الثلاثاء ٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
بقلم تيسير الناشف

جوانب في التراث الفكري العربي تتفق مع اسس التحديث الاجتماعي

يعاني المجتمع العربي – شأنه شأن المجتمعات النامية الاخرى - من علل منها الفقر والامية والمرض. ويعاني العرب من الاهانة القومية على يد جهات فاعلة اجنبية من قبيل قوى الهيمنة. وتهدر الطاقات والموارد العربية. وحققت الجهات الفاعلة الاجنبية قدرا كبيرا من النجاح في محاولاتها لتجزئة الوطن العربي ولترسيخ تلك التجزئة ولاضعاف او تغييب وعي العرب بدورهم العالمي والحضاري التاريخي وبمصالحهم الحقيقية وبواقع عصرهم وبدور دول أجنبية في اخضاعهم وتجزئتهم واضعافهم وسلبهم ونهبهم، وبمغزى وجودهم الحضاري وبرسالتهم وبعظمتهم وبعالمية وانسانية ثقافتهم وحضارتهم.

والخطاب العربي المعاصر عن الانحطاط والتقدم والنهضة والحداثة تعتوره بعض الاخطاء. ومن هذه الاخطاء ان بعض اصحاب هذا الخطاب يؤكدون على حتمية سقوط الغرب، وبعضهم يجعلون المسؤولية عن تخلف الحضارة العربية مقتصرة على جهات فاعلة خارجية دون الالتفات الى دور عوامل داخلية في ذلك التخلف، وبعضهم يعممون الانحطاط العربي الراهن على القسم الاكبر من التاريخ العربي دون الالتفات الى عهود عربية مشرقة حضاريا، وبعضهم ينزلون بهذا الانحطاط الى مستوى "الاندحار" و "الهزيمة". وليس من الصحيح القول ان سقوط الغرب حتمي وان المسؤولية عن التخلف الحضاري العربي الراهن يعود الى جهات فاعلة خارجية فقط وان جل التاريخ العربي كان متسما بالانحطاط وان انحطاط العرب يبلغ مستوى الهزيمة او الاندحار.
والخطاب العربي ليس شاملا. انه لا يتناول جميع المسائل والحاجات الاجتماعية والقومية الضرورية التي يحتاجها الفرد العربي. وبالتالي لا يحل الخطاب العربي بعض المشاكل التي يوجدها عدم تلبية هذه الحاجات. ومن هذه المسائل قضايا الحب في سن المراهقة ومقتبل العمر قبل الزواج ومسائل حرية الاعراب عن العاطفة والعلاقات بين الفتى والفتاة وآليات التعرف بينهما للتعرف الواحد منهما على الآخر قبل الزواج، ومسائل مركز المرأة في الاسلام والمستوى الفكري والديني والعلمي للخطباء في المساجد.

وبالنظر الى ان الثقافة العربية هي الى حد كبير ثقافة التستر والتكتم والكبت فقليل من الناس لديهم الجرأة الادبية والنفسية على تناول هذه المسائل. ونتيجة عن عدم كفاية تناول هذه المسائل تقل الكتابات عن ظواهر حساسة من النواحي التراثية والسياسية والقيمية، من قبيل التحالف بين النظام الذكوري الابوي (البطريركي) والدولة وبين القبيلة والدولة وبين جهات تتجلبب بالجلباب الديني والدولة وعن ظروف سهولة وسرعة وقوع الفتيان والبالغين في شباك الفتيات الاجنبيات دون التحقق من ماضيهن ومراميهن المالية والسياسية. لقد حدث في العالم العربي ان بلغ الشوق الجنسي لدى بعض الرجال ومنهم قادة عسكريون درجة ان باحوا لهن باسرار شعوبهم وحكوماتهم وجيوشهم لقاء الارتماء معهن على الاسرة دون ان يعرفوا ماضيهن الخلقي والجنسي.

وفي الحقيقة ان جوانب من هذا الخطاب تشتمل على تناقضات. وعن طريق تحليل وتفكيك الترابط البنيوي القائم بين هذه الجوانب يمكن الاستدلال على التناقضات الكامنة بينها. وبسبب هذه التناقضات تفتقر هذه الجوانب الى المعقولية. وجدير باصحاب الخطاب العربي بشتى وجوهه القيام بتحليل وتفكيك البنية الداخلية لهذا الخطاب من اجل معرفة معالجة الادواء التي تصيب الحالة العربية.

وتختلف الكتابات العربية بعضها عن بعض في مدى تعبيرها عن الواقع العربي وفي نسبة الموضوعية والذاتية في تكوينها. قسم من هذه الكتابات عبارة عن طرح ذاتي لا يمت الى الواقع بصلة كبيرة، يعكس آمالا واماني واحوالا نفسية. وقسم لا يستهان به كتابات تتسم بالموضوعية ويتسم طرحها بالوصف والتحليل والتنبؤ على نحو عقلاني. وليس من الصحيح ما كتبه محمد عابد الجابري ان الخطاب العربي المعاصر فارغ اجوف، منفصل دائما عن الواقع. وليس من الصحيح ما كتبه ان الخطاب العربي المعاصر كان في جملته ولا يزال "خطاب وجدان وليس خطاب عقل ... لقد كان ولا يزال يعبر عما "يجده" الكاتب العربي في نفسه من انفعالات ازاء الاحداث، وليس من منطق هذه الاحداث". وهذه الكتابة التعميمية الخاطئة يجدها المرء في قسم كبير من الكتابات الغربية عن العرب والاسلام. وفي هذا السياق تعتور كتابات الجابري نفس العيوب – من التعميم والتعصب والمغالاة في الحكم والكتابة على نحو غير عقلاني احيانا – التي يحذر هو القارئ منها.

وفي الحقيقة انه لا يوجد خطاب عقلاني مئة بالمئة في الكتابات الادبية ولا في العلوم الانسانية والاجتماعية ولا في الكتابات الفلسفية لانه لا يمكن فصل العنصر الذاتي عن العنصر الموضوعي في الخطاب. والكتابات تختلف بعضها عن بعض في نسبة المكون الموضوعي والمكون الذاتي في الخطاب. وهذه الظاهرة نجدها في قسم من الكتابات الغربية. وذكر حقيقة وجودها في كتابات غربية ليس المقصود به ان يكون للعرب عذر عن وجودها في كتاباتهم. يقصد بهذا الذكر القول للذي يتعالى على العرب على اساس انطلاقه من توهمه بانه لا يوجد سوى كتابات عقلانية القول ان ذلك الانطلاق خاطيء.

ولا يوجد فصل بين قسم من مفاهيم التراث ومن مفاهيم التحديث. فمفاهيم من مفاهيم التراث والتحديث متشابهة ومتماثلة. ولذلك ينبغي عدم اعتبار تبني التراث والماضي والتحديث متناقضين من جميع النواحي. ان التراث العربي الاسلامي يشمل عناصر تصلح لان تكون اسسا للتحديث. وهو يتضمن كثيرا من المبادىء الفلسفية والعقلانية والعلمية والمعرفة القائمة على التجريب. فالتجريب والتخصص والملاحظة والوصف والتحليل والمقارنة والقياس وغيرها كثير القائمة في التراث هي من اسس التحديث.

ان موقف السلفيين الذين يعتقدون بانه لا يمكن تحقيق النهضة الا بالرجوع الى التراث الثقافي الحضاري العربي الاسلامي وموقف دعاة التحديث الذين يعتقدون بانه لا يمكن تحقيق تلك النهضة الا بالاستناد الى الثقافة الغربية الحديثة موقفان يتسمان بالثنائية الفكرية ويقومان على قاعدة استبعادية حصرية. واحد اسباب هذا الاستبعاد هو عدم الاطلاع الكافي على وجوه التراث العربي الاسلامي ووجوه الحضارة الغربية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى