السبت ١٦ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم مادونا عسكر

حتّى النّسمة الأخيرة

عندما تطوي الشّمس صفحتها الأخيرة
ويتبخّر القمر في أروقة الزّمانْ
وتهفو النّجوم إلى شعلة خافتة
ترجوها من ضياء الأوانْ
سيبقى حبّي نسمة أخيرة
نداوة تعانق سماءكَ
 
عندما ترحل آخر الأسرابْ
حيث لا برد ولا قيظُ
وتنحني الأزهارُ
مودّعة بقايا الطّيوبْ
سيبقى حبّي نسمة عطورْ
تهادن روحكَ
 
عندما تسقط آخر عبرات السّماءْ
ويخفق قلب الأرض اضطرابا
ويشتهي التّراب قطرة ارتواءْ
فيذوب ويضمحلّ عطشا
سيبقى حبّي نسمة وردٍ
يروي اخضرار ذاتكَ
 
عندما يتعب الحبّ من وفرة الفيضِ
ويترنّح من فرط السُّكرِ
ويضيع في غابات الفضاءِ
ويتحوّل أجساداً من نورِ
سيبقى حبي نسمة أخيرة
تستنشقها أحشاؤكَ

مشاركة منتدى

  • الفناء والبقاء...
    في الفناء كونا والفناء حبّا...
    هذه القصيدة أرادتها صاحبتها نشيدا أو ملحمة في الحبّ...بطولة عشق من أجل الأبد..من أجل معنى للفناء لا يتماهى والعدم..بل يتماهى والبقاء لمن يستحقّ أن يبقى.. لأنّه سلك سبيل البقاء الأعظم..ولم يتوهّم هذا البقاء في غيرها من السّبل..هذه السّبيل الأثيرة عند الشّاعرة القدّيسة هي سبيل الحبّ..بكلّ الطّبقات الدّلاليّة للحبّ...
    المعنى البارز في هذا النّصّ "القياميّ" هو نهاية الكون وما يقترن به من هول ورهبة وفزع..ولكن هل يعتبر هذا المعنى الرّئيسيّ؟
    لا يعني الشاعرة نهاية الكون بل بقاء الحب..أبديته..لذلك اختارت أن تكثّف الصور القياميّة في اللّوحات الأربع التي تتركّب كلّ واحدة منها من أربعة أسطر شعرية في الفناء والنهاية الفاجعة الرهيبة للكون، ومن سطرين شعريين يمثّلان لازمة شعرية جزئية.. تتردّد فتبرز..(سيبقى حبّي...) إلا اللّوحة الرابعة..فقد كان تركيبها مخصوصا...
    وكأنّ المنطق الدّلاليّ العامّ للنّص بقوم على هذه المقولة الحادّة والهائلة والعجيبة: سيفنى الكون، ويبقى الحبّ...وحول هذه المقولة الضّدّية تنشأ طبقات من المعاني والإيحاءات المترابطة والمتراكبة والمتفاعلة والمتعلّقة بالإنسان ومنزلته في الكون وعلاقته بالحياة وبالموت وبالله وبالآخر ومواقفه منه..والمنطلقات والأسس التي تنبني عليها تلك العلاقات..
    هذا النّصّ يشدّ الأنفاس..ويغمر النّفوس رهبة لأنّ صاحبته تفنّنت في رسم مشاهد قياميّة apocalyptiques بتوسيع الحقل المعجميّ للفناء ونشر وحداته بشكل تصاعديّ، وحركة دراميّة تنشأ وتتنامى بالاعتماد على وحدات معجميّة يكون فيها معنى الفناء نسبيّا أو محدودا (تطوي.. الأخيرة.. يتبخّر.. خافتة.. ترحل.. تنحني.. مودّعة بقايا تسقط آخر.يتعب..يترنّح..يضيع..) إلى أن تبلغ ذروتها بوحدتين معجميتين هما الدّرجة الصفر للوجود، والتّحقّق العينيّ للفناء والعدم (يذوب...يضمحلّ..)...واختارت أن تبرز هذا المعنى العامّ من خلال ثلاثة معان فرعيّة قامت عليها اللّوحات :
    • النّور
    • العطر
    • الماء
    • الحبّ
    وفي كل لوحة من اللّوحات القياميّة الأربع ينشأ تقابل زمانيّ وتركيبيّ ودلاليّ..بين ظرف زمانيّ يتضمّن "أحداثا" منقضية في المستقبل، وليست في سياق القول الشّعريّ أحداثا جوهريّة بل أحداثا إطاريّة لا قيمة لها إلا في علاقتها بالحدث الرئيسيّ الذي تصوّره الشّاعرة في السّطرين الخامس والسّادس من كل لوحة...(سيبقى حبّي...)...وهي "أحداث" متعلّقة بكائنات عظمى في اللّوحة الأولى..(الشّمس..القمر..النّجوم..) تتفاعل فيها جملة من المعاني في التّمثّل الإنسانيّ لها.. منها القدم والجمال والنّور والرّفعة والعظمة..ولكنّها، وهي الأنوار العظمى، تنطفئ وتتبخّر وتتلاشى ليغرق الكون في ظلام العدم..ويبقى الحبّ..شمسا لا تغرب، ونورا لا يخفت، وشعلة لا تنطفئ..فأيّ الشّمسين أعظم؟ أهي تلك التي يحكمها قانون الفناء..وتراها فتنبهر بها الأبصار، وتعبدها شعوب، أم تلك الشّمس التي لا تغرب أبدا..لأنّها في القلب..شمس الحبّ...
    لذلك كثّفت القدّيسة الشّاعرة هذه الصّور القياميّة لتكون "الصّدمة" أعنف والدّهشة أشدّ..ويكون الصّوت أبلغ..ولكن صوت من؟؟
    هو صوت الحبيب للحبيب..الأوّل والأبقى والأرقى والآخر..ذاك الذي لا يلحقة الفناء.لأنّه الباقي والأبقى..لأنّه الحبّ..وله الحبّ..واهتدت القدّيسة الشّاعرة أن تناجيه وتمنحه صوتها يشدو حبّه..ولم تنخدع بشموس ولا أقمار ولا نجوم..في الأرض وفي السّماء..لأنّها تحبّ الأبقى والأكمل والأجمل..
    من العهد القديم تشبّعت روحها من هذه الرؤية الكونيّة القياميّة المجرّدة من الفزع..لأنّها لم تغفل عن معنى الفناء..
    " وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ."(متى 29)...." الشمس والقمر يظلمان والنجوم تحجز لمعانها..."(يونيل15:3)..وإذ ترتعد الفرائص أمام حقيقة الفناء القاسية الرّهيبة، تسكن نفس القدّيسة الشّاعرة لأنّها أحبّت القديم الباقي الذي هو وحده أهل للحبّ..لأنّه وحده الأبد.." من قدم أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك.. هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوب تبلى، كرداء تغيرهن فتتغير..." (مزمور 102..25/26)..
    ذاك هو شعر الشّاعرة: "هي تبيد وأنت تبقى.."عليه تأسّس فكرها، وانبنت روحها، وتقوّم سلوكها، وتعدّل قلبها، وتحدّدت رؤاها لذاتها وللأشياء وللنّاس كافّة..وعن هذه الرؤى يكشف هذا النّصّ القياميّ في ظاهره، والعشقيّ في جوهره وباطنه..لأنّ كلّ ما تكتبها الشّاعرة القدّيسة هو في الحبّ، وله..ومنه..ولذلك أيضا يتحوّل المشهد القياميّ إلى مشهد ثانويّ مساعد على إبراز المشهد العشقيّ الأبديّ:
    سيبقى حبّي نسمة أخيرة
    نداوة تعانق سماءكَ...
    ولكن هل للحبّ نفس أخير أو آخر؟؟ وهل تعني العبارة أنّ للحبّ آخر..؟
    إنّ الأبديّة هي الكون الحقّ الذي يؤسّسه الحبّ، وتتوق إليه النّفس..ولذلك فلا آخر للحبّ في مفهوم النصّ إلاّ بما يبقى بعد أن تفنى كلّ الكائنات..من أعظم الأجرام والكواكب والنّجوم إلى الأجزاء الّتي لا تتجزّأ ممّا في الأكوان القائمة دون الحبّ الأعلى..
    إلى هذا الحبيب تهفو نفس الشّاعرة وإليه يصبو بصرها ..وله ينبعث صوتها خافتا هامسا مناجيا:
    .."سيبقى حبّي نسمة أخيرة
    نداوة تعانق سماءكَ..."
    وفي عبارة "النسمة الأخيرة (النَّفس الأخير..) صورة الفناء عشقا..وهذا من ألطف المعاني في الحبّ الكامل..جاء في النّصّ ضمنا، وفي نصّ آخر مفهوما صريحا ، لعلّه يفسّر شيئا ممّا كان منه هنا:
    إنّ الفناء طهارة الإنسان.... لصلاة معرفة البعيد الدّاني
    فصلاة معرفة الإله بغير ما..... طهر الفناء عديمة الأركان
    (عبد الغني النابلسي)
    وما كان بالحقل الدّلاليّ للنّور، كان بالحقلين الدّلاليين للعطر والماء في اللّوحتين الثّانية والثّالثة..وفي ذاك يتجلّى منطق الحركة في القول الشّعريّ..فتمتدّ حركته دورانا على محور دلاليّ واحد، وتنويعا للصّور التي تتمايز وتتواشج لتقول ذات القول وتدهش أكثر فأكثر..فينشأ التقابل ذاته..لكنه هنا بين لوحة قياميّة "أرضيّة"..( المناخات تزول، والأزهار تنحني، والطيور تختفي..) وصورة للحبّ في عطر أبديّ يغمر الروح ويهدّنها :
    ..سيبقى حبّي نسمة عطورْ
    تهادن روحكَ...
    أمّا اللّوحة الثّالثة فقد كانت الشّاعرة حريصة على جعلها ذروة النموّ الدرامي للأحداث القياميّة، وإكسابها طاقة تخييليّة تقرّب من الذّهن معنى الفناء العدميّ...وليس أقسى وأرهب من معنى اليبس والعطش وانتفاء الماء..إيحاء بانتفاء الحياة..فتتجاوب السّماء والأرض انتحابا وتفجّعا:
    "...عندما تسقط آخر عبرات السّماءْ
    ويخفق قلب الأرض اضطرابا
    ويشتهي التّراب قطرة ارتواءْ
    فيذوب ويضمحلّ عطشا..."
    ومرّة أخرى تجد القدّيسة الشّاعرة في العهد القديم منهلا للصّور تتشرّبها روحها، ثمّ تعيد قريحتها صوغها، فتخرجها وقد تأصّلت وتنزّلت في سياق القول الشّعريّ دونما إسقاط أو تكلّف..ولكنّ الطّرس العهديّ ماثل في النّص جليّ:
    .." اِنْسَحَقَتِ الأَرْضُ انْسِحَاقًا. تَشَقَّقَتِ الأَرْضُ تَشَقُّقًا. تَزَعْزَعَتِ الأَرْضُ تَزَعْزُعًا.
    تَرَنَّحَتِ الأَرْضُ تَرَنُّحًا كَالسَّكْرَانِ، وَتَدَلْدَلَتْ كَالْعِرْزَالِ، وَثَقُلَ عَلَيْهَا ذَنْبُهَا، فَسَقَطَتْ وَلاَ تَعُودُ تَقُومُ..."
    (سفر إشعياء 24...19/20)
    على جثّة العالم تنتصب وردة الحبّ الأبديّ تغمر الكون شذى لا يفنى ولا يضمحلّ..فتقابل الشّاعرة بين يبس العالم وموته واخضرار الذّات وارتوائها بالحبّ:
    سيبقى حبّي نسمة وردٍ
    يروي اخضرار ذاتكَ...
    هكذا جاءت اللّوحات الثّلاث الأولى خاضعة إلى منطق التّقابل الدّلاليّ بين عدميّة الكون وأبديّة الحبّ..النّابع من أعماق ذات عاشقة ، أدركت أنّ الحبيب ليس في الأرض بل فوق كل الكائنات، وأنّ كلّ ما في العالم ومن فيه، لا يمكن أن يكون موضوعا للحبّ..لأنّه خاضع لقانون الفناء..لذلك فجّرت في اللّوحة الرّابعة ينابيع الحبّ في ذاتها، ورأت في هذه الذّات كلّ الشّموس والأقمار والنّجوم والطّيوب والورود والخمور...فيها الكون الحقّ، والحبّ الحقّ..والحبيب الحقّ..
    لذلك أحلّت فناء محلّ فناء: الفناء حبّا محلّ الفناء عدما..فلم تقابل هنا بين صورة للعدم وصورة للحبّ، بل بين صورة لحبّ نازل من السّماء، وصورة لحبّ صاعد من الأرض...حبّ الرّبّ ينزل شوقا للإنسان..وحبّ الإنسان بهفو توقا إلى الله:

    عندما يتعب الحبّ من وفرة الفيضِ
    ويترنّح من فرط السُّكرِ
    ويضيع في غابات الفضاءِ
    ويتحوّل أجساداً من نورِ
    سيبقى حبي نسمة أخيرة
    تستنشقها أحشاؤكَ
    وفي هذا تتجلّى المفهوم الفيضيّ للحبّ نزولا وصعودا.. وهو مفهوم مركزيّ في وعي الشّاعرة الفكري والشعريّ..مفهوم "ثوريّ" كاسر للفهم التّقليديّ للحبّ والعلاقة بين الإنسان والله..ويكفي القول إنّ الفيض هو اللّقاء العشقي الانصهاريّ بين الله والإنسان...صاغته شاعرة سورية متميزة فقالت:
    إذا فاضَ بالوجد حبي أراكَ................... فَتَنْدى حروفي هوىً في هواكَ
    وتسعى إليكَ المسافاتُ سراً................... فتطوي حنينَ الهوى راحتاكَ
    وأحملُ موتي إليكَ لأحيا....................... فلستَ سوايَ ولستُ سواكَ
    إذا ما تجلَّتْ نوافذُ فيضي...................... وأفضى إليّ الهوى من عُلاكَ
    حملتُ الرؤى من رؤاها لتُفضي................... إلى الروح لماّ تجلتْ رؤاكَ
    ( بهيجة مصري إدلبي)
    لذلك ليس مهمّا أن تعرف من المتكلّم في النّصّ، ومن المحاطب.."فليست سواه..وليس سواها.."

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى