السبت ٢١ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم محمد محمد علي جنيدي

حكايــة بلــد

كنتُ كُلَّما سافرتُ إلى بلدِها صباحاً لزيارةِ عَمَّتي العجوز، رأيْتُها تقطعُ الطَّريقَ لتذهبَ إلى محلِ الوردِ الذي تعملُ فيه، فإذا ما التقيتُ بها شعرتُ أنَّ شيئاً ما قد اخترق غَيَاهِبَ سرائري واسْتَحَلّ في كياني كُلَّ هِمَمِ مشاعري، فكم كانَتْ مشرقةَ الطلعةِ، ساحرةَ النظرةِ، فإذا ما مَشَتْ فكأنَّما النَّسِيمُ قد داعب عودَ الرَّيْحانِ وإذا ما نطقتْ فهي تستلهِمُ في وجدانِك أرقَ مشاعرِ الرِّضا والحنين - جميلةٌ إلى أقصى الحدود - ولن تسعفَكَ أبداً في وصفِها سبائكُ الأحرفِ ولآليءُ الأدبِ الرفيعِ ومِنْ عَجَبٍ أن هذا الجمال الربَّاني كان يُخفى وراءه طوفاناً من الأحزان!.

سألتُها ذات يومٍ: ما اسمُكِ، قالتْ: اسمي بلد، فأعدتُ لها سؤالي مُستغرباً، فأجابتْ: نعم أنا بلد! فاسْتَوْقَفني اسمها الغريبُ وصوتُها الجميلُ والَّذي أصبح بعد ذلك باعثاً لأجملِ قصائدي ومِنْ فرطِ الحنينِ إلى استرضائها تجاذَبني الشَّوْقُ إلى سماعِ أنغامِ حديثِها أكثر وأكثر، فقلتُ لها مُداعباً: أختي بلد.. أتسمحين أنْ أكونَ مُواطِناً في مُقْلَتَيْكِ أو لاجئاً إلى راحَتَيْكِ – ابتسمتْ – فكانتْ ابتسامتُها جوازاً بالمرورِ إلى عالمِها الغريب.

وفي ذاتِ يومٍ آخَرٍ وسَفَرٍ آخَرٍ، ذهبتُ إلى محلِها بذريعةِ شراءِ الوردِ منها وعندما وجدتُها بمفردِها وجدتُ نفسي أسألُها في شجاعةٍ غير مسبوقةٍ عن عُنوانِها، أهلِها، كيف تعيشُ؟... الخ، غير أنّها اسْتَحَتْ مِنِّي وتوارتْ خَجَلاً وبَدَتْ على وَجْهِها مسحةٌ كُبْرَى من الأحزانِ.. إلى درجةِ أنَّكَ بسهولةٍ تستطيعُ أنْ تَلْحَظَ (قصة أشجان بلد) بمجردِ أن تقعَ عيناك على عينيها - هنا – نَدِمْتُ على فضولي وشجاعتي العمياء وجُرْأةِ سُؤالي، فقلتُ لها مواسياً أحزانَها الرقيقة: بلد.. إنَّكِ أفضلُ في عيني من نفسي والعالمِ كُلِّه، ما قصدت إيذاءكِ أبداً، تبّاً لي ولأمثالي. وما إن اخْتَتَمْتُ كلماتي هذه حتَّى رَأيْتُها قد أسرعتْ نحوي وكأنَّما وَجَدَتْ فجأةً الأمانَ المفقودَ في حياتِها الحزينة، فقالتْ في عبارةٍ مُتَقَطِّعَةٍ: كما تراني هكذا.. أعملُ في بيعِ الوردِ يا أخي ولكنني وأمي نَقْطنُ في حارةِ الحَدَّادِين حيث تُحاصرُنا شظايا الحديدِ وقوافلُ الدُّخانِ صباحاً ومساء، أليس هذا غريباً؟!.. ثمّ التَقَطَتْ أنفاسَها المُجْهَدَةَ واستَكْمَلَتْ حَدِيثَها في هدوءٍ مُتَسائلةً: كيف يتغيرُ الإنسانُ للضِّدِّ في كُلِّ شيء بغيرِ مبررٍ ولا مقدمات؟!، ثم بَدَأتْ حِكايَتَها قائلةً: أذكرُ جيداً متى كان ميلادُ مأساتِنا – نعم – كان ذلك حينما وضع جارُنا الظَّالمُ يدَه أعواماً عِجافاً على أعرقِ وأجملِ قطعةِ أرضٍ لأمى الغنيَّةِ مُسْتَغِلّاً لنفوذِه تارةً ومُزَوِّراً أوراقاً وتاريخاً تارةً أخرى ثمّ وأنا هكذا أصغي لها وأُتابعُها بكلِّ خلجاتِ نفسي، إذا بها تفاجئني بإعادةِ سؤالِها الذي طَرَحَتْهُ منذ قليلٍ، فتعاودُ قولَها: بالله خبرني.. كيف يتغيرُ الإنسانُ للنَّقِيضِ؟!.. أتعلمُ مَنْ يكون هذا الشَّخص؟! – هو والدي – عُنوانُ عذابي وحيرتي!! لأنني لا أعرفُ كيف يكون الشَّخصُ الَّذي أنصفنا القضاءُ به في قطعةِ الأرضِ المسلوبةِ بجهادِه وحنكتِه وصمودِه حتَّى أعادها اللهُ لنا، هو..هو ذاتُ الشَّخصِ الذي باع كُلَّ أملاكِ أمي تِباعاً بعد ذلك بأوهامِ المستقبلِ الآمنِ وأُكذوبةِ المشاريعِ الذَّكِيَّةِ، فكان حصادُ ثقتِها فيه أن تَزَوَّج عليها مِنْ أُخْرَى وهجرها وهجرنا جميعاً وانتهى المصيرُ بِنَا إلى عالَمِ الحَدَّادِين وانتهى المصيرُ بِه إلى عالَمِ المُرَفَّهِين! وها نحن نعرفُ أين وكيف يعيشُ! وها هو لا يشعرُ بِنَا كيف نجوعُ ونموتُ!!.. حتَّى أنّ رَغِيفَ العَيْشِ لا نحصلُ عليه إلّا بفاصلٍ من قصصِ النِّضَال!! ..ثمّ مَسَحَتْ بحَرائرِ أناملِها لآلئ دموعِها والتي لها فاضَتْ دموعي واتَّقَدَتْ لأحزانِها دقائقُ ضميري ومشاعري، فلَمّا رأتني على هذا النَّحو قالتْ: يبدو أنَّكَ غريبٌ!، فقلتُ: نعم!! وفي زيارةٍ لعمتي العجوز، قالتْ: خَفِّفْ عن نفسِك أخي، يقولُ رَبُّنا (واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ باللهِ)، فانْفَرَط عُقْدُ مشاعري نحوها أكثر وأنْشَدْتُ لِحَقِّها بَيْتاً لأبي فراس الحمداني (وَمَا إنْ شِبْتُ مِنْ كِبَرٍ ولَكِنْ... لَقِيتُ مِن الأحِبَّةِ ما أشَابَا)، فقالتْ: أوَ أنت شاعرٌ، قلتُ: مِنْ عَذَابَاتِ الحياةِ نكتبُ ونبكي ونحترقُ، فابْتَسَمَتْ ولَمْلَمَتْ دموعَها وكأنَّما قد أشرق الكَوْنُ كُلُّه مع ابتسامتِها وفى هذه اللحظةِ كُنتُ قد سَمِعْتُ صَوْتَ القِطارِ مِنْ قريبٍ، فأدْرَكْتُ بأن ميعادَ العودةِ قد حان وقبل أن نفترقَ ونتبادلَ كلماتِ الوَداعِ قالتْ: وما عن قصتي عندك أيُّها الشَّاعر؟ فقلتُ لها وأنا أهُمُّ بالرَّحِيلِ: عسى اللهَ يمنحني حَرْفاً مُضِيئاً في فصولِها، سأبدأُ التِّرْحالَ فيها من الآن، ثم تَباعَدْتُ عنها خطواتٍ، غير أنَّني وجدتُ نفسي أستديرُ لها مُداعِباً شُعورَها الرَّقيقَ بقَوْلي: أختي بلد.. يا أحَبَّ بُلْدانِ الأرْضِ إلى قلبي أستودِعُكِ اللهَ جامع الناسِ وهو خيرُ الحافظين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى