الثلاثاء ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم ماجد عاطف

حذيفة والشارع

كان حذيفة يحمل أكياساً كثيرة من الخضار وكانت ربطاتها تحشر مفاصل أصابعه، فلا يملك هو الذي تخطي الخمسين إلا أن يضعها كلها على الرصيف ليريح يديه وظهره. ربما كان بائساً. ربما كان معتم النظرة. وأكيد أنه متعب؛ ولكنه يرى بعين لا تكتفي بحاضر الأشياء أو ماضيها المعلن.

فالسيّارة الرياضية البيضاء بلوحتها الصفراء التي تلتف مسرعة على المنحنى، لتمضي نحو وجهتها المرسومة، حيث النخلات المقتلعات من مكان آخر فالمغروسات غرسا؛ تسوقها امرأة يمكنها أن تدهس كل مَن في الشارع، لا لشيء إلا لتحسّ بارتجاف المقود بين يديها..

حين مرّت عنه، أحسّ بوخزة عنيفة، كذبحة قلب، مصدرها الشقي فيه (السعيد أيضاً)، فكان يخاف عليها من خاتمتها، ويسلم بقضاء الله الذي لا بد له أن يتقدر.

والشرطي المراهق الذي يحرس غير جهة متأهباً حذرا، لا يختلف عنها كثيرا.

إنّه يحرس جهات لا شأن له بها إلا أن تمنحه الراتب، فلو رأى ما خلف القروش -وهو يرى ولكنه يؤوّله- لأحرق بنفسه ما يحرسه. وإلى أن يرطمه الله بشيء ويتفتح قلبه، فسيظل هكذا: متأهباً حذراً، يفتّش في وجوه المارّة عن نية مبيّتة.

ويعبر الحركيّ في سيّارته المصفحة التي يقودها بنفسه، (فيما يراقب المشهد عنه، إلى جانبه، مرافق مسلح). إنه معروفٌ خفيّ، فوظيفته التي تتصل بالهويات لم تتغير منذ أكثر من عقدين، بل صارت الآن رسمية. لكن لا أحد سينسى أنه دهس في طريق حياته (التي جاوزت الستين)، أكثر من شخص وهو يقود.

وتتوقف سيّارة تعرض عليه، على عجالة، أن تحمله الأمتار المتبقية. فيهمّ بالصعود لولا أن يلمح وجه الفتى، فيشكره بسرعة رافضا.. كان شريفاً في الورش حين كان يشتغل صيفاً، مخزناً مؤونة الشتاء. فلما "اتصل" به مَن اتصل -على خلفية "ما"- صار (عسكرياً) دفعة واحدة؛
وبعد الوظيفة يجوب الشوارع يترزّق، بسيارته الأجرة..

ومع أن الدم جرى في عروق أصابعه، حذيفة، ولم يعد محصورا واختفى مِن عقدها الألم (وزال من ظهره التعب، فجمع ثانية أكياسه)، إلا أنّه حين التفت يساراً ليتأكد، خيّل إليه أنه رأى مئات الكهول والشيوخ والقواعد؛ يحملون جميعاً أكياس المشتريات، وعلى وشك قطع الشارع معه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى