن تختار عشيقها وتقضي معه أيام وليالي حمراء وتنجب منه ويمكن أن تختار أن تسقط حملها عندما تشاء، كل ذلك وأكثر يتم تكريسه في هذا المسلسل ضمن ما يقولون إنه "دعوة للحب" بمعنى أن "الحب هو الذي يكرّس الاطمئنان والسلام"!.

5 - وأخيراً هل هذا المسلسل هو قصة صراع طبقية بين الأغنياء والفقراء، لا أعتقد ذلك لأن طبقة الأغنياء لا تأتي من الفضاء الخارجي، بل هي تبدأ من طبقة الفقراء مثلما فعل الجد في المسلسل، الذي جاء من طبقة فقيرة من القرية وعمل ونجح وأصبح ثرياً كبيراً، ولكنه ظل محافظاً على صلته بالقرية وأهلها ومساعدة ذويه وأقاربه على الرغم من قسوته على شقيقته أو شقيقه وفرضه ما يريده هو على أبنائه لأنه لا يؤمن بالحب ولا يقبل أن تكون هناك علاقات جنسية قبل الزواج، ولكنه يرضخ في نهاية الأمر ويتقبل الواقع الذي فرضه الجيل الجديد باسم "الحب وحرية الاختيار"، كما أننا نجد أن الطبقية بارزة بشكل واضح في المسلسل بحيث يمكن القول أنه لا يوجد في المسلسل طبقة وسطى وإنما طبقتين من المجتمع الفقير والغني، وهو عملياً واقع الحال إن في تركيا أو في البلاد العربية أو في أي بلد غربي آخر.

التساؤلات تتكاثر والهموم تتزايد والضحية في النهاية تبقى الأجيال ومنها الجيل العربي الجديد باسم "الديمقراطية والحرية".

ثانياً إن عدد حلقات المسلسل باللغة التركية مائة حلقة لمدة تصل إلى (85) دقيقة للحلقة الواحدة تقريباً، بينما المسلسل المدبلج إلى العربية يصل إلى (165) ويقال حوالي (200) حلقة ومدة كل حلقة لا تتجاوز الأربعين دقيقة تقريباً، وهو يعالج مشكلة بالأساس هي تركية بين شخص من عائلة فقيرة هاجر من القرية إلى مدينة اسطنبول وأسس هناك مصنعاً صغيراً ثم أصبح ثرياً كبيراً، ثم جلب زوجة لابنه من تلك القرية، ثم تنكرت هذه الزوجة لأصلها وأصبحت لا تعترف بكل ما يربطها بتلك القرية ولا حتى بأهلها، ثم تنجب ويصبح أولادها كبار يحبون ويعشقون، ويسهرون مع هذا أو ذاك ويمارسون الجنس بنت كانت أم صبي كشيء طبيعي برأيهم وبحسب حياتهم وعلمانية النظام التركي التي تيسر ذلك، وما إلى هنالك من قضايا اجتماعية، لا أريد أن أخوض في تفاصيلها كما ذكرت، ولكن ما لفت انتباهي عدد من الآراء عبر شبكة الانترنيت وفي العديد من المواقع المختلفة ومصدرها "السعودية" وبعض أقطار الخليج العربي، كلمات بأسماء بنات كل منهن تحلم بـ"مهند" وتتمنى أن يكون عشيقها أو حبيبها، والبعض منهن يحلمن بشبيه لـ"مهند"، إضافة إلى وضع صور لـ"مهند" وحبيبته "نور" وأخته "دانا" في معظم "المنتديات الإلكترونية"، وكل "منتدى" يضع اسمه على الصور وكذلك ضمن حلقات المسلسل عبر شريط مستمر متنقل حيناً وثابت في حين آخر وكأن المسلسل ملك خاص لهذا الموقع أو لذاك المنتدى!!

مع ملاحظة أن المسلسل التركي كامل دون أي قطع لأي جزء منه، بينما حلقات المسلسل المدبلج فيها الكثير من القطع والحجب لمشاهد يقال أنها "لا تلائم طبيعة المجتمع الخليجي أو العربي" لذلك اضطرت الشركة المنتجة المدبلجة للمسلسل لقطع بعض المشاهد وحجبها بحجة "أنهم يتوجهون إلى الأسرة العربية ومراعاة لمشاعر تلك الأسرة تم قطع وحذف تلك المشاهد"، كما أن بعض المواقع وضع صوراً أو إعلان لتغطية مشهد ما مع إبقائهم للحوار الصوتي مستمر لحين انتهاء المشهد! وهنا تكمن المصيبة الكبرى، لأن المشاهد في هذه الحالة اضطر للذهاب إلى المواقع التركية وغيرها التي تعرض هذا المسلسل عبر الانترنيت، لمشاهدة ما تم حذفه من قبل "الرقيب الأخلاقي"!

وكذلك أن الأسماء في المسلسل التركي عملياً لا علاقة لها بالأسماء المذكورة في المسلسل المدبلج، وأيضاً اسم المسلسل في التركية (غيميش) لا أعرف لماذا تم تغييره إلى "مسلسل نور"، فهل اختيار الاسم له علاقة بغزو العقول العربية، أو أنه لجذب المشاهدين وجعل وقائع المسلسل "أكثر عربية"؟!

وبعودة إلى مدة الحلقات المدبلجة نلاحظ أنها تنتهي بموقف يبقي المشاهد متشوّقاً لمعرفة ماذا جرى وماذا سيجري، وهذا عملياً يعتبر نجاح للمنتج كما للشركة المدبلجة معاً، لأنهم يعتقدون أن المشاهد سيتشوّق لمعرفة ماذا سيجري وكيف، مما ذكرني بـ"الحكواتي" الذي كان يروي الأحداث التاريخية في المقاهي العامة أيام زمان وخاصة في السهرات الرمضانية مقابل مساهمة مالية متواضعة من رواد تلك المقاهي، وكان "الحكواتي" عادة ينهي فصله اليومي بمشهد مثير، مثل أن يسقط عنترة في حفرة الرمال المتحركة، أو الزير سالم أبو ليلى المهلهل في موقف صعب، وغيرهما من قصص الأساطير الشعبية، وينهي الحكواتي فصله اليومي قائلاً: "... سنكمل روايتنا غداً"!

وفي الكثير من المواقف كان يحدث أن يتدخل المستمعين رافضين العودة إلى منازلهم مقسمين بأغلظ الأيمان أنهم لن يعودوا إلى منازلهم قبل أن يتخلص بطل الرواية من المشكلة التي هو فيها، مما يضطرهم إلى الدفع ثانية وتجديد السهرة حتى الصباح ليكمل الحكواتي فصل الرواية كي يخرج عنترة من حفرة الرمال المتحركة أو تحل مشكلة الزير مثلاً!.

وهكذا فعل الكثير من أبناء الجاليات العربية حيث لجأوا إلى أصحاب محلات تأجير الأفلام والمسلسلات العربية سائلين عن هذا المسلسل فلم يجدوه، مما اضطر بعضهم إلى اللجوء إلى أصحاب محلات تأجير الأفلام والمسلسلات التركية، حتى وإن كانت باللغة التركية، وأيضاً لم يجدوه لأنهم عرفوا أن هذا المسلسل قد تم حذفه من لائحة الأفلام والمسلسلات منذ عام 2005 لأنه أصبح قديماً، مما اضطر بعضهم إلى اللجوء إلى الانترنيت لمشاهدة بعض الحلقات!.

لقد دفع أسلافنا للحكواتي الكثير من المال كي يعرفوا قصص وأساطير تاريخية لازالت مؤثرة في حياة الشعوب، وهي تتكرر ولكن بشكل متجدد ومتطور حتى عصرنا الحالي، ولأن التاريخ يعيد نفسه كما أعتقد فأنني أتساءل، ترى من يدفع لتلك الفضائيات مئات الملايين من الدولارات الأمريكية، تكاليف شراء كل مسلسل لتبثها مجاناً في عصر العولمة الأمريكية؟! ومن يدفع لشركات الدبلجة أيضاً المبالغ الطائلة وهي بالتأكيد بملايين الدولارات الأمريكية أيضاً، ولماذا يتم التركيز الآن على اللهجة السورية؟!

للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها نحتاج إلى صفحات من المجلدات، ولكن يمكن أن ألخصها بما يلي:

إن الهجمة على العرب تتعدى المشاهد المذكورة أعلاه حول مجريات المسلسل وأحداثه، إنها حرب مستمرة لتصل إلى الموروث الثقافي والحضاري والقيم والأخلاق.

كما نرى في المسلسل أن الشبيبة الجديدة تريد أن تتخلص من رأي وخبرة الآباء والأجداد بحجة أنها تريد أن تشق طريق حياتها بنفسها دون وصاية أو تدخل، ضمن ما يسمونه "التحرر من القيود والوصاية"!.

كذلك نرى أن الشبيبة تكذب على الآباء والأمهات وعندما يقعون في الخطأ والخطيئة يعودون أدراجهم بحجة الوعي والإدراك لأن الأيام علمتهم والتجربة صقلتهم!

وفي الوقت نفسه نرى خداع الأمهات تحت ذريعة الحفاظ على العائلة والأبناء والبنات حتى لو اضطرهن الأمر إلى قتل الآخرين ونفيهم ومحاربتهم بلقمة العيش!!

وفي المقابل نرى لجوء بعض الشبيبة إلى السكوت عن أخطاء لدى الأمهات المتسلطات والآباء المتسلطين وإن كان ذلك على مضض بحجة "أن هذه الأم تبقى أمي مهما حدث" أو "أن هذا الأب يبقى أبي مهما صار"!! وعندما يقولون أنهم أصبحوا واعين - أي الشبيبة – يقولون أن الزمن كفيل بتصحيح الخطأ! وهذه الجملة رددها في السابق وزير دفاع الكيان الصهيوني "موشي ديان" حيث قال بما معناه بعد عدوان الخامس من حزيران/يونيو: "إن العرب يؤمنون أو يقولون أن الزمن كفيل بتصحيح الخطأ، ولكنني أقول إن الزمن كفيل بتكريس الخطأ"، وكان يقصد بذلك وجود الكيان الصهيوني!. ترى بأي رأي يؤمن الجيل الجديد بتصحيح الخطأ أن بتكريسه!!.

وفي مجال أكثر خطورة في هذا المسلسل العلماني، الذي يتبع نمط العيش في تركيا ودستورها العلماني كما ذكرت، نجد أنه في تناقض بين الوقائع ومبين يطرح فيه من كلمات وجمل دينية، مع أن المسلسل ليس إسلامياً ولا علاقة له بالإسلام، وحتى في تلك المقابلة التي أجرتها "أم بي سي" مع الممثلين الأتراك "الضيوف" في "مسلسل نور" ذكرت التي تمثل دور "دانا" في المسلسل أن لديها أصدقاء حيث كانت تعيش في أمريكا وهم من عدد من أقطار الخليج العربي وأنها تعلمت منهم كلمة "إن شاء الله"! و"ما شاء الله"! وأنهم في تركيا يستمعون إلى أغاني الفنانة الكبيرة فيروز، وأنها تحب صوتها ومن ثم غنت باللغة التركية مقطع مشوّه من أغنية "حنا السكران"، وأشارت إلى أنه على الأقل هناك حوالي عشرين أغنية لفيروز ترجمت إلى التركية.

ولا بد من التنويه هنا إلى أن الأتراك يعرفون أو يتداولون ويلفظون الكثير من الكلمات العربية يومياً، وأن اللغة التركية تحتوي على نسبة مئوية كبيرة من اللغة العربية، دون أن يعرفوا كما أعتقد أنها عربية، فهل بسبب العنصرية الطورانية لا يقولون أنها عربية، أم بسبب أن أتاتورك منع التعليم الإسلامي في المدارس وحظر اللباس الإسلامي خارج المساجد، واستبدل اللغة العربية بالتركية في تعليم القرآن الكريم، كذلك أمر كما يقولون بترجمة القرآن العربي إلى اللغة التركية، ثم بدل الحرف العربي بالحرف اللاتيني الغربي، وجعل العطلة الأسبوعية يوم الأحد بدلاً من يوم الجمعة، ومنع ارتداء الحجاب للنساء في الدوائر الحكومية وفي حرم الجامعات، أم أن لكل ذلك علاقة بعدم معرفة الأتراك أن لغتهم تحتوي على نسبة كبيرة من المفردات العربية؟!

وكي لا أطيل في هذا الصدد أقول إن الغزو الثقافي هو أخطر من أي غزو آخر منذ أن ابتدأت الشبيبة العرب من الجنسين بارتداء "الجينز" ومن ثم تقليدهم الأعمى لـ"الفيديو كليب" الأمريكي الذي غزا الأفكار عبر الفضائيات الناطقة بالعربية من لبنان إلى مصر ومن ثم إلى المغرب العربي قبل أن يغزو الأسواق العربية، وصولاً إلى دبلجة المسلسلات المكسيكية والآن التركية.

من هنا أقول أنه بعد أن تم غزو العراق عسكرياً، وبعد أن تم ربط البلاد العربية بـ"صندوق النقد والبنك الدوليين"، وبعد أن أصبحت الأنظمة العربية أداة طيعة في يد الغزاة وأرباب البيت الأبيض في واشنطن، أصبح لزاماً على المثقفين الواعين لمخاطر تلك الغزوات أن يبدأوا العمل من أجل تشكيل جبهة موحدة والاستعداد الكامل لمواجهة تلك الغزوات الثقافية، وإلا فأن الأمة ستصبح في خبر كان.

تاركاً الإجابة على العديد من التساؤلات التي طرحتها أعلاه لكل مخلص وأمين وحر وشريف من أبناء الأمة للإجابة عليها بوعي وانفتاح من أجل الحفاظ على الأجيال القادمة.

وأخيراً أود أن أبدي ملاحظة أعتقد أنها هامة كي لا يفسّر كلامي أو يقال كلام لم أقصده في هذا الموضوع، لذلك أوضّح أنني لم أقصد أن أسيء ولا أن أشيد بـ"مسلسل نور" ولا بغيره من المسلسلات عربية أم غيرها، وكذلك لم أقصد الإساءة إلى الشعب التركي المجاور لشمال الوطن العربي، بل أن موضوعي هذا هو دعوة إلى التمسك بالقيم والأخلاق، والعادات الحميدة، وما أكثرها مشتركة بين الشعب التركي وبين أبناء الأمة العربية، خاصة وأن كبار السن والواعين في تركيا كما في أي بلد عربي لا أعتقد أنهم عملياً يريدون الإساءة إلى أولادهم أو أحفادهم حينما يوجهونهم إلى طريق ما أو إلى عمل ما، لأنهم في النهاية يريدون لهم الخير، وأن يعرفوا معنى الحياة ومصاعبها التي عانى منها الآباء والأجداد خلال حياتهم ومن خلال تجاربهم، لأنهم لا يريدون أن يقع أولادهم أو أحفادهم في أخطاء وتجارب هم بالأساس مروا بها وتجاوزوها، مع العلم أن السيئين والمتسلطين من الآباء والأمهات موجودين في تركيا وفي كما في أي بلد عربي أو غربي، وهؤلاء لا يقاس عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم في بناء المجتمعات السليمة وفي تشكيل نواة صالحة لأجيال المستقبل، وكما أن الكثيرين من المتأسلمين أساءوا إلى الدين الإسلامي الحنيف بأقوالهم وأفعالهم مثل ملالي طهران وأتباعهم، كذلك أساء رجال دين مسيحيين صهاينة إلى ما أتي به ومن أجله السيد المسيح عليه السلام، وكم من أم وكم من أب دمر حياة ومستقبل أولاده وأحفاده بسبب الطمع والجشع وحب المال، وكذلك فعل أولئك رجال الدين، وكم من مسلسل أو فيلم تسبب في مشاكل عائلية وخراب بيوت في أقطار متفرقة من بلاد العرب وفي ديار الاغتراب باسم "التحرر والديمقراطية"؟!

بقلم: د. فؤاد الحاج

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى