الثلاثاء ١١ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم مفيد فهد نبزو

حَلَق الذَّهَب

قصة للأطفال

عندَما رأتْ آية زَمِيلَتَها تُقى في المدرَسةِ وهِيَ فَرِحَةٌ لأنَّ أباها اشتَرى لها حَلَقاً مِنَ الذَّهَب، وقد وَضَعَتهُ فِي أذنَيهَا، حِينهَا بدأتْ تَنظرُ إلى الحَلَقِ، وتَتخيَّلُ أنْ تَضَعَ فِي أذنَيها واحِداً مِثله.

ولدَى عَودتِها إلى البَيت، أخبَرَتْ أمَّها بهذهِ الأمنِيَة، وطَلبَتْ مِنها أنْ يبتاعَ لها أبُوها حَلَقاً كذاكَ الّذي عِندَ تُقى.
قالتْ أمُّها: ظُروفُنَا لا تَسمحُ يا بنَتِي، أبوكِ مُوظَّفٌ وراتِبُهُ بالكادِ يكفِي الحاجَاتِ الأساسِيَّة فِي البَيت.
اغرَورَقَتْ عيناها بالدّموعِ وقالتْ: لا أَستَطِيعُ أَنْ أنْسَاهُ يا أُمِّي، مَنظرُهُ فِي أُذُني تُقَى لا يغيبُ عَنِّي لحَظةً واحِدَة.

انهَمَرتْ دُموعٌ مِنْ عَينَي أُمِّها وراحَتْ تحتَضِنُهَا وتَقُول: واللهِ لا أعرِفُ ما أَقُولُ لكِ يا بنَتِي، لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله.
لاحَظَتْ الأُمُّ أَنَّ ابنَتها لمْ تعُدْ تأكُل جيِّداً، وخِلالَ أُسْبُوعٍ غدَتْ كالوَردَةِ الذَّابِلَة. هَمْهَمَتْ فِي قَرارَةِ نَفسِها وهِيَ تُصَوِّبُ نَظراتِها إِلى آية: لَوْ كانَتْ لدَيَّ قِطعَةُ ذَهب لبَعتُها واشْترَيتُ بثَمنِها حَلَقاً لكِ يا بنَتِي.

عِندَها لمْ تَجِدْ بُدّاً مِنْ مُصارَحةِ أَبِيهَا بالأَمْر، لَعلَّهُ يَجِدُ مَخرَجاً كَي يَشترِي لَها الحَلَق، وفِي المسَاء عِندَما استَفاقَ مِنَ القَيلُولةِ وأحضرَتْ لهُ الشَّاي، قالَتْ: ابنَتُنَا كَبُرَتْ يا أبَا آية، صَارتْ فِي العَاشِرةِ مِنْ عُمرِهَا، ومُنذُ أيامٍ رأَتْ حَلَقاً في أُذنَي زَمِيلتَها فِي المدْرَسَة، وطَلَبَتْ أنْ تَشتَرِي لهَا واحِداً مِثلَه، وقالَتْ بأنَّهَا تَستحِي أَنْ تَطلُبهُ مِنك.

ثُمَّ أَردَفَتْ قائِلَةً: مُنذُ ذاكَ اليومِ وابنَتُنَا تَذبلُ، ولا تأكل جَيِّداً وتَبقَى شارِدة تُفَكِّرُ بالحَلَق.

قال: تَعرِفينَ الحالَ يا أُمَّ آية، لا يَزيد مَعنَا مِنَ الرَّاتِبِ شَيء حتَّى ندَّخِرَه، ولوْ لمْ أقتَرِضْ قَرضاً منَ الوظِيفَة، وما أزالُ أدفَعُ أَقْسَاطَه مِنَ الرَّاتِب، لتقَدَّمتُ بِطلَبِ قَرض.

لَبِثَتْ أُمُّها طَوالَ اللَّيلِ تُفكِّرُ بطَريقةٍ لشِراءِ الحَلَق، ولمْ تنَمْ لحظةً واحِدَةً وهِيَ تتَخيَّلُ مَنظرَ ابنَتِهَا الَّتِي شَحُبَ وجهُها، وهَزُلَ جَسدُها.

وفِي اليَومِ التَّالِي، عِندَما عَادَتْ مِنَ المَدْرَسَة، قبَّلَتْهَا وهِيَ تَقُولُ لهَا: يُمكِنُ أَنْ نَشْتَرِي لَكِ الحَلَق.

يا بنَتِي، لكِنْ بعدَ سِتةِ أَشْهُر، مَا رَأيُكِ؟

رَفَعَتْ رَأْسَها تَنظرُ إِلى وَجهِ أُمِّها وهَمهَمَتْ: صَحِيحٌ يا أُمّي، لا أَكادُ أُصَدِّق. ثمَّ مَدَّتْ أنامِلهَا إلى أُذنَيها تُداعِبهُما قائلةً: يعني سأضَعُ الحَلَقَ في أُذُنَي؟

قالت: نعم يا بنَتي، إن شاء الله. وأردَفَت: سأطلبُ من أبيكِ أن يشتريَ لكِ حصَّالةً، وكل يومٍ توفّري شَيئاً مِن مصروفِكِ، وأنا أيضاً سأوفّرُ شَيئاً مِن مصروفِ البَيتِ، ونضعُه في الحَصَّالة. وبعد ستةِ شهورٍ نكسرُها ونشتري لكِ الحَلَق.

قالَت آية مبتسمةً: موافقة يا أمّي.

في اليومِ التّالي عند عودةِ آية من المدرسة، أخبَرت أمَّها بأنَّها اليوم صَرَفَتْ نصفَ المصروفِ، وتَرَكَتْ النصفَ الآخَر لتضعه في الحصّالة.

قالت أمُّها: عندما ينتهي أبوكِ مِن الدوامِ، سيذهبُ إلى السّوق، ليشتري لكِ حَصَّالةً ويعود.

تناوَلَتْ آية الطعامَ، وبَدَت كما لو أنّ غمامةَ حُزنٍ انزاحَتْ عَن وجهِها، وعند عودة أبيها، هَرَعَتْ إليه وتناولَتْ الحصَّالةَ مِن يَدِهِ كما لو أنَّها تتناوَل كنزاً، وراحَت إلى غُرفتِها، دَسَّت ما لَدَيها من بقيَّةِ المَصروفِ في فم الحَصّالة بفرحةٍ غامِرةٍ، ووضَعَتها في درج الطاولة.

مع مرورِ الأيامِ، صارت تشعرُ بنشوةٍ وهي تدسُّ كل يومٍ مبلغاً في فم الحصّالة، حتى أن أمّها عندما تُريد أن تدسَّ شيئاً مِمّا وفَّرته من مصروفِ البَيتِ، فإنَّها تتناوَل ُالمبلغَ من يدِها وتدسُّه بِنَفسِها. وفي المساءِ تُخرجُ الحَصَّالةَ وتُداعِبُها قائلةً: متى تمتلئين بثمن الحَلَقِ يا حَصَّالَتي الجميلة، لو تعلمينَ كم أنا بشوقٍ كي أضَعَ الحَلَقَ في أذنَي.

ذات صبيحةٍ أخبرتها أمُّها بأنّ مساء اليوم سوف تأخذُها إلى السّوق وتشتري لها الحَلَق. بَدَتْ كما لو أنَّها غير مُصدّقة: صحيحٌ يا أمّي.. اليوم، اليوم؟.

 : نعم يا بنَتي، اليوم مَضَتْ ستةُ شهورٍ على الحَصَّالة، عندما تعودين من المدرسة، ويعود أبوكِ من الدوام، سيكسرُ الحَصَّالةَ، ونأخذُ النقودَ كي أشتري لك الحَلَق وأضَعه في أذنَيكِ.

في المساء تناوَلَ الأبُ الحَصَّالةَ، ووضَعها على قطعة قماش، ثمّ طرق عليها بالمطرقةِ لتنكسر وتكشِف عَمَّا في جوفِها مِن نقود.

مبلغٌ جيِّدٌ يا آية. قالها الأب بعد أن فَرَغَ مِن عدّ النقود، وهو يمدُّها إلى ابنَته.

تناوَلَتها من يده ووضعتها في حقيبتِها الصّغيرة، وبعد قليلٍ أخذتها أمُّها إلى الصيدليّة، وثَقَبَت أذنَيها بشكلٍ سليم، حتى تضع الحَلَق فيهما.

عند ذاك غَمَرتها نشوةٌ وهي َتمضي مع أمِّها صوبَ سوق الصّاغة في قلب المدينة، وتتخيَّلُ بأنَّها ستعودُ والحَلَقُ في أذنَيها، تنظر إليه في المرآة، وأنَّها غداً ستذهبُ إلى المدرسةِ وتُريه لزميلاتِها.

عند وصولهما إلى السّوق، صارَتْ أشكال ُوألوان ُالحَلَقِ تلُفتُ نَظَرها، وبَدَتْ كما لو أنَّها في حلم، وهي تتنقَّل من محلٍ إلى آخر، تنظر إلى الحَلَق المعروض خلفَ زجاجات المحال، وعندما يلفت نَظَرَها حَلَقٌ، تدخل المحل وتُجرّبه، ثم تخرج لتدخل إلى محلٍ آخر لعلَّها تجد ما هو أجمل.

عند وقوفِها أمام واجهة محلٍ جديد، وما إن وَقَعَتْ عيناها على حَلَقٍ حتى هَتَفَتْ: هذا هو يا أمّي.

دخلت المحل ووضعته في أذنَيها، ثم راحت تنظرُ في مرآة، وقد أُعجِبَت تماماً به. نَظَرَت إلى أمِّها وقالت: إنَّه هو يا أمّي، ما رأيك أليس جميلاً؟

قالت الأم: جميل يا بنَتي مبروك.

ثم خَلَعَته حتى يرى الصائغُ وزنه وقيمته، ويضعُه لها في العُلبة المُخصَّصة له.
آنذاك أحسَّتْ كما لو أنّها مَلَكَت العالم، وفي تلك اللحظات وقَعَ نظرُها بغتةً على
رجلٍ مبتور القَدَمَين، وهو يزحفُ على الرّصيفِ بالقربِ مِن بابِ المحل.
تقدَّمَتْ إليه وهو يمضي زاحِفاً ونادَته: يا عم، يا عم.
توقَّفَ الرجلُ والتَفَتَ إليها، فقالَت: لماذا تزحَفُ على الرّصيفِ يا عم، والطقس بارد؟!
قال: مِن الفقر يا بنَتي، لا أملك ثمن عَرَبةٍ كي أشتريها.
اعتلَتْ غصّةٌ إلى حنجرتِها وصارت تنظرُ إلى قدَمَيه المبتورتَين تارةً، ثم إلى قَدَمَيها السليمتَين تارةً أخرى. عند ذاك طَلَبَتْ من الرجل أن يبقى في مكانِه ريثما تعود.

تَقدَّمَت إلى أمِّها التي كانت تحمل بيدِها علبة الحَلَق في المحل، مَدَّت يدها إلى العُلبة، وفَتَحَتها لتنظر إلى الحَلَق، ثم تنظر إلى ذاك الرجل المبتور القَدَمَين، فبدا الحَلَقُ يفقد بَريقَه أمام عينَيها، كما لو أنَّه لم يكن ذات الحَلَق الذي جَذَبها قبلَ قليل.

أعادته إلى الصّائغ وقالت بأنَّها لا تريده، وطَلبَت منها أن تأخذها إلى محلٍ لبيع العربات لذوي الاحتياجات الخاصّة.

عندما رأتْ العَرَبة َانتابها شعورٌ بالنّشوة فاق الشعور الذي انتابها عندما رأت الحَلَق الذي تريده.
اشتَرَتها بفرحةٍ وأتت بِها إلى حيثُ الرجل الذي ما إن رأى العَرَبةَ حتى رَفَعَ يَدَيه يدعو لها، وقد انهَمَرت دموعُ الفرحةِ مِن عينيه.

نادَت آية رجلَين كانا يمشيان في الشارع، فتقدَّما وحملا الرجل وأجلساه في العَرَبة.

عند ذاك مَضَتْ برفقةِ أمِّها إلى محلٍ لبيع الحَصَّالات، وابتاعَت حصَّالة وهي تقول: ستة شهور ليست كثيرة يا أمّي.

قصة للأطفال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى