الاثنين ١٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

حوار مع الدكتور جميل حمداوي حول الرواية العربية

هديـــر البقالي - البحرين

 تعتبر الرواية الفن الأكثر تأثيراً وتعبيراً عن تجليات الكتابة، ويكاد ذلك ينطبق على تاريخ البحث عن هوية شخصية داخل الفن الروائي، وهوية تتآلف مع الروائي وشخصياته، وبين هذا وذاك، بروز الرواية كجنس أدبي مستقل عن ذاتها لكونها فن متعدد الأصوات، ألا يعني ذلك بلوغ الرواية مرحلة متقدمة من الوعي المعرفي خلافاً لبقية الأجناس الأدبية الأخرى؟

 من المعروف أن عصرنا هذا هو عصر السرد بامتياز، ولم يعد للشعر تلك المكانة التي كان يتباهى بها في العصور الماضية وبداية القرن العشرين مع المدرسة الإحيائية والرومانسية بتياراتها ومدارسها الإبداعية ( الديوان، وأپولو، والرابطة القلمية، والعصبة الأندلسية)، وشعر التفعيلة في مرحلته الأولى، بل أصابه الكساد إلى حد كبير مع ظهور الشعر المنثور وشعر الانكسار بسبب التجريد المجاني والإيغال في الغموض والانسياق وراء الإبهام. لذا، حلت الرواية محل الشعر، فأصبحت أكثر الأجناس الأدبية قدرة على تشخيص الذات والواقع والكتابة الروائية خلقا وإبداعا ونقدا. وغدت هذه الرواية تقارب التاريخ وتفلسف المجتمع وتنقد الذات العربية من خلال منظورات خاصة ذاتية وموضوعية ، وصارت تطرح الأفكار الإيديولوجية على محك النقاش من خلال استعمال الپوليفونية وتعدد الأصوات كما في روايات نجيب محفوظ ومحمد برادة وعبد الله العروي.
كما صارت الرواية ملتقى المعارف والفنون وخزان الأفكار، فتنامى وعي الروائي بالمقارنة مع وعي الشاعر وخاصة في روايات الأطروحة كما عند عبد الكريم غلاب في روايتيه " دفنا الماضي ، والمعلم علي"، ومبارك ربيع في روايته:" الريح الشتوية"، ومحمد عزيز الحبابي في روايته" جيل الظمإ"، والطاهر وطار في رواياته التي يمجد فيها الثورة الاشتراكية الجزائرية كما في " الزلزال" ، و" اللاز"، و" عرس بغل"،و" العشق والموت في الزمن الحراشي".

وكل من يتصفح الرواية التراثية أيضا فإنه سيجد نفسه أمام خطاب جمالي زاخر بالحمولات الثقافية والمعرفية والتاريخية كما عند جمال الغيطاني في" الزيني بركات" و" التجليات " ، ورضوى عاشور في " ثلاثية الأندلس" ، وأحمد توفيق في روايته" جارات أبي موسى"، وبنسالم حميش في روايتيه:" مجنون الحكم"، و"العلامة"...

ومن هنا، لم تكتف الرواية بتشخيص الذات كما في الكثير من الروايات الرومانسية كروايات أحمد حسين هيكل و المنفلوطي وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وعبد الحليم عبد الله .... أو تصوير الواقع ونقده كما في روايات نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي وتوفيق الحكيم وعبد الكريم غلاب ومبارك ربيع....، بل تعدت ذلك إلى مساءلة آليات الكتابة الروائية كما عند محمد برادة في رواية " لعبة النسيان" ، وعبد الله العروي في روايته"أوراق". ومن ثم، يمكن القول بأن الرواية مسلك من مسالك التثقيف ونشر المعرفة والعلم وتشكيل الوعي لدى القارئ المفترض.

 إن النزعة الشكلية للرواية أخذت تتناغم مع المعطيات الحديثة للنص، في التصورات والبناءات من جهة، ومن جهة أخرى تعرية الدلالات المبهمة للروائي، في استنطاق النص وتفكيك مفاهيمه، من خلال الغوص في أدوات الروائي والإمساك بتقنيته الفنية، فكيف تنظر للروائي حينما يسقط في التنظير والتحليل النقدي؟ وهل تراهن على قدرة الناقد الثقافي في تفكيك آليات الرواية؟

 إذا كانت الرواية العربية قد سخرت جميع طاقتها الإبداعية والسردية لتصوير الذات ونقل الواقع وتسجيله ونقده، فإن الرواية العربية بعد نكسة حزيران 1967 م من القرن العشرين، وبعد انتشار المناهج النقدية المعاصرة كالبنيوية والتفكيكية والسيميائية، واكتساح فكر مابعد الحداثة للساحة الثقافية العربية، انساق الروائي العربي بلهفة كبيرة وراء مستجدات الرواية الغربية مستعملا تقنية تداخل الأزمنة كما في روايتي" الوشم" و" الوكر " لعبد الرحمن مجيد الربيعي، وتوظيف فلاش باك وخلخلة الأزمنة في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للصالح الطيب، وتشغيل نظرية القراءة كما عند المنظرين الألمانين: يوس Yauss وإيزرIzer لدى المغربي عمرو والقاضي في روايته" طائر في العنق" ، وحميد لحميداني في روايته:" رحلة خارج الطريق السيار"، واستعمال تقنية البوليفونية والحوارية في رواية " أوراق" لعبد الله العروي، ونقد الكتابة الروائية كما في:" لعبة النسيان" لمحمد برادة، ورواية" رحيل البحر" لمحمد عز الدين التازي علاوة على توظيف فضاء العتبة عند جيل السبعينيات كصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني وبنسالم حميش وعبد الله العروي...

ولكن هذا التجريب الروائي تحول عند البعض إلى تمارين وتطبيقات سردية وتطبيق ما تبثه السرديات النقدية بشكل مفتعل ومصطنع دون عفوية إبداعية وخلفية نظرية عربية تؤطر هذا التجريب، لأن القارئ العربي ما زال لم يشبع نهمه من الروايات الكلاسيكية والرومانسية.
وظهرت كرد فعل على هذا التجريب الرواية التراثية التي تنهل آلياتها السردية من التراث كما هو الحال عند بنسالم حميش وجمال الغيطاني ورضوى عاشور وأحمد توفيق ومحمود المسعدي في روايته" حدث أبو هريرة قال..."، كما ظهرت مجموعة من الروايات الإسلامية مع الروائي المصري نجيب الكيلاني كرد فعل على الرواية الغربية ذات التصورات الإيديولوجية الشكاكة.
أضف إلى ذلك ، أنه لابد اليوم من ناقد جديد موسوعي الثقافة، قادر على تفكيك الرواية وتركيبها، ومتمكن من آليات الفهم والتفسير قصد الإحاطة بجميع قضايا النص وخباياه الشعورية واللاشعورية، له دراية كبيرة بمفاتيح القراءة والتقويم والتوجيه. أي تستوجب الرواية الحديثة اليوم قارئا ثقافيا له باع كبير في مجموعة من المعارف والعلوم والفنون لكي يعطي للرواية نكهتها الخاصة ولذتها الإبداعية الحقيقية من خلال تبني مناهج نقدية حداثية معاصرة .

 تتبنى بعض الروايات منحنى الخرافات والتعاويذ وعوالم شاذة بعض الشيء، فترتحل باتجاه الميثولوجيا والميتافيزيقيا، وبالطقوس الغرائبية على المجتمع، قد تكون ساحرة ومفتنة للراوي، وقد تكون مثيرة لمتعة القارئ وحده، ألا تجد بذلك متعة تقترن بالروائي خاصة لإثارة خاصية السرد؟

 من المعروف أن الرواية العربية لم تكتف بتصوير الذات والواقع والكتابة ، بل تناولت مواضيع مثيرة كالمواضيع البورنوغرافية مع الروائي محمد شكري في" الخبز الحافي" ، والطيب صالح في روايته" موسم الهجرة إلى الشمال "، أو مواضيع إيروسية كرواية المغربي عبد الحكيم أمعيوة " بعيدا عن بوقانا"، كما تناولت موضوع السجن السياسي ومصادرة حقوق الإنسان كما في روايات صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني وعبد الرحمن منيف وعبد الرحمن مجيد الربيعي....

كما عالجت الرواية العربية مواضيع إنسانية واقعية عبر أجواء أسطورية وميثولوجية وميتافيزيقية كما في رواية:" بدر زمانه" لمبارك ربيع ، و" طوق السراب " ليحي بزغود، ورواية:" أوديسا الصعود والهبوط والحب" لمحمد الصاوي، وانتقلت الرواية أيضا من العوالم الخرافية إلى العوالم الفانطاستيكية الغرائبية للتأشير على انتقال الإنسان من العقل والوعي إلى اللاعقل واللاوعي قصد التنديد بمواصفات الواقع الدنيئة ومواضعاته المهترئة واحتقار السلطة التي تنشر الإجرام والظلم ، ونقد الإنسان الذي علبته حضارة الأرقام وحنطته الماديات، وهذا واضح في رواية "سماسرة السراب " لبنسالم حميش، ورواية " أحلام بقرة " لمحمد الهرادي، ورواية" الجرذان" ليحي بزغود، ورواية "نوار اللوز" للجزائري واسيني الأعرج...

ولم يوظف هذا الخطاب الفني والجمالي والمرجعي الأسطوري والفانطاستيكي إلا لهدفين أساسين: الهدف الأول يراد به إمتاع القارئ المفترض ودغدغته ذهنيا ووجدانيا وفنيا، والهدف الثاني هو أن الروائي يستمتع بعمله الذي حقق فيه لذة النص عن طريق تحريك القطب الفني والقطب الجمالي لإثارة المتلقي المحتمل الذي سيدخل في علاقة تفاعلية مع النص انسجاما مع توقعاته، أو تخييبا لأفق انتظاره، أوتأسيسا لذوق جديد.

 يعتمد الروائي إلى حد كبير على ذائقته الأدبية، في البحث عن أصول الأشياء وكشف خفايا النص، فتراه أحياناً يراهن على مستويات اللغة في الإيقاع والتشكيل، والتأويل والتفسير، فيا ترى، أتراهن في محيط لغتك على القارئ الافتراضي أم على لغوية الكتابة، وهل تكتفي بمستويات معينة من اللغة؟

 لايمكن لأي روائي عربي أن يحقق شهرة أدبية إلا إذا تمكن من اللغة السردية تمكنا كبيرا، وبالتالي، كان قادرا على تطويعها وتسخيرها في التعبير والتجسيد والتجريد مستعملا الطاقة البلاغية بكل آلياتها الفنية وأدواتها المجازية والرمزية والإحالية، مع إتقان كيفية توظيف لغة التشبيه والاستعارة والمجاز المرسل أو العقلي واستخدام الكنايات والرموز والأساطير من أجل خلق نص أدبي ممتع ومتنوع. وينبغي أن تكون لغة الروائي سليمة من الأخطاء والهفوات، تنساب عذوبة وصفاء وسلاسة.

لذا، فقد رأينا مجموعة من اللغات تستعمل طوال مسيرة الرواية العربية وهي : اللغة الرومانسية، واللغة الواقعية، واللغة الطبيعية، ولغة التجريد والشاعرية الرمزية، واللغة التراثية. كما يلتجئ الروائي إلى المزج أيضا بين العربية الفصحى والعامية المحلية، أو الانفتاح على اللغات الأجنبية الأخرى للتعبير عن ظاهرة المثاقفة أو التعبير عن خاصية الاحتكاك الحضاري والانفتاح على الآخر.
ومن الروايات التي تشتغل على اللغة التراثية نذكر:" الزيني بركات" لجمال الغيطاني، ورواية:" مجنون الحكم "، ورواية:"العلامة" لبنسالم حميش، ورواية " جارات أبي موسى"لأحمد توفيق . وتتقابل هذه اللغة مع اللغة الشاعرية الرمزية أو ما يسمى عند إيڤ تادييه Yve Tadiéبالمحكي الشاعري كما نجد ذلك في روايات أحمد المديني ولاسيما روايته " زمن بين الولادة والحلم"، ورواية " سوانح الصمت والسراب" للروائي المغربي جلول قاسمي.

وعليه، فهناك من الروائيين من يستعمل لغة عادية واقعية في أبعادها التعبيرية والتأثيرية ، وهناك من يستعمل لغة شاعرية لخلخلة الجنس الروائي ونسفه داخليا وتحويله إلى خطاب شاعري رمزي مغلف بالتجريد ، وهناك من ستعمل لغة متعددة الأصوات كالتهجين والباروديا والتناص والحوارية وتشغيل صورة اللغة والطاقة البلاغية وتنويع الأساليب كما في العديد من الروايات التراثية عند جمال الغيطاني وبنسالم حميش ومحمد برادة وإميل حبيبي ورضوى عاشور ومحمود المسعدي.
ومن ثم، فكثير من الروائيين العرب مهووسون بلغة الكتابة لتخييب أفق انتظار القارئ كما هو حال رواية إميل حبيبي" الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" التي تقوم على المستنسخات النصية والإكثار من الإحالات التناصية والمزاوجة بين لغة معاصرة ولغة تراثية، وكل هذا من أجل خلق قارئ افتراضي واع بالعمل الأدبي.

وينتج عن هذا الطرح، أن لكل رواية قارئها، ويتنوع هذا القارئ حسب طبيعة الرواية ، فننتقل من قارئ عاد يحب قراءة الروايات الكلاسيكية إلى قارئ مثقف واع يستطيع قراءة الروايات التجريبية والنصوص الحداثية. لذا، تبقى اللغة مؤشرا حقيقيا على طبيعة جودة الرواية ومصداقيتها الفنية. كما أن هناك من الروائيين من يستحضر القارئ في الكتابة أثناء انكتابها، وهناك من يتكئ على اللغة وآليات الكتابة والإبداع لكسب الحداثة والسبق الفني .

 تعالج الرواية السياسية القضايا الكبرى التي تندرج تحت موضوعات الأنظمة العربية، وقيم المجتمع المدني، والدولة الحديثة، وما يستتبعها من انهيار للسلطة، والفساد السياسي، والسجون السرية، وضحايا التهميش، وسوط الجلاد، في رأيك، أيسعى الروائي إلى التعايش النقدي والواقعي مع الخطاب السياسي؟وما أثر الخصائص الأدبية في تمثيل وتفعيل الخطاب السياسي والأدبي في آن واحد؟

 تركز الرواية السياسية غالبا على القضايا السياسية المحلية والوطنية والقطرية والقومية لمعالجتها ضمن توجهات مختلفة ومحاور متعددة مستوعبة المراحل المتنوعة التي مرت بها القضية مع وقفات عند أحداث معينة لها خصوصيتها المتميزة. كما تنبني هذه الرواية على تبئيرالسلطة والحكم مصورة الاستبداد ومصادرة حقوق الإنسان والزج بالمعتقلين السياسيين في سجون الظلم والقهر. وبذلك يتم التأشير على الخطاب السياسي والعقيدة الإيديولوجية والرؤية السياسية إلى العالم وعلاقة الإنسان بالسلطة ومنظوره إلى واقعه الضيق أو الواسع.

ولقد أصبحت السياسة محورا فكريا في الرواية المعاصرة ، مهما تنوعت مواضيعها، وتعددت أبعادها الاجتماعية والواقعية، وجنحت إلى الحداثة الشكلية والتنويع الفني. فإن الرواية تعبر عن الأطروحة السياسية إما بطريقة مباشرة وإما بطريقة غير مباشرة. لذلك نقول: إن السياسة حاضرة في كل الخطابات والفنون والأجناس الأدبية. وتتمظهر بجلاء ووضوح في فن الرواية التي تعكس نثرية الواقع وصراع الذات مع الموضوع والصراع الطبقي والسياسي والتفاوت الاجتماعي وتناحر العقائد والإيديولوجيات والتركيز على الرهان السياسي من خلال نقد الواقع السائد واستشراف الممكن السياسي.

وتستند الرواية السياسية أيضا إلى بلاغة الإقناع والدعاية والتحريض والالتزام وتبليغ الأطروحة المقصودة بشتى الوسائل لأن الغاية تبررها وتعضدها . كما تنبني على بلاغة التكرار لتحريك الشعور السياسي والإيهام الثقافي. وتلتجئ هذه الرواية إلى السرد التفصيلي والحوار التسجيلي والمنحى الواقعي لتسجيل المعطى وتهويله وتصويره سلبا أو إيجابا. وتشحن الرواية ذات الأطروحة السياسية بتعاليم تنزع إلى توضيح حقيقة عقائدية وسياسية، وتصبح هذه التعاليم العقائدية السياسية بؤرة تعكس مفهوم الأطروحة في الرواية.

ويضطر الروائي في هذا النوع من الروايات إلى اختلاق شخصيات متصارعة وتهيئ برامج سردية ذات مواقف متطاحنة خدمة منه للأفكار والولاءات السياسية آو الإيديولوجية للقارئ. وتتأرجح الرواية السياسية بين الجانب الروائي والجانب الأطروحي.

وإذا كانت الرواية السياسية سواء الكلاسيكية منها أم المعاصرة تنصب على الحاضر و تعالج الراهن بطريقة سياسية مباشرة أو رمزية لتصوير غياب الديمقراطية و انعدام حقوق الإنسان و نقل عذاب الإنسان في السجون والمعتقلات السياسية و مارستانات التعذيب و "التجنين" و "التحميق"، و ما يتعرض له السجين من نفي و إقصاء و تصفية و تنكيل وقهر من قبل السلطات الحاكمة أو السلطات المستعمرة، فان أغلب هذه الروايات سقطت في أدب الدعاية و أحادية الإيديولوجية و رفع شعارات التحريض و الثورة و محاكاة الواقع بطريق سطحية مما أوقعها في الابتذال و التجاوز الفني لها، ناهيك عن سقوطها في التقريرية وأدب الوثائق والبرامج السياسية مما جعلها بعيدة عن الخلود الفني و المتعة الجمالية وإثارة المتلقي إقناعا و إمتاعا و تأثيرا.

أما رواية التخييل السياسي، كما عند بنسالم حميش في رواية "بروطابوراس ياناس"، ورواية: " محن الفتى زين شامة"، ورواية" العلامة"، و جمال الغيطاني في رواية" الزيني بركات"، فقد حققت نجاحا كبيرا في التأثير على القراء و تمتيعهم، إذ اعتمد كتابها على استلهام التراث التاريخي و الفلسفي و الصوفي والسياسي للتعبير عن الحاضر بطريقة فنية جميلة قائمة على التهجين، والباروديا (المحاكاة الساخرة)، و الأسلبة، و المفارقة، والتناص، و المعارضة، و محاكاة المصادر و استعمال المستنسخات. فنقل أصحاب هذه الرواية القرار إلى استغوار اللاشعور السياسي و اكتشاف مكبوتات التسييس و تجلياته في "الطابوات"، كما رحلوا به إلى أجواء التراث الوسيط بالخصوص و الزمن الماضي لمعايشة الأجواء السياسية وتناقضات المجتمع و صراع الإنسان مع السلطة القاهرة ليقارنوا ذلك بعصرهم المكهرب الذي يعيشون فيه، كما تخيلوا حاضرهم سياسيا و ذلك من خلال الموروث الرسمي أو الشعبي.

ومن هنا، فقد عايش الروائيون العرب المحدثون الواقع السياسي وصفا ونقدا من خلال تجسيده على الورق بطريقة مباشرة وغير مباشرة ، مستعملين في ذلك الترميز وتوظيف الأقنعة التراثية وآليات التعبير الحداثية والكلاسيكية على حد سواء.

 يمثل الأدب المقارن ميادين بحثية معاصرة كصورة الآخر، ودراسات الترجمة والمثاقفة، والعولمة، ويعد من أحد المناهج التي تجادل حقول الأنظمة المعرفية وسوسيولوجية الأخرى، بالإضافة إلى علاقة الأدب مع مختلف العلوم الإنسانية، في تصورك، هل يمكن أن يكون للأدب المقارن بعداً ثقافياً ،وإنسانياً؟، وكيف تقرأ عملية الربط ما بين دراسات النقد الثقافي وأدوات الأدب المقارن؟

من المعلوم أن الأدب المقارن حقل معرفي جديد يحاول معرفة التأثيرات الموجودة بين الآداب الإنسانية العالمية، وتحديد الأصول والمصادر الأولى التي تحكمت في إنتاج الإبداعات الأخرى، كما يسعى هذا الحقل المعرفي إلى معرفة القواسم المشتركة بين الإبداعات العالمية والسمات التي تختلف فيها، كما تساعدنا الدراسات المقارنة من بناء خطاب استعلاماتي لمعرفة كيف تفكر الشعوب الأخرى ، وكيف يمكن معرفة نقط ضعفها والمشاكل التي تعاني منها، والدليل على ذلك أن الخبراء الإسرائليين كانوا يدرسون جيدا أدب نجيب محفوظ لمعرفة أجواء مصر بصفة عامة والقاهرة بصفة خاصة لتحويل مضامينها إلى خطاب استعلاماتي مخابراتي.

هذا، وإن مقاربات الأدب المقارن عديدة ومتنوعة، فهناك من يركز على المضمون، وهناك من يركز على الشكل، وهناك من يختار الداخل النصي، وهناك من يفضل الخارج التناصي والمرجعي.

وعليه، فللأدب المقارن عدة وظائف هامة منها : الوظيفة الثقافية التي تتمثل في معرفة إنتاجات الشعوب الأخرى، ومعرفة ما لديهم من أفكار وتصورات ومشاريع ونظريات، والتعرف على مشاكل المجتمعات المضادة أو المجاورة أو المتقابلة لمدارسها وتحليلها وتوجيهها الوجهة السليمة ، وتحديد قضاياها الإنسانية والمجتمعية والتعرف على أدبائها مع ترجمة إبداعاتنا وتقديمها إلى هذه الشعوب لخلق مثاقفة حقيقية بناءة قصد بناء علاقات إنسانية متكافئة مبنية على التواصل الحميمي والتعايش والتعارف والتعاطف والتكامل الإدراكي بدلا من التنافر والصراع الجدلي والعدوان.
وهناك الوظيفة الثانية للأدب المقارن وهي الوظيفة الإنسانية التي تهدف إلى بناء علاقات إنسانية قائمة على التسامح والتضامن والتعايش المشترك بعيدا عن الإرهاب والتطرف والتهميش والإقصاء.

فمن خلال توظيف الأدب المقارن توظيفا جيدأ ، يمكن إثراء الأدب العالمي وبلورته في خطابي ثقافي إنساني منصهر داخل بوتقة التعاطف والتعاون والتآزر إنسانيا. وهنا لابد من تحريك الترجمة والتعريب ومدارس اللغات الأجنبية وتشجيع الدراسات المقارنة في مؤسساتنا ومعاهدنا التعليمية من خلال التمكن من أدوات الأدب المقارن الذي يستند إلى المقابلة وقراءة الأفكار والتيارات وعقد مقارنات وموازنات مضمونية وشكلية لمعرفة المصادر والأصول أو اللجوء إلى النقد الثقافي لتفكيك أركيولوجيا خطاب الآخر تفكيكا وبناء لمعرفة الثوابت والمتغيرات في الفكر الإنساني، وتحديد وظائفه وانتقاد التصورات الإيديولوجية وممارسة سلاح الاستغراب في وجه سلاح الاستشراق.

  لماذا يعد النص الروائي تيمة أساسية للروائي وكيف تنظر إلى السرد المابعد حداثي حينما يتألق داخل حدود النص؟

يسعى الروائي المعاصر إلى سبق حداثي وتميز روائي وطني أو عربي أو دولي عن طريق التجريب وخلخلة النسق الروائي دلالة وصياغة وتشكيلا. ونظرا للتأثر والانبهار بفلسفة ما بعد الحداثة ، والاستفادة من التيارات البنيوية والسيميائية والتفكيكية وجمالية القراءة، بدأ الروائي العربي يهتم بالجوانب الشكلية والفنية، ويسائل النص الروائي بشكل جزئي وكلي في أبعاده الدلالية والفنية، ويخضعه للسبر والتشريح والتنقيب قصد تفكيكه وإعادة تركيبه من خلال تشغيل البوليفونية وتوظيف جمالية القراءة ، والاهتمام بماهو جمالي على حساب ماهو مضموني، حتى أضحى الحديث اليوم يدور عن نص جديد هو النص اللاروائي.

ومن الروائيين الذين شكلنوا رواياتهم نذكر : محمد برادة في" لعبة النسيان"، وأحمد المديني في روايته" زمن بين الولادة والحلم"، وحميد لحمداني في :" رحلة خارج الطريق السيار "، وعبد الله العروي في:" أوراق"، وعمر والقاضي في روايته " الطائر في العنق"...

 ظل مفهوم أدب المنفى، أزمة الذات العربية في التحرر من براثيين التشرد، والهجرة القسرية، والنفي المحرض من قبل الأنظمة الدكتاتورية، وشيئاً فشيئاً، أصبح أدب المنفى، ظاهرة تاريخية في رصد موضوعات يتفرد بها الروائي بجماليات خاصة في الكتابة، والتأمل، ترى، كيف يمكن التعامل مع ظاهرة المنفى وأزمة الذات؟

عزفت كثير من الروايات العربية على أوتار الغربة والمنفى كروايات عبد الرحمن منيف وروايات عبد الله العروي وصنع الله إبراهيم وعبد الرحمن مجيد الربيعي. بيد أن الطريقة التي نراها أفضل للتعبير عن هذه المواضيع التي تؤرق الإنسان العربي أن نلتجئ إلى القالب التراثي لتأصيل المحكي الروائي العربي بدلا من السقوط في التقليد والتجريب المجاني ومحاكاة الغرب في تقنياتهم السردية. نريد خطابا نحاور فيه التراث من خلال تشغيل المستنسخات التناصية وتوظيف طرائق الكتابة العربية الأصيلة وخلق أجواء تراثية عبقة لإمتاع القارئ وتثقيفه .

فعندما نريد التعبير مثلا عن الغربة، فلماذا لانختار شخصية أبي حيان التوحيدي للتعبير من خلالها عن اغتراب الذات المثقفة المعاصرة وتبيان شجونها وهلوساتها وصراعاتها النفسية الداخلية والموضوعية؟! وحينما نريد التعبير عن أدب المنفى فثمة شخصيات عدة تعرضت للسحن والتعذيب القسري ، فمن خلالها نستطيع أن نبني خطابا روائيا إنسانيا ممتعا ومثيرا كما فعل بنسالم حميش في " مجنون الحكم " ، وجمال الغيطاني في:" الزيني بركات" .

 كلمة أخيرة، توجهها إلى الروائي العربي؟

أطلب من الروائي العربي المعاصر أن ينوع كتاباته السردية صياغة ودلالة ومقصدية ، وأن يتفادى الاجترار والتكرار ومعالجة نفس المواضيع والتيمات التي عالجها إخوانه العرب أو الكتاب الغربيون، وأن يقرأ تراثه جيدا بشكل عميق وواع ، وأن يستوعب تقنياته الجمالية وطروحاته الفسلفية والإنسانية، وأن يكتب رواية غير غربية، أي عليه أن يبحث عن قالب متميز حداثي لايبعده عن أصالته، ولا ينسيه حاضره وخاصيته المعاصرة . ويعني هذا أنه من الأفضل أن يوفق بين الماضي والحاضر، وأن يزاوج بين الإمتاع والإفادة، وأن يشتغل روائيا وسرديا وفلسفيا ضمن رؤية أصيلة لكسب الحداثة العالمية والدخول في العولمة ولكن دون التخلي عن خصوصياته الحضارية وقوالبها الجمالية والفنية .

لذا، أرى أن الرواية التراثية أو الرواية الأصيلة هي الطريقة الفضلى في التعبير والكتابة والإبداع والتميز بدلا من الانسياق وراء الوصفات الجاهزة للنقد السردي الغربي المعاصر الذي يسقط روائيينا في التقليد والاجترار والتمرينية القاتلة.
هديـــر البقالي - البحرين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى