حكاية برج الساعة وقوس والمزولة
حثَّ الخطى دالفاً من باب البلدة القديمةِ في نابلس، متأملاً في هذا المدخل الذي تربعت على جوانبه مدرسة ومسجد وكنيسة، وطريق تحكي حكاية الماضي، وأروقة تسقف هذا الممرر، وقلّب الطرف يمنة ويسرة، فهنا حمام تركي يقدم لنا حكاية الوطن من خلال عراقته وتسجيله واقعاً مكانيّاً، ومن يراه يستحضر الزمن، وطرز معمارية مكانيّة وزمانيّة في الوقت نفسه، فهي تجعلك تعيشُ في العصر الذي شُيدت فيه، ولا تزال عصية على عوائد الزمن، والطريق أخذ يشدّه فدرج فيه سياحة ورواية للأصل الفلسطيني الموغل في القدم، أفضى الطريق عن استراحة على أحد الأكتاف، وبدأ يشاهد المحال التجارية تصطف على جوانبها، عندها عرف أن البوابة التي ولجها قد تكونت من منطقتين: منطقة المدخل الذي خلا إلا من بعض المحال، والمنطقة الثانية تعج بالمحال التجارية، والمسافة بين المنطقتين تجعلك تحكم عليها أنها بوابة البلدة القديمة، أطلق العنان لرجليه، وقطع مسافة لا بأس بها، وإذا بعلية عثمانية الطراز تغازل العيون، بأقواسها وقبابها، وشرفتها التي زينت مقدمة البيوت ذات الطابق الثاني، وقد أزدانت بخشب الأربسك، وهي شرفة مطلة على الشارع، يستشرف من خلالها ساكن المبنى الأفق ، وخيوطَ الشمس الذهبية التي تنسج الصباح على طاولة يقتعدها راشف القهوة ، وهي مكان لتعليق الملابس المبتلة كي تجففها أشعة الشمس، إضافة إلى أنها تعد متنفساً للمبنى، والطابق السفلي يعج بالمحال التجارية، وحتى يتمكن الزائرُ من الجلوس في هذه الأجواء التاريخيّة التي تعبق بالحضارة والتطور الذي كان ساعئذ، وثمة بناية تسلم على هذا المبنى على الكتف الثاني من الطريق التي سلكها، وهذه المقهى صورة لهذا المبنى أو مرآة تعكسه؛ فيجد الجالس في ردهتها ما يجده في ذاك البيت الشامخ بعليته، وبين البيت والمقهى تتوسد ساحة واسعة بمقاعد خشبية تحفها أشجار، ومقاعد توزعت في فضاء الساحة، قعد يتأمل الساحة، فالساحة محاطة بالمحال التجارية الثابتة ، وعربات باعة متنقلة، وهذه العربات تقدم المشروبات الساخنة، وعربات تقدم أصناف الحلوى التقليدية التي تتفق والزمان والمكان، وأمام الساحة مسجدُ النصر الذي يترجم الزمن عبادة، من خلال الآذان الذي يدير وقت من يجلس في هذه الساحة، وحتى يتم إدارة الوقت . ولعل الجالس في هذه الساحة يشاهد مبنى شامخاً بطراز معماري قديم ، يرتفع ارتفاع المئذنة، والطابق السفلي فيه يسكنه من يوفر للساحة الأمن والأمان. اعتلت المبنى تاجاً له ساعةٌ زمنيةٌ في إطار دائري تشير إلى الوقت، وهذه الساعة ترى من جوانب المبنى الأربعة، ولا تزال تقدم مائدة الوقت.
وفد سياحي يكسرُ الصمتَ، ومرشد يتحدثُ عن تاريخ هذا المبنى الذي تتوجه الساعة، ويستحضرُ التاريخَ العثمانيّ، وأن الناسَ كانوا لا يعرفون الزمن إلا بزحفِ الظلِّ، وانحسارِ الفيء، وقد كانت المزولةُ أداةَ الوقت لديهم، حتى العصر العثمانيّ، وبناء هذه الساعة، وما انفكَّ الناسُ ينظرون من شرفتِهم فيأخذوا قسطاً من أشعة الشمس، وشعاعي الساعة التي تعانقهم صباحاً، بعد أن كانت المزولةُ التي تصافح الظلَّ صباحاً وتودعُ الفيءَ مساءً،هذه المزولة التي أخذت اسمها من الزوال قد توسدت القوسَ الذي توسطَ الطريقَ بين قبةِ الصخرة والمسجد القبلي في ساحات الأقصى في القدس، فمن يجلس حول صحن المتوضأ يكون المسجدُ من الجهة الجنوبية ، والمزولة تقدم له عبق الوقت من الجهة الشماليّة، من على قوس أعلى الربوة التي تجثم عليها قبةُ الصخرة، وهناك درج يفضي إلى تلك التلة.
فالمزولةُ التي في رحاب ساحة المسجد الأقصى قد أرّخت للساعة التي في باب الساحة، كي تكون الفكرة التي انقدحت في ذهن من ابتنى هذه الساعة، فتكون الساعةُ دليلاً على الوقت قد استشفها من المزولة التي شاهدناها في بيت المقدس، وفي ساحة مسجد أحمد باشا الجزار، ولها نظائر في مدن فلسطين، مثل : برج ساعة يافا وغيرها.
هذه رواية الساعة التي نسجتها لنا من بطون كتب التاريخ والمخلدة من خلال هذا المعمار، لكن السؤال المطروح ما الدليل على أن هذه الساعة موغلة في الزمن العثماني؟
إنَّ هذا المعمارَ الذي تراه أمامك قد جسدته اللغة، فهنا نجد مبنى السرايا ، والسرايا والسريات لفظ عثماني يدل على القصور والبنايات العالية، والعلية وغيرها، وهذا الطراز شاهد على هذه الحقبة التاريخية، ولا تزال المنطقة تستخدمُ الأمثالَ التي يتناقلها الناسُ في معرض حديثهم عمن يسكن السرايا باعتبارها أماكنَ الحكمِ والقيادة وهي الباب العالي، وثمة من يسكن القرى المجاورة ويأتمر بأمر السرايا، فقيل: "حكي القرايا أم حكي السرايا"، وهناك من رجع إلى التراث فأخذ منه صفة البيت الواسع والقصر العالي الذي كان يطلق عليه قصر النجمة "قصر يلديز" وهناك فندق على ثغر البلدة يحمل هذا الاسم.
وحتى يوثق هذا الكلام يحتاج إلى أدلة مكتوبة، فهل هناك كتابات تدل على ذلك؟
صحيح أن الكتابات التي دوّنت عن هذه الحقبة التاريخية تزخر بها كتب التاريخ، ولكن ثمة نقوش لا تزال تؤرخ لتلك الفترة، ودونك على أعلى بوابة برج الساعة تجد على أسكفة الباب لوحة حجرية من أساس المبنى قد وثقت هذه الحقبة.
وهل هذه الكتابة تؤرخ لتلك الحقبة، فالكتابة يمكن أن تنقش في أي زمن، وبألوان متعددة، ولا يقصر الأمر على الكتابة باللون الأسود؟
هذه اللوحة التي في أعلى الباب تخلّد التاريخ العثماني الذي شيّد هذا المعمارَ، فقد كتبت اللوحة وختمت بعبارة تحمل زمن البناء ولكن بحساب الجمل أو بالتأريخ الشعري.
حساب الجمّل، ما حساب الجمل و ماعلاقته بالتاريخ؟ لقد نشط هذا اللون في نهاية العصر المملوكي، وازدهر وتطور في العصر العثماني، وهو حسابٌ معروفٌ منذ القدم، ويقوم على فكرة أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت، ولكل حرف قيمة عددية ، ونحن نستخدم حتى الآن الحروف الأولى حتى الرقم عشرة، أي (أبجد هوز حطي) ، وعند الانتقال للحروف الأخرى تأتي العشرات ومن ثم المثات.
هذا يحتاج منا إلى الاطلاع على هذا الحساب في كتب التاريخ، أليس كذلك؟
كتب التاريخ قد أشبعته تسجيلاً، وثمة دراسات تناولته بالتحليل وقدمت أدلة كثيرة على وجوده في المساجد وشتى مناحي الحياة، فقد كان في العصر العباسيّ على ازدهاره يؤرخ بالحروف إلى جانب الأرقام، وحتى الآن نكتب بالأرقام ونؤكد بالحروف، والعصر العثماني كتب بالحروف وأكد بالأرقام، فأحيانا تجد الحروف التي تناولها الشاعر في بيت شعره دون الإشارة للأرقام، ولكن يضع ضوابط للقارئ، بكلمة أرّخه وغيرها، ويأتي بقول أو جزء من حديث أو مثل يجسد فيه تاريخ الوفاء بحساب الجمّل.
يبقى السؤال: هل هناك ما يثبت أن الساعة التي تنهض على أرض الساحة بها كتابة بحساب الجمل؟
نعم، وإليك النقش الذي كُتب، وتستطيع من خلاله أن تحسب الفترة التاريخية التي بنيت فيها هذه الساحة، وسأقدم لك النقش؛ لتقرأه على مكثٍ، وها هو النقش الذي يعلو البوابة التي تفضي إلى درج الساعة، ولوحة أخرى تجدُها على بوابة المسجد الذي هو في أول طريق بوابة البلد، نابلس.
ظت أن النصَّ الأول على مبنى الساعة بالحروف فقط ، والنص الثاني بالحروف والأرقام.
عليك الآن الحساب بإجراء العملياتِ الحسابيّة للنصّ المكتوب بالحروف ومقارنته مع المكتوب بالأرقام، لتجد التطابق بينهما، وتعرف الحقبة التاريخية التي تؤرخ لعراقة هذا الوطن وأنه يسجل لك رواية فلسطين التاريخية من خلال نقوشها التي ينطق بها الحجرُ بلغة صامتة، ويقدم الرواية بثوبها التاريخي الذي لا لبس فيه وتقارن مع ما ورد في مظان المعرفة التاريخية.