الاثنين ١٤ أيار (مايو) ٢٠٠٧

جدل الأسطورة بين الرجل والمرأة

بقلم : جعفر حسن

الأسطورة نص مركب من إنتاج العقل البشري، وكما يبدو أنها كانت تعبر بشكل ما عن الإنبثاق الأول للوعي بالأيديولوجيا، والتي شملت محاولة لتفسير بعض مظاهر الوجود الكوني والبشري والسيطرة عليهما من خلال دمج المكونات الثلاثة المنتجة في العقل البشري والحاضرة على شكل (السحر، الفن، الفلسفة).

فالسحر باعتباره طقوسا تمارس للسيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه من مظاهر الطبيعة أو لاستجلاب قوى خارقة لضمان تحقيق غرض حياتي. والفن باعتباره متعة للروح، قابلة لإختزال الوجود في صورة متجاوزة، ولذا ربما كانت الاسطورة تستقر معمارا في كيانه، وهو يضمن لها البقاء في الذاكرة بإيقاعاته، بينما يمساك بتلابيب الكلي والشمولي، كما جعلت النص قابلا للتكرار بحفره في الذاكرة، التي جعلت من إمكانية استعادته قريبا من الأصل ممكنا.

مفاتيح الوجود

كلما كانت هناك حاجة لتسخير النص الاسطوري كنوع من السيطرة على مظاهر الكون الكلية، وإضفاء نوع من التنظيم على العلاقات بين عناصر الوجود كما تنعكس في الوعي كعلاقات متشابكة بين أبنائه من جهة، وبينهم وبين مظاهر الوجود المختلفة من الجهة الأخرى، كما ضمنت لها الفلسفة جانبا من التماسك الداخلي كان ضروريا لمجموع المؤمنين بها.

إلا إن هناك من يحاول أن يتعامل مع الأسطورة كتاريخ مكتوب، وهي بالتأكيد ليست كذلك، ولعل هناك امكانية من تداخل التاريخي بالاسطوري، وإن كانت في ذاتها تعبيرا عن مقدس ما يحاول من خلاله المجتمع أن ينظم بعض العلاقات التي تحكي قصتها الأسطورة، برواية تلك الكيفيات التي مورست فيها الطقوس الأولى، وبالتالي إيجاد آليات محددة للحفاظ على تلك التقاليد المتوارثة.

زمن الاسطورة

على إن الأسطورة تحمل زمنها الخاص الداخلي الذي يعبر عن زمن مقدس ما ـ (زمن الفطحل في الأساطير العربية للخلق) ـ حدثت فيه الأشياء بشكل سرمدي غير قابل للتغير والتبدل، ولها زمن خارجي قد تدخل فيه بعض الأحداث التاريخية، لكنها تتخلى عن تاريخيتها بمجرد صيرورتها جزء من الأسطورة، وربما تحكي عن تحولات العبادة أو سيادة آلهة خارجية على آلهة محلية .. الخ، ولها زمن يتعلق ببقائها هي ذاتها في دائرة المقدس وبفناء المعتقدين بها أو تحولهم إلى غيرها من الأساطير تخرج من دائرة المقدس إلى ما نعرفه من القصص الأسطوري.

وبالرجوع إلى تلك الملامح الأولى التي أوردناها سابقا يمكن أن نشير إلى ما كتب عن المجتمع الأبوي في محاولة لإيجاد جذور لذلك المجتمع من خلال تلك التصورات التي انعكست في الأسطورة السومرية القديمة، والمعروفة للجميع بأسطورة جلجامش، بينما تحمل الأسطورة الأوسع (الانوما الشا) الاسم الأكثر شيوعا لتلك الأسطورة باعتبارها تتطابق مع وجود كائنات ما ورائية تلعب أدوارا في عملية الخلق.

فقد كتبت غالية خوجة ما نصه:"ترى ما هي جذور المجتمع الأبوي ؟ هل تكمن في أسطورة جلجامش الذي سعى إلى مسح الشر المرموز له بـ ((جواوا الرهيب)) ناسيا إن ((انكيدو)) هو جزؤه النفسي الآخر الذي تضامن معه، وتشكل فيه، ومسح المجتمع الامومي، وذلك حين انتصر إلى ((شمس)) كرمز للذكورة على ((ثور السماء)) كرمز للأنوثة ؟ ". ولنا أن نسجل ضمن ما أثارته الفقرة السابقة من أمور أصبحت ألان من القضايا المتعارف عليها في علم الانثروبولوجيا الحديث، والذي يرى إن المجتمعات الإنسانية لم تعرف المجمعات التي استتبت فيها السلطة الذكورية عبر النسب إلا وعرفت في ذات الوقت مجتمعات أمية النسب في المقابل حتى فترات قريبة لازالت شفراتها موجودة في افق التراث الانساني واصدائها اللغوية وغيرها تتردد، وإن كانت تلك المجتمعات منفصلة عن بعضها البعض في السابق، ولكنها كانت معاصرة لبعضها البعض.

ولم يسد المجتمع الذكوري كما هو الآن إلا مع زيادة فاعلية وسائل الاتصال البشري واقتراب البشر من بعضهم البعض اكثر واكثر في مستويات التطور، وبسيادة أنماط اقتصادية محددة، بينما قبل خمسمائة أو ستمائة عام على اكثر تقدير كانت هناك قبائل لا تزال تعيش في أطوار سابقة للحضارة كما عرفها العالم القديم في الأمريكتين، فوجدت قبائل فيما مضى من الزمان أمية النسب إلى جانب قبائل أبوية على حد السواء، كما كانت وما تزال المرأة تعيش جنبا إلى جنب مع الرجل في المجتمعات المعاصرة، ولكن الأساطير سجلت بالتأكيد ذلك التحول التاريخي الكبير من النسب ألامومي إلى النسب الذكوري في أساطيرها التي حفظت في المجتمعات التي اتسعت فيها القبيلة التي تعتمد في أساسها على قرابة الدم، للتتحول إلى الدولة بمعناها التاريخي .

ومع إن الأسطورة تشير إلى خلق الثور السماوي من قبل آلهة أنثوية ومقتله على يد البطل الذكر (جلجامش ) انتصارا للآلهة الذكورية، إلا إنها ربما تعكس بشكل اكبر تلك العلاقة القائمة بين المرأة (التي تلد الذكور) والذكر، تلك العلاقة التي تشكلت بطبيعتها في خضم الصراع على التسيد الاجتماعي في المجتمعات القديمة، على إن الأسطورة ذاتها هي التي تبرر دخول البطل الموازي (انكيدو) للمدنية وتحوله من صورته الوحشية بواسطة البغي المقدسة إلى صورته المدنية، وبالتالي تشير رمزية الأسطورة إلى دور المرأة في إدخال البطل (الذكر) إلى الحياة المدنية، والتي عاتبها (انكيدو) عليه عتابا مرا حين مرض مرضه الأخير، مستشعرا ركام سحب الفناء بتنامي وعيه، وامتداد ملذاته التي كانت إلى انتهاء كما ورد في الأسطورة.


الجانب الاخر من الظل

أما النقطة الثانية التي نود إن نشير إليها باختصار، هو إننا حين نتناول الأساطير القديمة فأنه يسرنا إن نتناول تلك الأساطير اليونانية أو السومرية وربما أساطير غيرها من الحضارات التي قام المستشرقون والغربيون بالعمل عليها في كل من القطاعات المختلفة للنمو المعرفي العلمي لديهم، بينما يبتعد المثقفون عندنا عن تلك الحكايات التي تواترت في كتب التراث عن آلهة مذكرة ومؤنثة جاهلية مثل اللات والعزى ومناة، وكلها أسماء مؤنثة لغة بينما يقف هبل رمزا للاسم المذكر، وهو إله قريش الأعظم إله التجارة والحظ وحامي المسافرين.

ولعل ذلك مرده فيما نرى إلى أننا لم نستطع بعد لم شمل تلك القصص التي كانت تتوارد عن العرب الجاهلين عن تلك الآلهة وأدوارها في عملية الخلق أو غيرها من أدوار تتحكم في قوى الطبيعة، كما تشير الحكايات إلى اسم الإله (حداد) إله المطر والرعد والبرق، وربما نجد تفسيرا معقولا بعد هذا ير على التساؤل المنطلق عبر (لماذا كان العرب يميزون اسم الرعد عن صوته؟) (الهزيم)، وبالتالي فإننا نعتقد بأننا لم نقف في احسن الأحوال إلا على نتف من الأساطير العربية الناتجة عما يمكن إن نطلق عليه أسطورة مركزية متشظية، أو لعله لم تكن هنا أسطورة بالمعنى الذي حدده الغربيون، إذ لا تخضع الأساطير في الثقافات المختلفة لذات النمطية الواحدة التي تعكس بنية ثابتة يمكن ملاحظتها في كل الأساطير المعروفة في العالم القديم أو الحديث، وبالتالي فأن ما ينطبق على الأساطير الغربية لا ينطبق بالضرورة على أساطير العرب الجاهليين.

اتضاح الواضح

بينما يخاف الكثير من الباحثين والمثقفين الخوض في هذا الغمار لما يحوطه من أجواء ترتبط في داخلها بالمقدس المعاصر، والذي يشكل العمل عليه إثارة لحساسيات ربما تكون مفرطة في بعض جوانب ردود فعلها، إلا أننا يمكن أن نشير في هذا الصدد إلى إن العرب الجاهليين قد عرفوا آلهة مؤنثة كما عرفوا آلهة مذكرة كما في قصة الإلهين آساف ونائلة، وهما الرمزان الكبيران لطقوس الخصب عند العرب الجاهليين.

كما يحوي التاريخ العربي بقايا من النسب الأمي الذي كان يمارس في حياة العرب الجاهليين الغابرة من خلال الأسماء المشهورة التي وصلتنا لبعض الملوك الذين تسيدوا في القبائل العربية في العصر الجاهلي، كما هو اسم (عمرو بن هند)، وهند معروفة في القصص عند النسابة العرب على إنها أمه وهو ينتسب من حيث تركيبة الاسم إليها، ولا ينتسب لأب معروف بالرغم من انه ملك من ملوك العرب على القبائل القديمة، وربما تشير القصة بشكل اكبر إلى ممارسة البغاء المقدس في تلك الاعصر القديمة، وما ينتج عنه لا يعتبر في الأعراف القديمة على انه عيب وعار بل هو فخر لا تتردد بعض كبار البيوتات العريقة والملكية في فعله على اعتبار انه طقس ديني مقدس في سبيل إرضاء الآلهة .. الخ .

وربما تعكس اللغة العربية أحد جوانب تلك العلاقة المتوازنة في التاريخ بين القبائل ذات النسب الأمي وتحولها للنسب الذكوري، فنجد إن اللغة العربية تكاد أن تنقسم إلى قسمين في أسمائها متساويين بين المذكر والمؤنث، على الرغم من عدم وجود إحصائية دقيقة في هذا الصدد، إلا أننا نستطيع أن ندرك معقولية الطرح في ممارستنا اللغوية باعتبارنا منتمين إلى ذات اللغة وناطقين بها، وبالتالي نخلص من كل ما سبق إلى تلك العلاقة الجدلية الموجودة بين المرأة والرجل في الأساطير العربية القديمة.

بقلم : جعفر حسن

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى