الجمعة ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم علي دهيني

حبيبتي أنت

قصة قصيرة

" تجتاحني الآن موجات من الشوق تتدافع كانمهار المطر ترعشني كلحظة الخوف، أو قشعريرة البرد حين تسري في شعاب الجسد. شيء في داخلي يصرخك، يناديك أيما رحلة من الشوق أودت بي إليك..؟"..

في عشية ذاك المساء، وكان السكون يختلط بنسائم ربيعية غادية رائحة تنقل أريج الأزهار من سفح تلك الآكام المحيطة بمسكنه، وثمة سكينة تساعده على استرجاع أفكاره المتراكمة وقد اختلط فيها كل شيء، وبشكل لا إرادي، كان يبعدها وكأنه يستنبش من ذاكرةٍ فكرة واحدة. ويسحتضر في خاطرةٍ ذكرى واحدة. ويستعيد الى وعيه صورةٍ واحدة، فيزيد من نضح هذه الذكرى ما يجيش في النفس من تجلٍ مؤنس ينقله اللون الذهبي للشمس تمده بقوة حنينها في ساعة الغسق وهي تنحدر متهادية لتغيب عن ناظرية تاركة له قبلة ألقت بها أمامه على الشاطىء..

أخذعماد نفساً عميقاً وهو يسترجع كل هذا في خاطره، وترك نظره يتبع ذلك القرص الذهبي في رحيله مع ابتسامة رقيقة تظهر وتختفي عند ثغره حين يقفز الى ذاكرته دمعة تلك اللحظة وقساوتها.. "أمر لم يكن يريده لكن حبه لها أجبره عليه".

خرج من لحظته هذه سائراً على ذلك البساط الرملي الممتد أمامه يلطمه حينا باطراف قدميه مبثراً ترابه، و حيناً آخر مرسلاً نظره مع تنهيدة عميقة على سطح ذلك الماء الممتد بمداه الى ما لا نهاية..

لطالما كان يحدثها عن هذا البحر ، حين يلتقيها على صفحة المحادثة على الانترنت حيث كان موعدهما اليومي ويخبرها كم حمّل هذا الموج من شوقه اليها وكم كتب لها من أشعاره على هذه الرمال الذهبية التي باتت تعرف كل أسراره عنها حتى صار يظن ان هذه الرمال تنافسه حبه لها لكثرة ما خبأ بين حُبيْباته همسات كان يرغب أن يهمسها في سمعها..

عند كل غروب كان يجلس على هذه الرمال ويسألها ان تجلس الى جانبه يتأملان لحظة المغيب.

كانت تحضر بطيفها الى قربه، فتتحول اللحظة الى شروق.. يلف ذراعه حول كتفيها ويدنيها منه ليلتحم رأسيهما يرسلان الكلمات بصمت. كان يخبرها انها تعني له كل شيء في حياته.. انها عمراً جديدا كتب له وتاريخاً جديداً يبدأ من عمره معها، ماحياً كل تلك السنوات التي مضت قبل ان يعرفها:

ـ حبيبتي انتي... حبيبتي...

لطالما عشقت هذه الكلمة منه وهو يرددها على مسامعها في لحظة حب كانا يتبادلانها.. كان يشتاق اليها بين اللحظة الاولى والثانية من لقائهما..

ـ عماد.. هل تحبني..؟؟

ـ لطالما سألتني هذا حبيبتي!!.. وأجبتك كم احبك وماذا تعنين لي في حياتي.. نعم حبيبتي .. أحبك..!

ـ أشتاق ان تقولها لي.. فهي حين تدخل سمعي تسري في كياني وتبعث في شراييني الدفء والشعور بالسعادة لأنك حبيبي.. وهي تساعدني أن أنسى خوفي، أن أنسى هذه الرهبة التي تجتاحني من أن تأتي لحظة لا تعود تحبني فيها.. أنا خائفة عماد.. خائفة..

وتلقي برأسها على كتفه وتضم صدره بيدها..

ـ هل تسمعين هذه النبضات.. هل تشعرين بهذه الأنفاس كيف تعلو مع راسك وتهبط.. هي لك ومنك. أنت من أودع النبضات في هذا القلب.. وهذه الانفاس ما كانت لتمدني في الحياة لو لم تكن لك.. أنت الرئة التي اتنفس منها وانت البصيرة التي أرى بها وأنت التي تعطيني الحياة..

ـ عماد.. احبك.. أحبك..

ـ انت اللحظة الجميلة في عمري.. لأجلك صرت أحب الحياة..

ـ عماد.. احبك أحبك..

ـ وأنت.. انت حبيبتي.. وفرحي وسعادتي.. والدم الذي يسري في شراييني.. انت بهجة عمري وهناءة أيامي ولحظة سروري..

ـ عماد أنا خائفة.. لم أتعود كل هذه السعادة في حياتي.. لطالما انتظرت عمرا أن أشعر بهذا الحب، وحين وجدته وقد ملأ لحظاتي شعادة وأمانا بين احضانك، كبر خوفي ان تأتي لحظة لا أسمع منك هذه الكلمة ولا أشعر بهذا الحب الذي تحيطني به أنت تمد حياتي بأروع اللحظات.. انت فرحي عماد وانت هنائتي.. بك ومعك واليك أحيا.. أحبك عماد .. أحبك.. هل تحبني.. ( تهزه بكلتا يديها بدمعة فرحة وسعادة كامنة خلف هذه الدموع الم،همرة على خديها وهي تردد): عماد هل تحبني.. عماد... عماد...؟

****

انتبه وهو يجلس الى حافة صخرة عند نهاية الشاطىء وأفاق من استعادة هذه الكلمات التي كانا يردد أحدهما للآخر.

زفرة من نفس يختزن في القلب نعيده من شروده هذا، فأثنى مسيره عائداً الى غرفته.

****

صعب أن يمضي ليله دون أن يرسل لها من أعماقه تحية تبعث الأمل في نفسها لغد يشع فيه ضياء ابتسامتها التي طالما حرص ان لا تفارق وجهها بل طالما سعى ان تتحول هذه الابتسامة الى ضحكة كبيرة تنير وجهها وتبعث الضياء في ملامحها..

كانت سعادته تكبر حين يرى وجهها يترنم بضحكات سعيدة منبعثة من أعماقها تعبر عن سرورها لوجوده معه.. فترتد هذه السعادة لتنتشر في كيانه فيغرد بشوقه الدائم لها، يبثها أجمل مشاعره ويرسل لها أجمل أحاسيسه فيلتقيان بأجمل لحظات البهجة تعبر عنها دموع الحب تنهمر من المآقي حين اشتداد تعابير الشوق بينهما...

****

بين كل ذكرى جميلة وصرة مشرقة لطيفة، ينعقد حاجباه وتستولي على افكاره غيمة سوداء حين يتذكر ان كل ما بينهما غادر مع زبد هذا البحر وحملت أشلاءه الرياح العاصفة مع هذا الموج.. هذا ما اخبرها إياه.. فارقها كحبيب ليلتقيها كصديق لأنها كانت تمثل في داخله كل شيء في حياته.. ولأنه يعرف تماماً ان طبيعة عمله سوف تجعل من حياتها عرضة للخطر، وان عمله يحتم عليه ان لا يرتبط بأي انسان حرصاً عليه.. تساءل مع نفسه حائرا: " إذا كنت احبها فعلاً، لن أضحي بها بسبب عملي الذي يحتم عليّ السرية المطلقة، وإن علم من علم اني مرتبط بها لا شك سيُعرض حياتها للخطر الأكيد.."..

غلس حبه لها في قلبه وأغمض عينيه عن روحه.. وانسحب من حياتها كجبيب ليبقى وتبقى هي في طريق الصداقة. فَتسْـلم هي ولا يفقدها.. لأن واجبه يحتم عليه ان لا يحرمها من حياتها..

حين كان يغيب لأيام على الجبهة، كان يعود مسرعاً كي يكتب إليها ويطمئنها عنه.. بل كان رجاؤه ان يكلمها ليشعر انه ما زال حياً. بعدما عرفها صار يخاف الموت، صار يحب الحياة.. فقط لأجلها، لأجل حبه لها..

كانت تمر عليه الليالي وسط النار والقصف، فلا يأبه، يقتحم ولا يخشى أو يأبه لأزيز الطائرات أو هدير الدبابت او قناصة العدو.. كل هذا لا يعني له شيئا هذه الدشم المترامية وتلك الأجهزة الإستشعارية على الحدود ، كان يجتازها ويعمل خلف الخطوط.. وحين يعود كان يسرع الى صفحتها على النت يكتب اليها.. " حبيبتي.. انا بخير.. طمنيني عنك".. وأحياناً كان يخاطر بانكشافه عبر المراقبة الملازمة له، فقط كي يتحدث اليها بضع كلمات..

أكثر من مرة وصل الى الموت، وكان أول ما يهمه حين عودته ان يبلغها انه بخير، ليس لتطمئن هي فقط، بل ليؤكد لنفسه انه يحيا لأجلها..

هذه المرة كانت اللحظة قريبة، لحظة سوداء العناية الالهية وحدها ابقته على قيد الحياة من محاولة قتله.. حين كمن له الخصوم كمينا وفاجأه لحظة خروجه من السيارة بطلقات كادت تودي بحياته وجاءت الاصابة في أعلى الصدر ، سنتيمترات بعيد عن القلب.. هذا القلب الذي تختبىء به حبيبته،، ضحك كثيرا حين استفاق في غرفة العمليات، وقل متمتما لصديقه أحمد: " أتدري لما لم اصب في القلب..؟ لأن حبيبتي تسكنه.. لأن حبيبتي تحرص أن لا يصاب هذا العضو لأنه وحدها من ملأه بشعور لم أعرفه طوال سنواتي القريبة من الخمسين، إلا معها ومنها"..

جلس في سريره في غرفة المستشفى يحدثها رغم بلاغة جرحه، لكن سروره بالتواجد معها والتحدث اليها كان ينسيه المه.. لكن في داخله شعر بمسوؤليته تجاهها.. شعر بأنه سوف يخسرها نهائيا.. لا يهمه ان يموت أو يقتل أو أي شيء يصيبه، لكن ان تصاب هي أو تتأذى بسببه، هذا مستحيل، هذا يودي به الى الجنون.. ثم هي ما ذنبها.. فقط لأنها أحبته..؟

كان عليه ان يأخذ قراراً.. كان عليه ألا يضحي بها، أن يضحي بنفسه ولا يضحي بها، هي لا ذنب لها في حياته ولا يجب ان تدفع ثمنا لمجرد انها أحبته أو احبها.. وسيكون ثمنا غاليا .. غاليا جدا اذا ما اصابها أي ضرر بسببه..

وفي لحظة حب ونشوة لقاء لم تعد قدرته على التحمل قوية كي يخفي عنها خطورة وضعه.. لكنه آثر ان ينسحب ويبعدها دون ان يبتعد عنها.. فطلب منها ان تنصرف لحياتها وتعيش دورها كأنثى.. انها خلقت لتكون أماً.. ومعه لن تستطيع من تحقيق ذلك لأنه يعيش في لحظة الموت التي لا يعرف متى تاتي.. بكت وبكى.. كانت لحظة موت للروح وانكفاء للجسد.. اخبرها انه لن يتخلى عنها.. سيبقى قربها كصديق وصديقة يتبادلان الاحاديث،، وحتما سيكتم كل واحد منهما ما بنفسه..

****

حين دخل غرفته وهو يتذكر هذه اللحظات جلس الى أوراقه يكتب إليها:

" تجتاحني الآن موجات من الشوق تتدافع كانمهار المطر ترعشني كلحظة الخوف، أو كشعريرة البرد حين تسري في شعاب الجسد. شيء في داخلي يصرخك، يناديك أيما رحلة من الشوق أودت بي إليك..؟

" في فجري.. تذكري همسي عند وسادتك، وطيفي يلوذ بقربك...

"أما وقد صار بيننا شيء من فراق بين حبيبين.. ولقاء يكتمل بين صديقين.. لم يفاجئني صوتي أسمعه يحادثك في هذه العشية، وشعوري بوجودك الى جانبي جعلني أمد ذراعي أحيطك به ولم يكن معلقاً في الهواء، إنما شعرته يتكىء على كتفك يضمك إلي لتحني رأسك على كتفي...

"تأخذني اللحظة فعلاً، فأستشعر نبض القلب يحنو إليك أناغمه باستحضار كلماتك حيث تسكن في سمعي وتجول في خاطري تتنقل كما فراشة تحنو.. من غصن الى غصن.. ومن وردة الى وردة تزرع قبلة هنا ورقصة هناك ثم تحلق في فضاء ربها فأحلق معها في سمائك أطوف في فيافيك الساحرة أبحث عن فسحة أزرع فيها قبلة تنقل أحاسيس الشوق، تعبر عن مدى سعادتي، لكن كل مساحاتك مزروعة بشوقي الكبير المنتشر في كل انحائك..."

" حبيبتي.. وصديقتي.. ما عرفت البهجة إلا معك، فالسعادة التي تتراقص في نفسي انت من بعثها فحياتي لم تعرف البهجة كما عرفتها معك.. وما عرغت قيمة الحياة الا حين عرفتك، والسعادة التي تطوف بي في فضاء من النشوة ما عرفتها الآ حين كنت أجلس معك.. لم اشعر بالدفىء يلفني إلا حين كان طيفك يضمني اليه ويسرّي دفء قلبك الى قلبي.. انسحبت من حياتي لكنك لم تنسلخي من بين اضلعي.. أنت الساكنة أبدا وانت السكينة ابدا.. أنت الكلمة اللطيفة الحلوة التي يرددها لساني مترجما خواطري وقارئا من صفحة قلبي.. وفراقي لك إنما فراق روح لجسد، لكن حياتك عندي أهم كثيرا من هذا الجسد المتروك لرصاصة تنهيه أو خنجر ينغرس فيه فيرديه.. أنا للموت نذرت نفسي، فما ذنبك ان تهلكي بسببي.. أعطي للحياة من رفعة قدرك وعظمة جلالك وجمالك جيلاً تنضح فيه الحياة.. وكوني سبباً لحياة أشبال تحبين أن يكونوا من حولك.. لأنك حتماً ستكونين أماً رؤومة في عاطفتك ومربية فاضلة في أخلاقك.. ومعلمة مرشدة في حكمتك وثقافتك..

حبيبتي.. وصديقتي.. ورفيقتي.. كنت بين خيارين.. أن اختار الحياة هانئة قربك.. أو أختار الدفاع عن أرضي وأرضك وأرض ملايين من شعبي.. لكنك ستبقين حبيبتي انتي..."....

قصة قصيرة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى