السبت ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بحسيتا (جزء 1من 2 )

حكاية بيوت المتعة في حلب

بقلم: علاء السيد

ما ذُكرت بحسيتا أمام حلبي، إلا وابتسم.
أثار هذا الأمر فضولي. وبما أن جيلنا لم يعرفها، والجيل السابق الذي أدركها يتجنب الحديث عنها، وكلما سألت كبار السن عنها ينفون - في البداية وبشدة - معرفتهم المباشرة بها، ثم - تدريجيا - يتبسطون ويسترسلون في الحديث عنها، ويشيرون بحذر أنهم ربما زاروها مرة او مرتين للإطلاع على ما فيها فقط، ثم وبصوت منخفض - مع تحذيري من نقل ما يحكونه على لسانهم - يروون مغامراتهم فيها.

وبما أنها تعد جزءا من تاريخ بلدنا، والتاريخ تاريخ،سواء كان سلبيا أو ايجابيا، ولم أجد في أي مرجع دراسة وافية لتاريخ هذا المكان، الذي قل من امتنع عن زيارته في ذلك الزمان، حسبما تبين لي، ولأهمية المؤشرات الأخلاقية والاجتماعية التي يكشفها تاريخه، والتي أترك تقديرها للقراء، قمت بجمع المعلومات عنه من شفاه من عاصروه، وها أنا أقدمها لكم في مقالتي هذه:

في عام 1901 م قرر والي حلب العثماني رائف باشا افتتاح دار دعارة مرخصة في حلب، أسوة بباقي مدن السلطنة العثمانية،كما ذكر الطباخ في كتابه إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، وكان الهدف منها حصر وتنظيم عمل المومسات في هذا المجال منعا من تواجدهن في مختلف الأحياء وفرض رقابة صحية عليهن، وانقسم الناس حينها بين مؤيد لفكرة حصر الدعارة في أماكن محدودة، ومعارض بشدة للترخيص الرسمي لها..

يقول الطباخ في كتابه الصادر في العشرينيات من القرن الماضي: (بعد ان كانت المومسات قلائل أصبح عددهن يناهز خمسمائة، وأصبح زائرو هذه الأماكن مئات من الناس بل ألوفا، وتهافت الشباب على هذه المواخير لسهولة الوصول إليها وفشا فيهم داء الزهري والتعقيبة).

لكن ترخيص الدعارة في أماكن محددة محصورة لم يمنع انتشار هذه الظاهرة بشكل سري، والمرأة التي كانت تمارس الدعارة بدون رخصة خارج البيوت الرسمية المخصصة لها، كانت تعاقب بالحبس، فإذا ضبطت مرة ثانية او ثالثة تجبرها السلطات المختصة على الإقامة الإجبارية في دور الدعارة المرخصة.

وتقرر على إقامة بيوت الدعارة المرخصة في حلب - التي أطلق عليها اسم المحل العمومي - في حي بحسيتا،التابع لحارة القلة، قرب ساعة باب الفرج الحالية.

كان أغلب سكان حارة القلة وبحسيتا قبل افتتاح المحل العمومي من العائلات اليهودية، وقد حدد مؤرخ حلب كامل الغزي في كتابه نهر الذهب عدد سكانها اليهود بحوالي أربعة ألاف شخص في العشرينيات، واشهرهم آل جدّاع , آل نحمات , آل ساسون , وآل دويك، الذين انتقل الأغنياء منهم للإقامة في محلة الجميلية تجنبا للإقامة قرب بيوت الدعارة.

أما معنى اسم بحسيتا فقد أورد الغزي عدة آراء حول معنى الاسم، ورجّح أخيرا ان بحسيتا مركبة من كلمتين: أولاهما بيت والتي تختصر في السوريانية بحرفي (با) فقط مثل أسماء المناطق السوريانية الأخرى (بانقوسا وتعني بيت الناقوس، باريشا وتعني بيت الريس وغيرها) والثانية حسيوتا ومعناها الغفران أو الطهارة، وبذلك يكون معناها بيت الطهارة والمغفرة.

ويقول الغزي: (الظاهر إنه كان فيها زمن الكلدانيين مكان مقدس،يقصده الناس للاعتراف بخطاياهم)

أما خير الدين الاسدي صاحب موسوعة حلب المقارنة فقد رجح رأياً آخر أورده الغزي فيما أورده من آراء، وهو الرأي الذي يقول أن الاسم محرف من باح سيتا، وان شخص اسمه سيتا باح بسر ما، وافترض الاسدي ان سيته هذا رجل صالح ولهذا السبب هناك جامع قديم جدا في المنطقة اسمه جامع سيته.

وهناك رأي يقول ان سيتة هو اسم منطقة من اصل سورياني، وان جامع سيته المذكور كانت له باحة أمامه، وبدمج باحة مع اسم سيته كانت بحسيتا.

وأنا أرجح رأي الغزي على الآراء الأخرى فمن الواضح ان اسم سيته هو اسم قديم آرامي سرياني، ولا يعقل ان يسبق بكلمة عربية هي كلمة باح (بمعنى أفشى) أو بكلمة باحة (بمعنى ساحة).

شارع بحسيتا هو شارع مستقيم بطول ثلاثمائة متر تقريبا، على جانبيه كانت توجد الدكاكين واغلبها بقاليات، ومنها دكان يبيع المشروبات الروحية، وفي منتصف الشارع جهة اليمين يوجد مدخل صغير يؤدي الى زقاق المحل العمومي.

وسابقا كان في الزقاق الذي أقيم فيه المحل العمومي قبل ترخيصه، مضافة للعموم، ويطلق العامة على بيوت الضيافة اسم المنزول، وهي من كلمة (نزل) الفصحى، فيقال مثلا: (حللت أهلا ونزلت سهلا)، وعادة كان الأثرياء والباشاوات والآغوات ينشئون مكانا مخصصا لإقامة الأغراب وضيافتهم مجانا،هو المنزول،و يسمى في الأرياف (الاوضة).

وبعدما تحول هذا الزقاق الى مكان للدعارة، صار اسم المنزول لدى الحلبيين مرتبطا ببيوت الدعارة، بينما يستخدم أبناء بقية المحافظات هذا الاسم للإشارة الى المضافات. كما يستعمل الحلبيون كلمة كارخانة للدلالة على بيوت الدعارة، وهي كلمة تركية تعني (مكان العمل)، فالكار هو العمل او المهنة والخانة هي المكان.

كان المحل العمومي الذي تم ترخيصه للدعارة، مؤلف من مدخل ضيق يحمل رقم 142 في لوحة معلقة على جداره، ولذلك اشتهر هذا الرقم كرمز للمنزول.

وتنفذ من المدخل الى زقاق ضيق، على طرفيه مجموعة من الدور العربية، لكل دار حوش وعدة غرف موزعة في أطرافه، لبعضها غرف علوية (مربع).

وفي نهاية الزقاق منفذ آخر له باب مغلق لا يفتح إلا في أحوال خاصة كاستقبال الجنود الفرنسيين والمليس (وهي كلمة مشتقة من ميليشيا) او لدخول الأطباء وموظفي الصحة.
قرب المحل العمومي كانت توجد حمام عامة تحمل اسم حمام الهنا، وقد خصصت أوقات محددة فيها لفتيات الكرخانة، وقد هدمت الآن.

وقرب المنزول مشفى خصصته الدولة لفحص الفتيات ولمعالجة الأمراض التناسلية.

في الأربعاء من كل أسبوع، تخرج الفتيات من الباب الخلفي للزقاق المخصص لهذا الأمر، ليقمن بزيارة الطبابة الشرعية - التي كانت قريبة من المنزول - لإجراء الفحص الدوري، وفي حال تبين إصابة أي منهن بمرض ما، تعزل وتحجر حتى تتماثل للشفاء في المستوصف القريب من المنزول. وتوجد فيه غرف تشبه الزنزانات، كما تحجر الفتيات فيه طوال فترتهن النسائية الشهرية، لمنعهن من العمل خلالها.
كانت الفتيات تلجأن لكيّ الرحم منعا من حصول الحمل، والى الإجهاض في حال تم حدوثه، فقد كانت تربية الأطفال ممنوعة داخل المحل العمومي.

في مدخل المحل العمومي غرفة صغيرة تتواجد فيها دائما مفرزة مؤلفة من عنصرين من رجال الشرطة، لمنع دخول الأحداث وللتفتيش عن الاسلحة منعا من استعمالها من قبل أقرباء الفتيات اللذين يرغبون بقتلهن لغسل عارهم.

للشرطي في المنزول أهمية عظمى، فهو يمنع إدخال الأسلحة والسكاكين والمشروبات ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة.

ويصدف أحيانا أن يعين شرطي متساهل، فيتقاضى مبلغ بحدود الربع ليرة سورية - ارتفعت لاحقا الى ليرة واحدة - لغض النظر عن الشبان القاصرين الذين دون السن القانونية والراغبين في دخول المنزول.

أمام مدخل المنزول مباشرة يوجد مسرح ضخم لتقديم العروض الفنية، مؤلف من ثلاث طوابق، على واجهته الحجرية كتابة قديمة هي (قهوة السلام)، وقد اشتهر آخر أيام عمل المنزول باسم (مسرح غازي)، وكانت الفتيات اللواتي يملكن مواهب فنية يقدمن عروضا فيه، ويسمين حينها الخوجات ومفردها خوجة، ولا يشترط بالخوجة ان تمتهن الدعارة.

في المنزول تقيم عشرات الفتيات البالغات من مختلف الأعمار والجنسيات، وكلهن غريبات من خارج المدينة، فلا تضع السلطة فتاة من ذات المدينة في منزول المدينة، لأنها تتعرض للقتل فورا من قبل أفراد عائلتها.

السبب الأكبر الذي كان يدفع الفتيات للدعارة، ومن ثم الإقامة الجبرية في المحل العمومي بعد القبض عليهن، هو الفقر والظروف الاجتماعية والأسرية السيئة، وأغلب المومسات لسن جميلات.
كانت المشروبات الروحية ممنوعة بشكل رسمي تجنبا للمشاكل التي يثيرها السكارى، ولكن بعض الزجاجات كانت تتسرب للداخل، كما تقدم المطاعم المحيطة بالمحل العمومي أنواع اللحوم المشوية الى داخل المحل.

لا يجوز أبدا إخراج الفتيات من المحل العمومي الى منازل المدينة. ويحق للفتاة يوم إجازة أسبوعي هو يوم الاثنين فكانت الفتيات - في فترة بعد الظهر - ترتدين لباسا محتشما، ويركبن الحنتور مع رجال مفضلين لديهن لحضور السينما.

وفي حال كبرن في السن ينقلن الى منزل قريب يسمى المنزول العتيق، حيث يمضين ما تبقى من حياتهن في عوز وفاقة بالغين.

كان أغلب رواد المحل العمومي من الشباب العازبين والمراهقين ومن العساكر والوافدين الغرباء عن المدينة.

كان للعساكر يوم خاص هو الخميس مساءاً، من الساعة السابعة حتى التاسعة مساءاً، وتم تغييره لاحقاً الى يوم الجمعة، ولهم تخفيض خاص في السعر يصل حتى النصف، ويأتون برفقة عريف ويصطفون بالدور برتل عسكري، قد يصل الدور الى العشرات، وتستبدل يومها مفرزة الشرطة التي تحرس مدخل المنزول بعناصر من الشرطة العسكرية.

في الأربعينات كانت هناك ثلاث تسعيرات متعارف عليها، وهي ليرتين، وثلاث ليرات، وخمس ليرات، تبعا لعمر الفتاة ومستوى جمالها، وقد زادت هذه التسعيرة لتصل الى إحدى عشر ليرة في أواخر أيام المحل العمومي.

يمضي الشاب مع الفتاة فترة قصيرة لقاء هذا المبلغ لا تزيد عن ربع ساعة، في حال رغب بتمديدها لمدة ساعة كان عليه ان يطلب فنجان قهوة ويدفع ثمنا له ليرة كاملة، أما إذا رغب بتمضية ليلة كاملة فيدفع تسعيرة مرتفعة ويسمى هذا الأمر الأنكاجيه (وهي كلمة من اصل لاتيني يستعملها الفرنسيون والإنكليز وتفيد التعليق والانشغال).

بعد وصول الكهرباء للمنطقة، وضُع في أرض حوش كل دار آلة كهربائية تسمى (بيك آب) لإذاعة تسجيلات الاسطوانات، فيضع الرجل ربع ليرة سورية فيها، وينتقي الاسطوانة التي تحمل الأغنية التي يفضلها، لتدار آليا.

ومن اشهر الفتيات اللواتي أقمن فيه في العشرينيات الفنانة (بديعة) اللبنانية الأصل، والتي حملت لاحقا لقبٌ مشتق من حي المصابن القريب من بحسيتا، هي الفنانة الشهيرة (بديعة مصابني)، وكانت تقوم بالرقص والغناء في المسرح المقابل للمحل العمومي، ثم رحلت الى لبنان ثم مصر حيث أقامت كازينو شهير جدا وهو كازينو بديعة مصابني، وقد صدر فيلم مصري شهير بطولة نادية لطفي حول حياتها، وفي آخر حياتها عادت بديعة مصابني الى شتورة في لبنان، حيث فتحت مخزنا صغيرا بالقرب من مزرعة عائدة لها، تبيع فيه الألبان على الطريق العام باتجاه الحدود السورية.

بقلم: علاء السيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى