الأربعاء ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧

حول رواية سليم بركات «السلالم الرملية»

ابراهيم محمود - عن السفير

بعد روايات ثلاث، تتشابه في مناخاتها الفانتازية، هي (كهوف هايدراهوس 2004 ـ ثادريميس 2005 ـ موتى مبتدئون 2006)، تأتي رواية (السلالم الرملية) لسليم بركات، التي صدرت بدورها أيضاً عن المؤسسة العربية، في بيروت، حديثا، وفي (120 صفحة ونيّف)، دافعة بالفانتازيا إلى مدى بعيد أكثر، حيث يحتاج القارئ المهتم، إلى بذل الكثير من الجهد في القراءة المركّزة، ومحاولة معرفة الرموز، وصلاتها مع بعضها بعضاً، حتى يستطيع الربط بين مكونات الرواية، أو تتبع حدود معالمها الأدبية دلالةً.

الروائي والشاعر أصلاً، يتحدى قارئه، وربما يتحدى ذاته، في روايته هذه الغارقة في الرموز، التي يصعب التواصل معها في تداخلاتها وتزاحماتها، كما لو أنها رواية رموز، وليس رواية رمزية، من خلال مجموعة لافتة من الأسماء الغريبة، شأنها في ذلك شأن روايته السالفة الذكر، وهذه بدورها لا تنفصل عما أثاره معمارياً في روايات أخرى لـه، مثل (الفلكيون في ثلاثاء الموت «ثلاثية» ـ الأختام والسديم)، ولكنها تتجاوزها من جهة المكان المتخيَّل، وحالة ما بعد الفانتازيا هذه، حيث تبدو علاقة الرواية مع الكتابة، وفي روايته هذه بالذات، أكثر من رواياته الثلاث المذكورة آنفاً، أبعد من كونها علاقة روائي برواية تُطرَح للقراءة والمناقشة.

من النفق تخرج الرواية، وفي النفق تبقى دلالياً، حيث قطار يأتي ويذهب، القطار الزمن، ربما، وهو يقذف بركابه، ويظهر تعِباً ومتعِباً معاً، في إقليم «كاروكشين»، وعبر أشخاص غامضين، وثمة رجل يسأل من يلتقيه فيما إذا كان يسأل عنه دون جدوى (عشرة أنفار، أو أكثر، تجاهلوا سؤال الرجل الأنيق، حادوا عنه، وأكملوا عبورهم إلى منابت الخطوط في عالم الأعالي، خارج نفق «سودرمالم» ـ محطة الأٌففال المهمَلة. ص 5)، لتبقى الرسوم الموجودة على جدران النفق متحدية صاحب السؤال، حيث (دار بعينيه القلقتين على رسوم الجدران، التي أنجزت على أنقاض رسوم قديمة. ص 5).
الجهة سويدية، لكن المكان الذي يمكن تحرّيه في غاية الغموض، والأشخاص محكومون بقدر عنيف، حتى وهم يظهرون طلقين، مندفعين إلى الأمام، كما في حال الأنفار التسعة أصحاب الجمال (118)، ولكنهم بدورهم غامضون، حيث الرمل يتحدى الجميع هنا، وهم يريدون استقراراً، الرمل الذي يأتي على ما عداه، كما هي الرسوم، وثمة من يريد تجاوزه، ثمة من يريد الوصول إلى الهدف، البحث عن نبي قادم (ص 9)، كحال بيغون وبالبور، ومعهما ما يدلهما على ذلك (سبع رقاع في خرج بيغون. سبع في خرج بالبور. جلود لينة، ملساء، ثماني أقدام طولاً، وخمسٌ عرضاً للرقعة الواحدة، سينسخ عليها الرجلان كتاب «التمويه على الأقدار المعلومة، في إقليم مودابوك»... ص 36)، ولاحقاً، يختفي بيغون، ليحل محله سواه، وهو باكالبا، ولكن ما هو هذا الكتاب؟ إنه (كتاب تدريب للأقدام على ارتقاء السلالم الرمل، واختبار للكلمات بإعادتها إعياء، ووصف للمعجزات بوصفها دنساً محتملاً.. ص 117).
السلالم الرمل، وليس السلالم الرملية، كما هو العنوان، وكما هو دأب بركات، في الوصل بين الصفة والموصوف، ليكون الموصوف في مقام الصفة، تعبيراً، عن عنف لغوي معتمَد، في عنف لغوي معهود، لسان حاله في تأكيد ذاته الكاتبة، وعلامة فارقة لمجمل ما يكتب.
ثمة سيولة هائلة في المماحكات الكلامية، في إزاحة الكلمة عن موضعها المألوف، في سرد الغريب، كما هو في أعماله السابقة (الأخيرة خصوصاً)، من جهة إشرك الحيوان خصوصاً (الحمامة المتآكلة، الصقر، اليمامة، ابن آوى، الذئب خصوصاً...)، وهناك الحجر والمعدن والنبات كذلك.
التكرار

ثمة الكثير من الصياغات ذاتها، تتكرر، كما هي في رواياته السابقة، كاللون قبل كل شيء، اللون الذي اعتمد الرمز الأكبر، والمكرّر كثيراً في (ثادريميس)، والحلم والغريب في الروايتين الأخريين، والمكان (هوداهوس ـ أودن ـ ثاروس وهيكو..).
كثيراً ما تظهر اللغة معدِمة الحدث، في منافحة لغوية، أو في ضروب من الإنشاء اللغوي، معهودة في روايات بركات الأخيرة، (كما في البارحة خطأ اليوم. ص 15 ـ الغد خطأ، سهواً. ص 15 ـ البحر ضعف في منطق الرسم، ثرثرة في منطق اللون. ص 18 ـ الخيبة علم. ص 19 ـ الخصية حجاب لا يراه إلا مثلي. ص 25 ـ الرسم شجار بين الأصل والنسخ. ص 37 ـ النبوة قسَم الطبائع. ص 47 ـ الآلهة عصيان لغوي. ص 52 ـ الخطأ غفران لغوي. ص 56 ـ المأساة طبع كروي. ص 79 ـ البياض لذائذ الشك. ص ...81 الخ)، إفصاحاً ما، عن وضع المتوحد الذاتي المأخوذ بذاته، وهذا ينطبق على اللون الأثير عنده في أعماله الشعرية والروائية، كما في الحديث عن (شفرات اللون. ص 17 ـ قال ذو اللون المتدلي عنباً غريباً في دالية لون الانسان . ص 25 ـ كي تعيد اللون إلى معركته الأولى في مزج الأشكال. ص 31 ـ خلف اللون في الرسوم. ص 46 ـ شرق اللون، وغرب اللون. شمال اللون. جنوب اللون. شمال شرق اللون. شمال غرب اللون. جنوب شرق اللون. جنوب غرب اللون. ص49 ـ سيكون اللون سعيداً، في الأرجح، إذا اعتبرتِ فرج أمه اتجاها ـ لونٌ نبيٌّ هذا السواد. ص ...68 الخ)، ربما، تعبيراً عن فعل الحقيقة، وعنها.
هذا ينطبق على الأوصاف أو الصفات الأخرى والمكررة (شفرات اللون. ص 17 ـ استنزاف الكلمات بشفرات لسانها العجول. ص 27 ـ شفرات الظلال ص 31).

بركات، يشتغل على المفردة، وفي عالم ما بعد فانتازي، كما أرى، أكثر مما يشتغل على الحدث، أكثر مما يعنيه الآخر: القارئ، وهو في عزلته البعيدة، في محيط العاصمة السويدية، في ضاحية سكوغوس، وهو يمضي قدماً، من بؤرة توتر خيالية إلى أخرى، وهو يغرق عالمَه بالمفارقات التي تبقي القارئ في مواجهة ما يقرأ، من جهة المعنى والدلالة.
طبعاً، سيكون من العبث، السؤال: عما إذا كانت الرواية تعدم فكرتها، التي لأجلها صيرت رواية، عما إذا بركات، قد فقد الاتصال بالرواية القائمة على حدث يتفعل أرضياً. إنه كاتب كبير، ولديه الكثير ليقوله، ولكنه، وفي هذه الرواية بالذات، وهو يواجه قارئه ـ نفسه، من خلال مجموعة الرموز: الرسوم الموجودة على جدران النفق، الرقاع الموجودة، أصحاب الجمال، يالوه الأب الباحث عن النبي، الذئب الأحمر وتداخلاته... الخ، بما من شأنه إرباك الرمز ذاته.
النهاية ذاتها مقلقة ومعذّبة للقارئ هنا، عندما يمتنع أصحاب الجمال عن قتل اللذين يحملان الرقاع، ومن خلال أحدهم (لا نقتل من لم يتدبروا لأنفسهم نبياً بعد)، ومن ثم النهاية المغلقة المربكة كثيراً (اختبلت النظم الصغيرة في صحراء لوكهين، وأغمي على النظم الكبيرة. ص 120).
تنتهي الرواية، لكن الحديث يتفعل في الصورة البصرية، في الواجهة، بصدد الممكن تسميته هنا.

ما تكونه الصحراء من فعل عدمي، من متاهة تاريخ، من زمن تضيع جهاته، من مفارقات الواقع، من علاقات قهر قائمة بين الأقوى والأضعف... الخ، وتبقى عزلة القارئ في ما هو فيه، صدمة قراءة الرواية بالذات، أو صدمة بركات العنيـفة في ما ابتدأ به، واختتم به روايته.
إن ما يمكن التوقف عنده، هو: هل توقف بركات في علاقاته الكتابية، تلك التي تسمح لـه، بتقديم أعمال عرِفت كثيراً وذاع صيتها، كما في حال (فقهاء الظلام ـ معسكرات الأبد ـ الريش ـ أنقاض الأزل الثاني... الخ)؟ أهو فعل المكان فيه، أم ما هو أبعد من ذلك، وهو مأخوذ بفتنة العزلة، كما هو معروف عنه، ليكون لوذه بالخيال، وما وراء الخيال، تعويضاً لـه عن العالم الذي يفتقده، العالم الذي هجره لأسباب مختلفة، في محيط قامشلي وعامودا، والعالم الذي أقام فيه، وأبدع من خلاله، في محيط بيروت، ومن ثم في محيط قبرص، ليكون استقراره المتوتر، منذ تسع سنوات في السويد؟ ولتأتي قائمة العناوين هذه، تركيباً لعالم مختلف كلياً تقريباً. ولكنه التعويض التقويض، كما أرى، لسلسلة من صلات الوصل ببركات كما كان، لصلات الفصل بما لم يعد في مقدوره الوصول إليه، وجعله المادة الحية والملهمة لكتابة مفتوحة على الآخر، حيث أعماله الأخيرة، وهذا العمل الأخير تحديداً، أشبه بمعسكر مغلق، حيث مجمل ما يمكن أن تؤوَّل به الرواية، يكون في حدود التكهن، الضرب بالرمل، كما هي الرواية بالذات، الرواية التي ربما بركات ذاته، لا يتمعن فيها في مآلاتها، وهو المقيم مع ذاته في عالمه البعيد، وربما مع صوره المختلفة التي تظهر على أغلفة كتبه، تعبيراً عن وضع نفسي آخر، وفي وضع إعلاني لافت.
نعم، ثمة الكثير من المشاهد، من الصور، من التداعيات المكانية، من الغرائبيات في القول، من الأسماء الغريبة بدورها، من الإنشائيات الغريبة التي باتت مألوفة، ولكن الرواية كرواية يمكن قراءتها، وكرواية، غير موجودة، حيث تكون (السلالم الرملية) رملية الرواية في المجمل هنا.

ابراهيم محمود - عن السفير

مشاركة منتدى

  • أحبائي
    المبدع الكبيرسليم بركات تدور دائما حول ابداعاته مسائل جدلية
    سليم بركات يكتب وفي ذهنه وعلى طرف قلمه حروف ومفردات القضية
    الكاتب يريد أن يفصح ويوضح الكثير من الأمور لكنه يتلاشى المشاكل السياسية
    أحبائي
    دعوة محبة
    أدعو سيادتكم الى حسن التعليق وآدابه...واحترام بعضنا البعض
    ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
    جمال بركات...مركز ثقافة الألفية الثالثة

  • نعم أستاذنا الأديب الكبير الرمز جمال بركات
    أديبنا الكبير سليم بركات مثير للجدل في كتاباته لأنه يتناول قضايا
    ونحن في عالم يتحدث كثيرا عن قيم وحقوق للإنسان ولكنه للأسف لايطبقها
    ولو طبقوا قيمة واحدة مما تنادي بها من قيم الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء لما بقي في الأرض أي مشكلة ولتغيرت قضايا سايم بركات وقضايانا
    تحياتي ومحبتي
    د درياي شنيار

  • احب ابداعات أستاذنا الأديب الكبير جمال بركات التي تدعو دائما الى ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء وهو الرمز الذي عايشناه ومازلنا نقتدي به....
    وأحب ابداعات الكاتب الكبير سليم بركات الذي يدافع بقلمه وابداعه عن قضيته المؤمن بها وعن أحلامه التي لم يسمح له البعض ان ترى النور فاكتفى بأن تسطر على الورق
    تحياتي للبركاتين الكبيرين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى