الأربعاء ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم بسام الهلسة

خليل حاوي.. يا الله! هل هذا ما انتظره؟

أية مشاعر خالجته، وأية أفكار راودته وهيمنت عليه، حتى حسم أمره فأمسك بالمسدس مصوباً إلى رأسه وضغط على الزناد في ذلك اليوم الحزيراني اللئيم من العام 1982؟

لا أحد يعلم يقيناً.. وكل ما قيل يظل فقط في مجال التخمين. فانتحار الناس ليس أمراً شائعاً معتاداً لنقيس عليه. وانتحار شاعر رائد ومثقف وأكاديمي كبير كخليل حاوي حدث نادر لا يمكن توقعه أو الجزم بدواعيه.

كل ما يمكن فعله هو مقاربته فحسب، ما دام الشاعر قد رحل دون أن يكشف سرَّه لأحد.
أذكر جيداً ذلك اليوم حينما سمعت بنبأ انتحاره في منزله ببيروت قرب الجامعة الأميركية التي كان يُدِّرس فيها. كنا مجموعة- من المثقفين والشباب العرب- متوترين إلى الحدود القصوى نتابع وقائع الاجتياح الصهيوني للبنان، منشغلين بما يجب علينا عمله لدعم صمود المدافعين في مواجهة الغزاة. وبرغم الانشغال الكلي بما يجري، فقد تابعت خبر انتحار حاوي بتأثر وأسف شديدين.

كان خليل حاوي واحداً من أوائل شعراء التجديد العربي الذي أعجبت بهم مذ كنت طالباً في السنة الأولى من دراستي الثانوية. حينها، لم يدلني عليه أحد.. تعرفت به مباشرة من خلال قصائده المنشورة في مجلة "الآداب"، أو المجموعة في دواوينه المطبوعة وقتها: " نهر الرماد"، " الناي والريح" و"بيادر الجوع", ثم تابعت فيما بعد أعماله الشعرية اللاحقة:"من جحيم الكوميديا" و"الرعد الجريح", إضافة إلى كتابه البحثي المتميز عن الرائد الكبير للنهضة التعبيرية في لبنان والمهجر: جبران خليل جبران.

ومع أن حاوي ليس حاضراً اليوم في الحساسيات الشعرية العربية الحالية- كما لاحظ بعض من كتبوا عنه حديثاً- ألا أن هذا لا يعني تقييماً منصفاً لما يستحقه ابداعه، بل يشير إلى ميل غالب لدى شعراء "قصيدة النثر" لقطع التواصل مع شعر "قصيدة التفعيلة", وشعرائها، وبخاصة الراحلين منهم. وهو "قطعٌ" –أو قطيعة- سبق وأن مارسها شعراء "التفعيلة" تجاه من سبقهم من شعراء الرومانسية العربية وقصائدهم الغنائية ذات العواطف المتأججة. وليس في نيتي اعطاء تقييم لتلكم الظاهرة التي لا تني تتكرر في الشعر العربي الحديث في مرحلة ما بعد جيل الاحياء، فهي متروكة لدارسي الشعر ونقاده ومؤرخيه. مقالتي هذه، مكتوبة كتحية لذكرى خليل حاوي ابن "الشوير" الذي عانى في حياته قبل أن ينال منحة دراسية لجامعة "كيمبردج" أهلته ليكون أُستاذاً جامعياً مرموقاً، لكنها لم تكن كافية لتمنحه الطمأنينة، ولتجيب عن الأسئلة المريرة التي ظلت تؤرقه في وجود بدا له أن ليس فيه ما يغري:

"رُدَّ بابَ السجنِ في وجه النهارْ
كان قبل اليوم،
يُغري العفوُ أو يُغري الفرارْ"

ورغم نزوعه المتشائم بشكل عام، فقد راود حاوي الأمل بانبعاث عربي جديد يستعيد "المعجزات" كما صرخ مرة:

" رَبِّ ماذا؟
هل تعود المعجزات؟
بدويٌ ضربَ القيصرَ والفرسَ
وطفلٌ ناصريٌ وحفاة
رَوَّضوا الوحشَ بروما.."

وما كان للصرخة أن تجد طريقها إلى الفضاء فيما مُطلِقها لا يكاد يرى حوله سوى جمودٍ مُقيم مُحبِط يحاصره:

" بيني وبين الباب أقلامٌ ومحبرةٌ
صدىً متأففٌ،
كومٌ من الورق العتيقْ
هَمُّ العبور،
وخطوةٌ أو خطوتان
إلى يقين الباب، ثم إلى الطريق"
................................
الناسكُ المخذول في رأسي
يشدُّ قواه ينهرني، أفيق:
بيني وبين الباب
صحراءٌ من الورق العتيق وخلفها
وادٍ من الورق العتيق وخلفها
عُمْرٌ من الورق العتيق"

وفي الحقيقة، لم يكن ارث الماضي العتيق هو، فقط، ما يثقل ضمير الشاعر ويحاصر روحه ويصدها عن الانطلاق. كان واقع الاستلاب والقهر اليومي الذي يفرضه الطغاة المهيمنون على العالم، حاضراً يرمي بثقله ويُعيِّن له موقعه البائس- كفرد وأُمَّة- فيه، كما كتب في قصيدته الساخطة- وربما- الواشية بما سيقدم عليه، "ليالي بيروت":

"ويدي تمسك في خذلانها
خنجرَ الغدر، وسمَّ الانتحار
رُدَّ لي يا صبحُ وجهي المستعارْ
ردَّ لي، لا، أي وجهٍ
وجحيمي في دمي، كيف الفرار؟
وأنا في الصبح عبدٌ للطواغيت الكبارْ
وأنا في الصبح شيء تافه، آهِ من الصبح
وجبْروت النهار!"

قيل الكثير عن تأثر شعراء "قصيدة التفعيلة" الرواد، وبخاصة الذي عرفوا منهم "بالتموزيين" وبضمنهم خليل حاوي، بالشاعرين: الانجليزي اليوت والفرنسي مالارميه، سواء من حيث الموضوعات المتناولة، أو من حيث استخدام الرموز والأساطير، أو المزاج المهيمن على أشعارهم... لكن هذا، فيما أرى، لم يسلب حاوي شخصيته الشعرية المتميزة التي قدمت للشعر العربي المعاصر عدداً من أفضل قصائده.

وإذا كان شعراء "ما بعد الحداثة" قد طووا صفحة حاوي، فان الشباب العرب التائق للخلاص والمُصِرَّ على الشوق لحياة جديدة، ما زال يردد مع مارسيل خليفة أُغنية "الجسر" التي كتبها حاوي مفعماً بالرجاء، كنشيدٍ للغد ونداءٍ للعبور:

"ومتى نطفُرُ من قبوٍ وسجنِ
ومتى، ربَّاه، نشتدُّ ونبني
بيدينا، بيتنا الحُر الجديد
يعبرون الجسر في الصبح خِفافاً
أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدْ
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق،
إلى الشرق الجديدْ
أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدْ"
...............................

في ذلك اليوم الحزيراني أطلَّ خليل حاوي من نافذة بيته في بيروت.. لم يَرَ عابري "الجسر"، بل الدبابات "الاسرائيلية"!

 يا الله! هل هذا ما انتظره؟

ودوَّت رصاصة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى