الخميس ٢ حزيران (يونيو) ٢٠١١
صباحكم أجمل
بقلم زياد الجيوسي

جنين.. سحر وقصة عشق

(الخفقة الثالثة)

هي جنين ورباها ما زالت تواصل سحرها التلقائي، وما زالت تسكب على روحي من الجمال ما يدهشني، فأنظر إلى هذه الروابي والتلال، وأتساءل بيني وبين نفسي: لمَ يذهب الكثيرون ممن يمتلكون المال للسياحة في الخارج ويتركون هذا السحر الخلاب؟

متحف التراث الفلسطيني في قرية حداد وعدستي

أكملنا الطريق باتجاه قرية حداد، وهي مشروع سياحي جميل ومتميز، فجلنا ومضيفيني ومرافقي جولتي المهندسة دينا حمدان مديرة مركز محمود درويش، والعزيز كفاح سرور، رحاب هذا المشروع الخاص الرائع، والذي مثل على هذه التلال المطلة والساحرة نقطة جذب سياحية، وموقع لراحة النفس من خلال أقسامه المختلفة وحدائقه، فمن المسارح وقاعات العرض المغلقة والمفتوحة، إلى برك السباحة النظيفة، بدون إغفال حديقة كبيرة للهو الأطفال والترفيه عنهم، وصولاً إلى فندق نظيف وراقٍ، و(شاليهات) مرتبة لمن يرغب أن يعيش أياماً من الخصوصية، وحدائق غناء واسعة، حتى أن أصحاب القرية لهم بيوت رائعة الجمال والتصميم في القرية نفسها، ولعل الأهم هو وجود متحف للتراث الفلسطيني في القرية على مساحة جيدة، يضم لوحات تمثل صوراً لكل أحداث المنطقة تقريباً، وصور العملات الفلسطينية المستخدمة قبل الاحتلال، إضافة إلى تماثيل تمثل الحياة الشعبية والأزياء التي كانت مستخدمة وتصورها، فمن صناعة الفخار حتى النجارين، مروراً بكل ما يخطر في البال من أدوات تراثية كانت مستخدمة، ومهن كانت منتشرة، فغمرني الفرح وأنا أجول وألتقط الصور، فالكثير منها أذكره في طفولتي، حتى أن الشاب الذي جال فينا أنحاء المتحف سرّ أيما سرور، وصافحني بحرارة حين أنهيت الجولة، متمنياً أن آتي لزيارة أخرى، فقد أعجب بالقصص التي رويتها عن أشخاص مارسوا هذا التراث في طفولتي، وما زالت ذاكرتي تحمل من حكاياتهم الكثير.

غابات جلقموس وسحرها وعدستي

من قرية حداد وجمالها انطلقنا إلى (تلة عابا)، ومن فوق التلال الأثرية كنا نرقب جنين من هذا الارتفاع، والقرى المنتشرة على التلال كنجوم منتشرة ومتلألئة في ليلة ربيعية، لنجول بعدها بين الأشجار والغابات فنصل إلى موقع كان يسيطر عليه الاحتلال ويزرع فيه مستوطنة كان يسميها (جانيم)، في محاولة لسرقة الاسم الأصلي لجنين الذي أسماها إياه أجدادنا الكنعانيون حين أنشأوها وسموها (عين جانيم) ومعناها عين الجنائن، وقد جرى الانسحاب من المستوطنة ضمن الاتفاقيات السابقة، فأتاح هذا الحركة للمواطنين بعد أن كانت المناطق بأكملها محرمة على أبناء الأرض، لنتجه بعد ذلك مباشرة إلى غابات بلدة (جلقموس) في طريقنا لمعانقة جنين من جديد بعد هذه الجولة الطويلة، وهذه البلدة تقع في موقع استراتيجي متميز، واسمها مشتق من اللاتينية وتعني أميرة التلال أو الوردة الحمراء، وهي تربط بين عدة بلدات في شرق جنين، منها بلدات (المغير وأم التوت والمطلة إضافة إلى قربها من قرية حداد السياحية والجامعة العربية الأمريكية)، ويوجد بالقرية العديد من الآثار التي تدل على تاريخها وعراقتها، ولعل ارتفاعها وإحاطتها بالأودية منحها مناخاً متميزاً، وحين مررنا بغاباتها شعرت بكم السحر الذي سكبته على روحي، وشعرت كم نحن مقصرون تجاه وطننا كمؤسسات وأفراد.

أنهيت اليوم الأول من زيارتي لجنين، وعدت في المساء إلى بيت الضيافة لألتقي بأصدقاء قدامى، فقد زارني صديقي أحمد العبوشي الذي لم أراه منذ سنوات طوال برفقة أصدقاء آخرين، لأفاجأ بولده عباس وقد أصبح شاباً يافعاً بعد أن تركته طفلاً، فهمست له: الآن أشعر أن والدك قد شاخ، أما أنا فأعتقد أني ما زلت شاباً، لذا سنكون أنت وأنا أصدقاء، وضحكنا واحتسينا القهوة في مقهى خاص بالشباب، ونمت تلك الليلة بعمق بعد جهد الرحلة من رام الله والتجوال الذي لم يتوقف طوال النهار.

السوق التراثي وعدستي

في الصباح كنت أصحو مبكراً، وبعد احتساء القهوة وشدو فيروز والحمام الصباحي، كنت أغادر بيت الضيافة لأجول الشوارع منفرداً، ألتقط الصور وأتحدث مع الناس، فاستمعت لهموم المواطنين وشكواهم من العديد من الأخطاء، فالسوق القديم يحتاج إلى عناية كبيرة، فهو سوق تراثي وشعبي، والمفترض أن يأخذ دوره كقبلة سياحية في البلدة، وأن يكون له دور مشابه لدور الأسواق الشعبية والتراثية في المدن العربية كأسواق الحميدية في دمشق، أو خان الخليلي في القاهرة وغيرها، فمدخل السوق من تحت المبنى القديم المستخدم كمكتبة للبلدية، لكن لا توجد يافطة تدل عليه، إضافة إلى أن الدرجات القليلة للدخول إلى السوق تقف أمامها باستمرار سيارة مرتفعة تعود للأمن، ما يحجب الرؤية من جانب عن السوق، ولا يجعل الزائر ينتبه لوجود السوق، فأنا في البداية ظننت أن الموقع هو موقع أمني يحرسه الجنود والدورية، فآمل أن تأخذ الدورية مكاناً آخر يبتعد ولو قليلاً عن مدخل السوق، وأن يطور المدخل حتى يشير فوراً إلى أن الموقع سوق تراثي وشعبي، وقد همس لي العديد من التجار أن السوق يفتقد دورات المياه رغم وجود زوايا يمكن أن تستخدم لهذا الغرض مقابل رسوم تغطي نفقاتها، كما أن السوق يفتقد الإضاءة ما حول بعض الزوايا المعتمة فيه وخصوصاً ليلاً إلى مكاره صحية، وأن شركة الكهرباء رغم أنها تأخذ ضريبة مقدرة بنصف شاقل شهرياً بدل إضاءة، إلا أنها لم تصلح خط الكهرباء المعطل، ولم تصلح (كابلات) الطاقة، ولم تغير (لامبات) الإضاءة التالفة، كما أن البلدية وعدت بسقف السوق ولم توفِ بوعدها، والعديد من المحلات حرقت ودمرت بالاجتياحات الإسرائيلية، ولم يعوض أصحابها إلا بمبالغ رمزية جداً، كما أن الاهتمام بتوجيه الوفود التي تزور المدينة لزيارة السوق معدوم، وفي حالات قليلة يأتي بعض الزوار مع المسؤولين في زيارات سريعة، وهذا أدى لإضعاف دور السوق وإمكاناته، فأصبحت نسبة كبيرة منه مغلقة ومستخدمة كمخازن، رغم تاريخية السوق الذي يعود لفترة (فاطمة خاتون)، وتوارثه الأبناء عن أجدادهم، والسيدة فاطمة خاتون هي ابنة محمد بك بن السلطان الملك الأشرف قانصوة الغوري وكانت زوجة للوزير لالا مصطفى باشا في عهد المماليك، أعدت وقفيتها المشهورة سنة 974هـ /1566م وتعتبر وقفيتها من أوسع الوقفيات في التاريخ الإسلامي من حيث مساحة الأرض، وقد أوقفتها على ذريتها ثم أصبح وقفاً عاماً بانقراض الذرية، وقد تركت أثاراً كبيرة في جنين حين مرت بها، بما في ذلك المسجد الكبير الذي سأتحدث عنه لاحقاً.

مدخل لشارع تجاري والفوضى تجتاحه وعدستي أيضا

ملاحظات المواطنين كانت كثيرة، ولعل من أهمها الحفر في الشوارع وافتقاد معظم الأماكن لسلال وحاويات القمامة، وأن (البسطات) في مدخل السوق التجاري وسوق الخضار تحد من الحركة وتحتل الأرصفة، وتؤثر على المحلات التجارية التي تدفع الضرائب والأجور، وقد استمعت لشكاوى متعددة منها أن هناك مدرسة شارعها غير معبد، وأن المدينة تعاني من مشكلات صحية ومشكلات في النظافة، إضافة إلى مشكلات التعليم والبنية التحتية، وأن أسلوب الترقيع لم يعد يجدي، والمدينة بحاجة إلى مشروع متكامل يحل كل مشكلاتها، خصوصاً أن المدينة تواجه شبح أزمة مياه في هذا الصيف، بعد تعطل مضخة البئر الأساس الذي يزود المدينة بالمياه، وأظن أنه بئر السعادة، حيث تعطلت المضخة التي عمرها عام واحد رغم أنها حديثة وكلفت الكثير، وذلك بسبب سوء الإدارة، إضافة إلى تعطل مضخات مياه أخرى، وقد همس لي أحد المواطنين بقوله: المواطن جريح ومتألم، ولكن لديه طاقة على الصبر، ولكن.. إلى متى؟

مكتبة بلدية جنين وعدستي

أنهيت جولتي وواصلت المسير إلى مركز محمود درويش، ومن هناك إلى مكتبة البلدية برفقة المهندسة دينا حمدان، حيث استقبلتنا السيدة ماجدولين حنتولي وزميلتها نهاية فحماوي، وقد تجولت السيدة ماجدولين معي في أرجاء المكتبة، والتي لاحظت أنها تحتاج إلى توسعة وتطوير، ففي عهد بدأنا فيه وهو مرحلة الثورة الرقمية، يجب أن تطور المكتبات بما يتناسب مع هذه الثورة، إضافة إلى أن الدرج الذي يصعد للمكتبة درج قديم ومتعب جداً، وهذا ما يعيق صعود الأطفال من جانب وكبار السن من جانب آخر. وبعد أن أنهينا الجولة احتسينا القهوة مع مدير المكتبة الأخ إسلام معروف وتحدثنا في هموم الثقافة، وبعد إنهاء الجولة طلبت الإذن أن اذهب للراحة قليلاً استعدادا لأمسيتي الأدبية في مؤسسة الكمنجاتي خصوصاً أن الجو كان حاراً جداً على غير عادة.

صباح عابق بجمال جنين وروعة أهلها، أستعيد ذاكرة أمسيتي في جنين واللقاء الرائع مع أهلها ومثقفيها وجمهور من قرائي، وجولة أخرى لبلدة عرابة وسهلها العامر والخصب، وهذا ما سيكون له حديث لاحق في الخفقة الرابعة من خفقات قلبي وجنين، وأهمس لطيفي: سأعترف.. لقد عشقت جنين، فصباحكِ جنيني أجمل وروحك تجالسني قهوة الصباح، وأنظر لأفق عينيكِ، فأنقش على شلال شعر منسدل على الكتفين قصائد عشق وحب، لرائعة هناك في البعيد وهنا هي روح ترافقني السفر وتذوق الجمال، فيهمس طيفي: شكراً لأنّك تجعلني دائماً حاضرة بقوّة بالرّغم من كلّ هذه الزحمة، كم هو جميل أن تجعلني أشاركك طقوسك كلّ صباح زياد، لقد عشقت جنين معك، فلننطلق للحياة ونستمع معا لفيروز تشدو: (وهبة ريح لاقوا الريح، شيلوا معاولكن وهزوها بوجه الريح، لاقوا الريح برقصة حلوة وغنوا مليح، وللجلسة الرضية ببيوت هنية خبوا الغنية).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى