الاثنين ١٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم سعد الكموني

تهافت منطق(التأويل العلمي)

عند الدكتور زغلول النجار وآخرين!

بين أيدينا بحث نقديّ يتناولُ فيه الباحث جواد البشيتي منطقَ التأويل العلميّ عند الدكتور زغلول نجار وآخرين، فيهديه متهكّماً إلى (كلّ من نجحَ الدكتور زغلول النجار ومَنِ اهتدى بهديه في إعماء أبصارهم وبصائرهم حتى ظَنُّوه عَلَمَاً مِنْ أعلام العِلْم، اهتدت على يديه، و”تديَّنَت”، الفيزياء والكوزمولوجيا بنظرياتهما الكبرى.. “أهديه” إليهم لعلَّهم يهتدون، ويُمَيِّزوا الحق من الباطل في قَوْليه العلمي والديني)!.

مع أنّي لست ممن وقعَ في أحابيل السحر النجّاريّ الذي يقلبُ الخشبَ ذهباً بقدرةِ التخلّفِ العربيّ المستحكمِ أيّما استحكام، ومع أنّي لا أرى أيّ نفعٍ للعلم أو للدين أو للإنسان العربيّ، في مقاربةِ النصِّ الدينيّ، من خلال رصدِ القرابةِ الوهميّةِ بينه وبين المنجزات العلميّة؛ بل على العكس، أرى ضرراً من شأنِه تأجيلُ حركةِ العقل في فلك موّارٍ بالنشاطِ العلمي!

ومع أنّي مقتنعٌ بأنّ قراءة النصوص الدينيّةِ أو غير الدينيّةِ ينبغي انطلاقُها بالاعتمادِ على مسبارٍ تكوّنت عناصره من معرفةٍ عميقةٍ باللغة وبأساليبِ القول فيها، ومن ثقافةٍ حرّةٍ متناميةٍ في بيئةٍ علميّةٍ خصيبة؛ لتكونَ قراءةً ذات جدوى في الكشفِ عن الكنوز المعرفيّةِ التي تكنّها النصوص في نواياها، واستثمارها في تعديل السلوك التفكيريّ والحركيّ في الواقع الاجتماعي والكونيّ؛ ومقتنعٌ تماماً، بأنّ القراءةَ مرتبطة أصلاً بالعادات الثقافيّة، وبالنماذجِ الثقافيّة التي ينشأ فيها الفردُ القارئ سواء كانت أشعاراً أو أمثالاً أو حكايات أو رموزاً شخصيّةً أو غير شخصيّة مادية أو معنويّة، لها وجود حقيقيّ أو ليس لها وجودٌ حقيقي، كما ترتبط بالثوابت النفسيّة لديه، وبخاصّةٍ تلك المرتبطةِ بمباعث الأمن أو الخوف، القلق أو الطمأنينة، السرّاء أو الضرّاء......

مع أني كذلك لم أجدْني أوافقُ الطريقةَ التي تعامَل بها الباحث جواد البشيتي مع بعضِ هرطقات زغلول نجار وأشباهه، مع أنّها ترفضُ ما أرفض، إلا أنّها تقبلُ ما لا أقبل، وقد وُفّقَ هذا الباحثُ الجليل والجادّ في إظهار مواطن الضعفِ في مزاعم نجار، كما أنّه قسم بحثه إلى قسمين: تناول في الأوّلِ (التأويلَ) ليرفضه أصلاً وفصلاً، وفي الثاني تناول بعض تأويلات زغلول نجار (العلميّة) ليبيّن تهافتها. وأنّي لست متخصصاً بالعلوم ولا ينبغي لي مناقشةَ الفيزيائيين والجيولوجيين كما ينبغي لأصحاب مذهب التأويل العلميّ للقرآن! إذْ هُم لا يؤوِّلون النصوص الدينيّةَ فحسب، وإنَّما الظواهر الطبيعية، فيُحَمِّلون “النص” و”الظاهرة” معاني لا تمتُّ بصلة إلى معانيهما الحقيقية. لذا سأعمدُ إلى مناقشةِ ما ذهب إليه جواد البشيتي في رفضه للتأويل. وذلك يكون من خلال المناقشة المباشرة، أوردُ رأيَه حرفيّاً ثم أتدخّلُ مباشرةً كلما دعت الحاجة مميزاً نصّي بالخطّ المائل

"الزمان يتمطَّى بملل فوق صخرة ليِّنة..

لقد قرَّر أنْ يضاجع الريح فوق جبال الملح"...

يكفي أنْ نقرأ هذا المقطع مِنْ “قصيدة” حتى نشعر أنْ لا مناص لنا مِنَ الإجابة عن السؤال اللغوي الآتي: “هل لكلِّ عبارة معنى؟”.

نعم لكل عبارة معنى، سواء كان هذا المعنى ضمن الحقول الثقافيّة المعهودة، أو الممكنة، أو خارج تلك الحقول. وقد يكون هذا المعنى تأسيسياً لعالم لا يمكن أن نعثر عليه خارج النص؛ إلا أنّه يحيلُ على الواقع المعاش أو المرجوّ. وإلاّ، لمَ المشابهةُ والاستعارة والكناية؟ أليس العقدُ الذي يجري في الكلام بين طرفين، أحدُهما في رحم النيّةِ والقصدِ، ولا يكون له هيئةٌ معروفة، والآخرُ في عالم الهيئة مفرداً أو مركباً، بسيطاً أو معقّداً، يهدف إلى منحِ الطرف الأوّلِ ما في الطرف الثاني من عناصرَ تصلحُ كي يتهيّأ عبرَها، أو يتمظهرَ بهيئةٍ لا قبلَ للقارئِ بها؟! ألا يمكن عندئذٍ أن نشعر بالمتعةِ أننا على كونٍ جديدٍ من إبداعِ تلك العبارة، فنمضي باتّجاه تحصيلِ الفائدة؟!. كيف لا يكونُ لكلّ عبارةٍ من معنى، أليست هي على النحوِ الذي هي فيه بمقتضى نحوِ المعنى؟!.

قَرَأْتُ أنَّ شخصاً أراد أنْ يَسْخَر مِنْ شُعراء “الشِعر الحديث”، أو مِنْ بعضهم، فأرسل “قصيدة”، منها المقطع المذكور، إلى مجلة أدبية “رصينة”، ظانَّاً أنَّ المجلة ستُلقي بها في سلَّة المهملات، ولكنَّه فوجئ، أوَّلاً، بنشرها، ثمَّ فوجئ بالإعجاب والتقدير اللذين حظيت بهما، فالنقَّاد الأدبيون تسابقوا في اكتشاف ما انطوت عليه “القصيدة” مِنْ معانٍ فلسفية وفكرية عميقة!

صاحبنا لم يكن يتوقَّع أنْ يلقى الغثاء اللغوي الذي أرسله كل هذا الاهتمام والاستحسان والإعجاب، ولكن يبدو أنَّ شيوع “التعقيد اللغوي”، أي تأليف الكلام على وجه يعسر فهمُه، قد جعل لكل كلام مستغلَق، غير مفهوم، سلطانا على الناس، فيقومون، عَبْرَ “إعطاء الكلام دلالة مُعَيَّنَة”، أي عَبْرَ “التأويل”، باكتشاف معانٍ في النص لا وجود لها البتَّة في العلاقة بين “الدَّال”، أي الكلمة أو اللفظ، و”المدلول”، أي المعنى.

إذا كانت العلاقة بين الدالّ والمدلول جاهزةً قبل الكتابة فإنّ الذي ينتجُ من تأليف الدوالّ سيكون جاهزاً، أي مألوفاً وعاديّاً، بل هو كذلك في الحياة اليوميّة عند بائع الخضار والفواكه وفي سائر الحوانيت! أمّا في الشعر فلا بدّ من مفاجأةِ اللغة بإمكاناتها عبر تغيير المدلولات. كيف لا والمدلول عليه في الشعر هو مبتدَع وغير مسبوق، وإذا لم يكن كذلك فلماذا نكتب، ولماذا الشعرُ أصلاً؟ أليس هو التعبير عن رؤيةٍ خاصّة جدّاً؟ وقد تكون تشكّلت في بيئةٍ وجدانيّة تراكمت انفعالاتُ الشاعر فيها حتى بلغت الذروة ؟!

إنَّ أحداً لم يرَ، ولن يرى، “نهراً مِنْ ذهب”؛ لأنْ لا وجود لنهر كهذا، ولكن كل الناس رأوا “النهر”، ورأوا “الذهب”. في هذه الطريقة نقوم بإنشاء “الكائنات الخرافية”، فما مِنْ كائن خرافي إلا ويتألَّف مِنْ عناصر وأشياء موجودة في الواقع، وليست الخرافة سوى “الصلة” التي نقيمها بين تلك العناصر والأشياء، فالنهر “واقع”، والذهب “واقع”. أمَّا الصلة بينهما، أي “نهر مِنْ ذهب”، فهي الخرافة

أليس لهذه الخرافة من معنى؟ فما الذي ألجأ المبدع إلى التأليف بين "النهر" و"الذهب" بواسطة "من"؟ أليس هناك من ضرورة؟ أفلا يعني ذلك أنّ الضرورةَ/ الخرافة، لم يتمّ اللجوءُ إليها إلا لأنّ سواها مِمّا يُزْعَمُ أنّه واقع لا يمكنه أن يقومَ مقامَها؟! والذي لا يمكنُ الاستغناءُ عنه لا يمكنُ أن يكونَ وهمياً؛ بل حقيقيٌّ، فـ" نهر من ذهب " علامةٌ مركّبةٌ تدلّ على حقيقةٍ مكتشَفةٍ حديثاً .

ونحن لو عُدْنا إلى ذلك المقطع مِنَ “القصيدة” لوجدنا أنَّ كل كلمة فيه لها وجود في قواميس اللغة العربية، وأنَّ الناطقين بالعربية قد تواضعوا، أو اتَّفقوا، على الصلة الصحيحة بين “الدَّال” و”المدلول”،

لست أدري لماذا أشعرُ بالهزيمةِ المبكّرة إذا قبلتُ بنظريّة الوضع أو التواضع على الصلةِ بين الدال والمدلول؟! كيف يمكنُ لهذا التواضع أنْ يكون في الوقت الذي نؤمن فيه بأنّ الإنسانَ مسؤولٌ عن معرفته، فهو الذي يسمي الأشياء بهذه الأسماء أو تلك لأنّه رآها كذلك، أو هكذا بدت له تبعاً لموقفه من الكون وأثاثه، ولم تبدُ له إلا تحت تأثير تصنيفاته لها. لقد عمدَ البعضُ إلى اعتمادِ الوضع لتأكيدِ الاعتباطيّة في العلاقة بين الدالّ والمدلول، وجنوحاً إلى السهولةِ في اختيار الطريق الآمنة، فاعتماد الوضع يخلّصُ الباحثين من الشعور بالذنب أنّهم لم يوفّقوا إلى الصلة الحقيقيّة بين الدالّ والمدلول، أي بين الصوت وما يشيرُ إليه، وببساطةٍ نقول إذا كنّا لمّا نقدرْ على ذلك فلا يعني أنّ الصلةَ اعتباطيّة، بل هناك ما يبرّرها ولكننا حتى الآن لمّا نوفّقْ إليه، كيف يمكننا الموافقة على الاعتباطيّة وهناك من يقولُ لنا إنّ هذا التمظهرَ للمرّيخِ مثلاً يحصلَ كلّ سبعينَ ألفَ سنة مرّة، وهذا المذنّبُ يظهرُ مرّةً كلّ مليون سنة.... فهل تكون حركةُ المرّيخ أو ذلك المذنّبِ ضمناً حركةً اعتباطيّة؟ وهل اللغةُ إلا كهذا العالم، بل هي عالمٌ تتحرّكُ أجرامه وتتمظهرُ لأداء وظيفةٍ قد تتكرّرُ وقد لا تتكرّر، ألمْ يصطدم المذنّب "شوميكر" بـ" المشتري" سنة 1996 واندثر،وبذلك فقدَ العالمان "شوميكر" مادّةَ علميهما، فصارت كلّ مفرداتهما بلا قرينةٍ واقعيّة؟ كذلك تكون قد اندثرت أصوات وولدت أصوات، ونحن ما زلنا نستعملها كما ننظر إلى ضوء نجمٍ قد اندثر منذ آلاف السنين. لقد انطوى في هذا الإنسان العالمُ الأكبرُ فإذا كان العالمُ الأكبر عبثيّاً واعتباطيّاً فاللغةُ كذلك، وإذا كان له بداية ونهاية فاللغةُ كذلك، ولا أعتقدُ عندئذٍ أنّها بلا معنى، وكنتُ أعتقدُ أنّ هذا النقاشَ قد حسمَ في العصرِ العبّاسي، عندما بُهتَ أبو العميثل في حضرةِ أبي تمام الطائي إذ قال أبو تمام:

لا تسقني ماء الملامِ فإنني
صبٌّ قد استعذبتُ ماءَ بكائي

فاحتجَّ أبو العميثل طالباً بتهكّم أنْ يملأ له أبو تمام وعاء من "ماء الملام" فقال له أعطيك لو أعطيتني ريشةً من جناحِ الذل في إشارةٍ منه إلى الآية الكريمة واخفض لهما جناح الذلِّ من الرحمة فبُهِت أبو العميثل لأنّه اكتشف ثغرةً معيبةً في قراءته، وللأسف بعد ألف عام نناقش الموضوعَ نفسه، وكأنّ شيئاً لم يطرأ على الواقع يستدعي تغيّراً في عقولنا!؟.
فكلمات: “الزمان”، “تمطَّى”، “ملل”، “فوق”، وغيرها، لها، جميعاً، مدلولات ومعانٍ صحيحة، أي مُتَواضَع عليها. غير أنَّ هذا “الصواب اللغوي” يتحوَّل إلى “غثاء لغوي” نتيجة الصلة غير الصحيحة التي نقيمها بين تلك الكلمات، فالخطأ إنَّما يكمن في “المعنى العام أو المركَّب” لذلك المقطع، أو النص، أو لعباراته وجُمَلِهِ.

إنّ القواميس لا تقدّمُ المعنى الحقيقيّ للعلامة اللغويّة، بل تقدّمُ المعنى الذي تدلّ عليه تلك العلامة في الاستخدام حتى حينه، وإذا كان هذا ما يسمّى تواضعاً أو توافقاً، فلا يعني أنّ شاعرَ "نهر من ذهب" ملزمٌ بما تواضع عليه السابقون، فكما أنّهم رأوا وأشاروا بهذه العلامة إلى ما رأوا؛ فإنّه من حقّ اللاحقِ أن يأخذ العلامةَ نفسها ليشير إلى ما رأى، ويذهبُ النقدُ إلى تعقّب العلّةِ التي أدّت إلى استعمالِ هذه العلامةِ دون تلك.وتحرّي الفائدة المجتناة أو المرجوّة من هذا الاستخدام؟.

في هذه الطريقة في تأليف الكلام، نزاول ضرباً مِنْ ضروب الغش أو التدليس اللغوي،

لست أدري إن كان الأستاذ جواد يستعير هاتين المفردتين من عالم الأخلاق لاستخدامهما هنا في عالم النقد للدلالةِ على آليةِ التمظهرِ اللفظيّ للمعنى الجديد أو ما يسميه "تأليف الكلام"؛ أم أنّه يعدّ الانزياح بالكلمةِ عن معناها المألوف، عملاً غير أخلاقيّ يؤدّي إلى تفلّتِ التأليف من عقالٍ يعرفُه بحكم العادةِ والتقليد؟.

فنُسْقِط على “النص” معنىً لا وجود له البتَّة، ولا يمكن أنْ يكون موجوداً، في “ذات النص”، وكأنَّ الكاتب مِنْ هذا النمط يبحث عن “النجاح” في العبارة المستغلَقة غير المفهومة، أي في العبارة التي تَخْرِق قانون “التواضع اللغوي”، وتُقَوِّض العلاقة بين “الدَّال” و”المدلول”.

وهل الإبداع شيء آخر غير تقويض العلاقة التقليديّة بين الدالّ والمدلول؟
لو قُلْتَ “شربتُ ماءً بارداً” لكان قولكَ متَّفقاً كل الاتِّفاق مع قانون “التواضع اللغوي”. أمَّا لو قُلْتَ “أكلتُ ماءً مثلَّثاً” لخَرَقْتَ هذا القانون أسوأ خَرْق.
إنّ الكلمات في رحلتها عبر الزمن تخسر الكثير من معانيها، وتكسب الكثير من المعاني الجديدة، وهذا يعود إلى تجربة الأمّة الحضاريّة، فإذا كانت الأمّة متجدّدة فإنّ لغتها تتجدّد معها باستمرار، أما إذا كانت الأمّةُ مصابة بالهوس الماضوي فإنّ لغتها سيعلوها الغبار حتى أنّ الأجيال الجديدة ستبدأ بالعزوف عنها إلى لغاتٍ أكثر طواعية.

ومِنْ ضروب الغش أو التدليس اللغوي، أيضاً، أنْ تُدْخِل في الكلمة “معنىً غريبا”، أي معنىً يقوِّض العلاقة المتواضَع عليها بين “الدَّال” و”المدلول”، في سبيل أنْ تُسقِط على “النص” التفسير الذي تريد. إنَّ كل الناس يعرفون المعنى الأم أو الحقيقي لكلمة “نار”، مثلاً. وأنتَ، على سبيل المجاز، تستطيع أنْ تجعل لهذه الكلمة معنى “الشوق”، أو “الانتظار”، مثلاً، ولكنَّكَ لا تستطيع أنْ تقول إنَّ “الماء” مِنْ معاني كلمة “النار” مِنْ غير أنْ تقوِّض الصلة الطبيعية بين “الدَّال” و”المدلول”، وتَخْرِق قانون “التواضع اللغوي” أسوأ خَرْق.

“الكلمة” يجب أنْ تُسْتَعْمَل، عند تأليف الكلام، لتؤدي “معناها الحقيقي”، أو “معناها المجازي”. يترتَّب على ذلك، أوَّلا، أنْ يكفَّ أهل الفكر والقلم عن دسِّ معانٍ في الكلمة لا تمتُّ بصلة إلى معانيها الحقيقية المتواضَع عليها، ثمَّ يترتَّب عليه أنْ يجيء “المعنى المجازي” للكلمة مستوفياً لشروطه، فإنَّ “الشوق” لا يكون مِنَ المعاني المجازية لكلمة “النار” إلا إذا كان بينه وبين النار مِنْ أوجه الشبه والتماثل ما يجيز هذا الاستعمال المجازي، فأنتَ لا تستطيع أنْ تقول إنَّ “الماء” مِنَ المعاني المجازية لكلمة “النار” لانتفاء أوجه الشبه أو التماثل بينهما.

لماذا؟ أليس بوسعك أن تقول شربتُ النار بالقبلات من روحها الهائم في سماء القلب ليلة الوداع؟.

“الكلمة” هي “الدَّال”، أمَّا “معنى” الكلمة فهو “المدلول”. وإنَّ لكل دالٍ مدلوله، الذي إمَّا أنْ يكون حقيقياً، وإمَّا أنْ يكون مجازياً، فلنتحرَّ المعنى الحقيقي، ولنستوفِ شروط استعمال الكلمة في معناها المجازي، فبهذه الطريقة فحسب تكون الكتابة “أرقى أشكال التفكير”، وتستقيم العلاقة بين “النص” و”التفسير”، بين “الكلمة” و”المعنى”.
إنّ أرقى أشكال التفكير يا عزيزي هو التفكير المتمرّد على القوالب الجاهزة، وهو التفكير المغامر في عوالم مجهولة، حيث يفاجَأ الفكرُ على الدوام بما لا قِبَلَ للكلام السّائد والموروث به، فالمعاني غير متناهية في تلك العوالم البِكْر، والمفردات متناهية، فكيف يكون للمتناهي أن يحيط باللامتناهي من دون الإساءَة إلى الحرّية التي هي أعلى درجات الرقي في التفكير؟ أو كيف يمكن أن نَسِمَ الأفكار الناجمةَ عن المركبات الجاهزة بالرقيّ وهي محاصرةٌ بقيم التعبير الابتدائيّة؟

تفسير النصوص الدينية على غير ظاهرها، أي البحث عن “المعاني الخفيَّة” وراء “المعاني الظاهرة” في الكلام، والمغالاة في ذلك، هو “التأويل”، الذي قد يُفْسِد ويشوِّه “المعنى الحقيقي” للنص الديني، الذي لا يحتاج إلى “التأويل”، فالتفسير خيرٌ وأبقى، ويجب أنْ يظل غاية الباحث والبحث. غير أنَّ بعض الناس يحتاجون إلى “التأويل”، الذي مِنْ خلاله يعزِّزون ويقوُّون وجهة نظر معيَّنة، لهم مصلحة في تعزيزها وتقويتها، ولو كان تشويه “الحقيقة” هو عاقبة عملهم. هذا موقفٌ إيديولوجي غير معزّز بالتفكير.

“تأويل النصوص الدينية”، والذي يضر الدين ولا يفيده، قام على ركنين أساسيين: “اختراع” معنى لغوي جديد لـ “الكلمة”، أو التطرُّف في “التفسير المجازي” للنص، فيُفَسَّر الكلام كما تُفسَّر الأحلام، فـ “البقرات السبع السمان”، و”البقرات السبع العجاف”، في “النص الديني”، تغدو، في “التأويل”، “سنوات ممطرة”، و”سنوات عجاف”، فيؤوَّل هذا النص كما تؤوَّل الأحلام.

لقد نزل القرآن بلسان عربي مبين، فانتفت الحاجة، بالتالي، إلى “التأويل”و”المؤوِّلين”، فكل مَنْ قَرَأَهُ مِنَ العرب في الجاهلية كان يفهم معاني كلماته وعباراته ونصوصه فهماً جيِّداً.

لست أدري كيف يرى الأستاذ جواد أنّ العربَ قد فهموا القرآنَ الكريمَ فهماً جيّداً بلا تفاوتٍ بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، في ما القرآن الكريم يقول: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ أفلا يكون من عرب الجاهليّة مَنْ همْ بعضُ هذا الكثير، وبخاصةٍ أنّ منهم الأعراب الأشدّ كفراً ونفاقا، ويجدر بهم ألا يعلموا حدود ما أنزلَ الله؟.

و”المؤوِّلون” قرَّروا أنْ يُفْهَم “التأويل” على أنَّه “التفسير” المتأتي مِنْ اجتياز المعنى الواضح للكلمة، أو للكلام، إلى المعنى الذي يريده، ويحتاج إليه، “المؤوِّل”. إذ ثَبُتَ وتأكَّد، على سبيل المثال، أنَّ الأرض “كروية” قام “المؤوِّلون” بإدخال معنى لغوي جديد في كلمة “الدَّحْوُ”، هو “التكوير”، فـ “دَحْوُ” الأرض ما عاد يعني “بسطها”، وهو المعنى الحقيقي للكلمة. أصبح يعني، عَبْرَ “التأويل”، جَعْلها كـ “الكرة”.

واضحٌ أن الأستاذ جواد لا يميّزُ التأويلَ من التقويل، فهو محقٌّ في رفضِه لهذا التعسّف بحقِّ المفردات عندما يتمّ إكراهُها على قول ما لا ينبغي لها أن تقولَه، فهو في طريقِه لإظهار تهافت هذا الإكراه نسفَ الأسس التي يقوم بها إنتاجُ المعاني، وأعلَمُ أنّ مردَّ ذلك لكونِه ظاهريّاً، وأنا لا أنكرُ عليه حقَّه في أن يكون ما يريد، ولكنّ علومَ اللغةِ قد تطوَّرت كثيراً وصارَ بإمكانِه أن يعزّزَ معارفَه أكثر، وينطلقَ من كونِ الظاهرة الأسلوبيّةَ في النصِّ ليستْ اعتباطيّةً ولا تواضعيّةً إنّما هي كذلك لتؤدّيَ المعنى الذي لا يمكن أنْ تؤدّيها ظاهرةٌ أسلوبيّةٌ أخرى، ولست في موقع يخوّلني الإملاء على أحدٍ كيف يقرأ نصّاً أو كيف يتعامل مع نصّ، بل يحقّ لي أن أرفضَ طريقةً في القراءة لا يمكنها – بحسب قناعتي – أن تفي بالغرض، أو أن أقبلَ طريقةً أخرى أرجّحُ إمكانها الإيفاءَ. وتأسيساً على ذلك أقولُ بأنّ المفردةَ في موقعِها لا يمكن أن تشيرَ إلى المعنى إلا من خلالِ علاقاتها الكيميائيّة مع مفردات أخرى في السياق، وبالتالي لا يمكن أن نبلغَ مدلولاتها، بوصفنا قرّاء، إلا من خلال تفكيك السياقِ والتعرّفِ على العناصرِ بمعانيها التعيينيّةِ والتضمينيّة، التي تكونُ لها من خلال حياتها في الجماعةِ اللغويّة، وبما أنّ هذه العناصرَ ستنتقلُ على الدوامِ من سياقٍ إلى آخر؛ فإنّها بلا شك ستتغيّرُ مدلولاتها، ولا يعني هذا أنّها ستنقطعُ صِلتها بتاريخها المعجميّ أو الاجتماعيّ، وهذه القراءةُ التأويليّة لا تقبلُ التعسّفَ في تقويلِ المفرداتِ ما لا تريدُه في مواقعها.

وفي الموقف مِنْ هذا “التأويل العلمي” للقرآن، لا أرى موقفاً أصح مِنْ موقف أبو أسحق الشاطبى المتوفى سنة 790 هجرية، فهو يرى “أنَّ كثيراً مِنَ الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل عِلْم يُذْكَر للمتقدِّمين أو المتأخِّرين مِنْ علوم الطبيعيات، والمنطق، وجميع ما نَظَرَ فيه الناظرون مِنْ أهل الفنون وأشباهها. وهذا ليس بالصحيح. ثمَّ أنَّ السلف الصالح مِنَ الصحابة والتابعين ومَنْ يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبكلامه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنَّه تكلَّم أحد منهم في شيء مِنْ هذا المدَّعى.. ولو كان لهم في ذلك خوض ونظرة لبلغنا ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أنَّ ذلك لم يكن، فدل على أنَّه غير موجود عندهم..”. هذا الرأي السديد هو الذي ينبغي لكل المفكِّرين الإسلاميين التزامه، فـ “التأويل العلمي” لآيات قرآنية إنَّما هو تطاول على الدين والعِلْم معاً.

نعم،“التأويل العلمي” لآيات قرآنية إنَّما هو تطاول على الدين والعِلْم معاً، ولكن ليس لأنّ الشاطبيّ رفض ذلك! ولا لأنّ الأستاذ جواد يؤسس رفضَه على ما قاله الشاطبيّ؛ بل لأنّ ما يدعى بـ" التأويلِ العلمي" هو فعلاً تطاولٌ على النصّ الديني والعلميّ على السّواء. وهو محاولةٌ للخروجِ بالنصِّ الدينيّ عن مقاصده الحقيقيّةِ في تقويم السلوك الاجتماعيّ وفق معيارِ الصلاح الذي يدعو إليه ويبيّنه في تلافيفه، مؤيداً بالحجج التي تتناسبُ مع قدرة المتلقّي.

وهو محاولةٌ للخروج بالنصِّ العلميّ عن كونِه سياقاً تتمظهرُ فيه خلاصةُ التجربةِ البشريّة في الطريق إلى المعرفة، إنّه نصٌّ قابلٌ للتعديل كلّما تقدّمت التجربةُ البشريّة، وكلما طرأت طارئةٌ في هذا الكون سواء أكانت اكتشافاً، أو كشفاً جديداً يبدّلُ الرؤية.

النصّ الدينيّ جوابٌ عن أسئلةِ الإنسانِ المقلقة، وكذلك النصّ العلميّ، إلا أنّ النص الدينيّ مصدره الوحيُ، بينما النصُّ العلميّ مصدره العقلُ في علاقته المباشرة مع الكون، وعليه فإنّ النصّ العلمي لا يدّعي أنّه نهائيّ، بينما النصّ الديني نهائيّ، ولا يمكن لما هو راهن أن يضبط ما هو نهائي.
حجّةُ الشاطبيّ لرفضِ هذا النوع من التأويل أنّ السلف الصالحَ لم يكنْ لهم خوضٌ ونظرة في هذه المسألة، وهل هذا كافٍ؟! فهو يعدّهم أعرفَ بالقرآنِ وكلامه وما أودع فيه!

وحجة جواد البشيتي أنَّ رأي الشاطبيّ رأيٌ سديد وينبغي لكلّ المفكّرين الإسلاميين التزامه، وبالطبع هو مفكّرٌ إسلاميّ يلتزمه.
نحن لا نقبلُ حجّةَ الشاطبيّ لأننا نؤمن بأن الحياة في تقدّمٍ مستمرّ، وأنّ الإنسان يهجم على نصٍّ يبحثُ في ثناياه عن مطلوبِه الذي اقتضته تطوراتُ حياتِه، وإذا ما التزم الذي جاءَ به السلفُ الصالحُ فهذا يعني أنّه يعزف عن الامتثال لمتطلّباتِ حياتِه، وهل يعتقدُ المفكّرُ الإسلاميّ أنّ الحياةَ كانت في مرحلةٍ من الزمن وعلينا أن نكرّرَها بكلّ تفاصيلِها؟!.

وأخيراً، آملُ أن لا أكون قد أسأت إلى أحدٍ في تناولي جهودَ الباحث جواد البشيتي، كما آملُ أن يحسبَ هذا الردّ فاتحةَ نقاشٍ واسعٍ حولَ هذا الموضوع بهدف تبرئةِ النصِّ الدينيِ من كلِّ ما ينسبُ إليه بهتاناً وزوراً. والله من وراء القصد.

عند الدكتور زغلول النجار وآخرين!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى