الاثنين ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٤
بقلم فاطمة المزروعي

حكاية قديمة مستمرة

حكاية قديمة مستمرة، ساذجة، لكنها تحدث، لم يمكنني إلا أن أكتبها هكذا

عندما وظفت في شركة لإنتاج النفط، استشعرت سعادة لا حد لها وأنا جالس على مكتبي في أول يوم لي، إنه عمل حقيقي، ليس كباقي الأعمال التي كنت أعمل فيها وبأجر زهيد، مرة في مطعم ومرة أخرى أطبع الأوراق، أو أنوب عن أحد أصدقائي في محله، حتى يعود. عامان بأكملهما وأنا أدور في نفس الدائرة، عند محيطها، فتعود بي الحياة، لأدور مرة أخرى، وكاد اليأس يحطمني بعد أن أصبحت عالة على والدي، ولكن الفرصة جاءت، وها أنا أعمل في مجال البترول، المجال الذي تقوم عليه دول بأشكال جديدة وحروب...

شعور أيقظ إحساسي بنفسي بغتة، وقَلَب روحي وكياني، جعلني أعيد حساباتي وكل ما تعلمته وتوهمته عن الحياة طيلة فترة الجامعة..

منذ اليوم الأول وأنا أسابق الزمن في عملي، أحاول أن أثبت نفسي للآخرين، وأن أختلف أنا عنها، عن نفسي بالطبع، لئلا أعود إلى ماضيّ المُضني. اندفعت في عملي بقوة مُتجاهلاً الزمن، ومع كل معضلة أثبت أنني قادر على مواجهتها، رغم أنه في كثير من الأحيان تنتابني الرغبة في البكاء لحظة مواجهة أية مصيبة، فأشعر بالارتباك ومن ثم الشلل التام، يبدو أن هذا إرثٌ من الشخص الذي كنته.

بدأت حياتي تمرّ روتينيةً، وهذه علامة جيدة على أنني انخرطت تماماً في الحياة الجديدة، وبدأ طموحي يكبر، والتخيلات تكبر معي، والدائرة تأخذني إلى معالم أخرى. تتسع الدائرة، ومعها تتسع أحلامي وتكبر، حتى شعرت بها – أحلامي ـ شخصية مختلفة عني ومستقلة بشكل جذري. كنتُ كباقي الشباب، لديّ تطلعات، وعندي الرغبة بشراء سيارة وهاتف متحرك وفتاة أغازلها، أظهر شجاعتي أمامها وأحتضنها، لكنني لم أكن كأصدقائي في لامبالاتهم. ثم فجأة تعرفتُ عليها صدفة، صوتها الآتي من السماعة، يجتاز أذني ومساحاتْ من قلبي، لا أحتمله، كنت أنتظر شعوراً مثل ذلك منذ زمن. تمنيت أن ألتقيها.

في الليل.. يرفض النوم أن يسكن مقلتي، رغم تعبي وإرهاقي، وهذا الألم القديم في رأسي الذي يعاودني قبل النوم بقليل. صوتها كان مطرقة من لحم ودم لم تتركني إلا مفتتاً. حين أواجه معضلات جديدة، يستعد عقلي للبحث عن مكان أعيش فيه لحظات من الهدوء النسبي، كنت إذن لا أجد هذا الهدوء النسبي إلا في حياتي السابقة، كيف جعلتني الحياة وحيداً ومشرداً، أتجوّل فيها دون أحد يشاركني معناها، أو يشعر بالألم لألمي، … أليس هذا أفضل مكان للعثور على بعض الهدوء النسبي فيه. المهم، لا أعرف كيف أصبحت هذه العبارة رفيقاً حميماً لي: "يجب أن يفتخر المرء بالتألم.. غالبية البشر لا يريدون السباحة قبل أن يستطيعوا ذلك". لا أعرف لمَ عليّ دائماً أن أعود إلى دائرة حياتي الأولى.

أنا لا أريد أن أسبح.. ولا حتى أن أقف على أرضية يابسة.. كل ما أريده؛ هو قلبها.. لقد استطاع "هرمان هسه" أن يعبّر عن أحاسيسه.. عن ألمه في شخصية "ذئب البوادي".. تلك الشخصية التي أذهلتني بمساحات الألم التي تمتد داخلها، بالرغم من قوتها.. ولكن لماذا أشعر أنا بهزيمتي أمامها، فهي شخصية داخل كتاب. هل الرغبة في الانهزام هي الخوف من المجهول؟ من الأشياء التي نحلم بها ونخاف أن تتحقق، حتى لا نفقد مشاعرنا أو علائقنا الأولى تجاهها. غريبة هي الحياة، كثيراً ما تجبرنا على التخلي عن كرامتنا، وأن ننحني بأعناقنا إليها طلباً لمادياتها. تبَّاً، لماذا أفكر هكذا؟ فليكن، لقد انهارت العراق، وبغض النظر عن فلسطين، وبقية الخريطة المنكوسة بسعادة وتوهم، فقد رأيت أمي وهي تموت على فراشها مستسلمة لحيوان اسمه الزمن.. ووالدي في الحانات يعقرها وتعقره.. وأنا……

صوتها يعود إليّ.. أين أنت يا عزيزي "هرمان" حتى تعاين بنفسك الإنسان المنهزم الذي لا يستطع التحكم في قلبه؟

في الصباح الباكر.. أكون أنا أول الذين يدخلون من باب الشركة، أجلس على مكتبي، وأمامي شاشة الكمبيوتر، ضوؤها المشع.. يكاد يلغي إحساسي بأنني لست أعمى، أزيح النظارة عن عيني، أفركها بيدي، وأبدأ بالضغط على الأزرار بسرعة، وعقليتي تتسارع مع تلك الأرقام والإحداثيات، أشعر بجسدي يطفو بين السماء والأرض، أحلم بأمي وهي تعانقني.. جو الغرفة الصغيرة التي أقطن بها يضايقني.. مديري في العمل سعيد بعملي معه، لم استلم راتبي حتى الآن رغم مضي شهرين، ينتظرون حتى يروا نتيجة عملي، فأنا لا أزال في فترة اختبار. كلّ ما مررت به في حياتي ليس إلا فترات اختبار، ولم يتعدَّ ذلك حتى الآن. أحلم برؤيتها منذ زارني "وجه ذئب البوادي" يطل عليّ وهو يرتدي معطفه الشتوي، بشعره القصير جداً وتعابير وجهه الصارمة، أشعر بملامحه تتلبسني، وأنفاسه تشق صدري. أستيقظ بغتة ـ وأنا غائص في مقعدي ـ على صوت الهاتف، أمسك السماعة بكلتا يديّ، صوتها يداعب قلبي، لا، بل أجنحته، شيئا فشيئا.. يتسلل إلى داخلي، ويحتلني. يخيّل إليّ صوتها عبر السماعة كوجود بلا مبان أسمنتية، فلتسقط الرأسمالية؟ ولتسقط كل الأنظمة في العالم، لم تعد تلك الزوايا في عقلي تحتكر شيئاً بعينه حالياً كما هو المعتاد، أفكار وأمور سياسية وحروب ومعارك وقتال وماديات وغرفة تخنقني برائحتها الوظيفية المدعية، وزاوية صغيرة هناك بالكاد تكفي لفراشي ودوراني حول نفسي أثناء تفكيري قبل النوم...

هيا أنقذني يا "هرمان هسه"، ألم تكتب عن البؤس والشقاء؟ ألم تستدر عطف الناس بكتاباتك؟ لمَ لا يرحمني أحد، إنها القصة القديمة نفسها، هي من قبيلة لها اسم، وأنا ابن فقري وعجزي وضيق غرفتي.. وقد يكون جدي الثالث أو الرابع أعجمياً، قل أي شيء، فوجه أبي يتلصص عليّ من حاناته ساخراً، إنه ينتظر انضمامي إليه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى