الخميس ١٩ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم مــحــمــد زريـويــل

دجى الحزن ووشائح الألم

بــدايــة:كيف حصلتُ على الديوان؟ هذا سؤال يستدعي الوقوف قليلا للإجابة عنه لا لشيء،

وإنما للاعتراف فقط. تفضل الشاعر الكريم بن يونس ماجن، فأهداني الديوان عبر البريد مشكورا، موقعا بالإهداء التالي: "عزيزي الأستاذ محمد زريويل مع تحياتي وتقديري، بن يونس ماجن لندن 2007 " فيا لها من روعة جميلة حين يهديك الشاعر ديوانه ! تكل في البحث عما تقايض به، فلن تجد غير الشكر الجزيل الذي لا يحتاج لعفو...

جاءت هذه الورقة المتواضعة مندرجة في سياق حب الشعر والولع به، وكذلك الانشغال بعوالمه الجمالية والتخييلية، وبالتالي فهي قراءة تتسم بما أسميه بأفق القراءة الإنتاجية العاشقة، بعدما اكتشفت عالم بن يونس ماجن الشعري، تملكتني رغبة جامحة في اكتناه مفاتنه وكميائه الشعري، قرأت المتن وتتبعت مختلف البنيات الدالة في قصائده، أخذت أحلل وأفك مناطق الظلال والعتمات، فوجدته يوظف معجما شعريا فيه الإيحاء والترميز لعوالم تقبع في أمكنة من القصيد وهي واقفة على عتبات الفهم والتأويل...

" فلست أنتمي إلى نادي السعادة
فعضويتي ألغيت، وحوصرت خارج السرب
وأيقونتي بيعت في المزاد العلني
ودولابي توقف عن الدوران " المقطع (38) ص (27 ـ 28 )

من هو الشاعر بن يونس ماجن؟ الشاعر بن يونس ماجن شاعر مغربي من مواليد 1946 بعمالة وجدة المغربية، أكمل دراسته الابتدائية والثانوية بمسقط رأسه، ثم رحل إلى لندن منذ السبعينيات لمتابعة دراسته الجامعية، حاصل على شهادة الماجستير في الترجمة، يشتغل حاليا موظفا بالإدارة العامة في المكتبة الوطنية البريطانية ، يكتب بثلاث لغات (عربية ـ فرنسية ـ أنجليزية )، من دواوين شعره بالعربية ما يلي:

ــ مسامات ( دار الحداثة بيروت).

ــ لماذا لا يموت البحر؟ الطبعة الأولى ( القاهرة) 2002.

الطبعة الثانية ( وزارة الثقافة الرباط ) 2005.

ــ هم الآن يكنسون الرذاذ ( دمشق) 2006

ــ حتى يهدا الغبار ( دار أزمنة) 2006.

له ثلاثة كتب بالفرنسية

ــ حائز على جائزة ناجي نعمان الأدبية لعام 2006 عن مجموعته الشعرية " حتى يهدأ الغبار"

وصف الديوان: " أسد بابل يختبئ وراء تمثال السياب " يندرج هذا الديوان ضمن سلسلة الثقافة بالمجان لدار نعمان للثقافة والتي أنشأها ناجي نعمان سنة 1991، الديوان من صنف كتاب الجيب قياس أبعاده ( 16 سم x 11 سم ) وزنه 25 غراما، عدد صفحاته ( 59) تسع وخمسون، ومن خلال نظرة إستيتيقية على الغلاف نلاحظ رسما جميلا بريشة الفنان ( طوني مسعد ) وهو عبارة عن مشهد طبيعي، طغى عليه الزخرف النباتي والترابي ليطبع الديوان بروح الحياة وحب الوطن، فوق الرسم جاء العنوان " أسد بابل يختبئ وراء تمثال السياب " موزعا على سطرين، وهو تراث خلف تراث وخلفهما الشعر، تمثال وراء تمثال وخلفهما شاعر... تمثال في بابل وتمثال في البصرة وهما يحرسان الشعر ويحميان القريض الذي لن يضيع أبدا رغم الغزو وموت الشعر في جيكور.

" مات الشعر في جيكور

وتمثال السياب

ما زال واقفا في البصرة

يحرسه أسد بابل " المقطع (40) ص (29)

تناسق اللونان الخردلي والبني فقط واستحوذا على كل القرطاس كما استفردا بجمالية اللون...الخردلي سند و فرش و بساط، والبني قلم وريشة وفرشاة،اللونان المميزان المتجانسان زادا الديوان رونقا وجمالا، بني على خردلي فراحت العين في سفر بصري مريح ممتطية صهوة القراءة التفاعلية...

على ظهر الغلاف جاءت الصورة الفوتوغرافية للشاعر مكتسحة كل الصفحة وقعها ناجي نعمان بما يلي: " بن يونس ماجن، تشغله الأرض، ويشغله إنسانها وهو، في غربته اللندنية،
ثائر في خفر الشاعر المحترم نفسه، وطوباوية الإنسان المفعم بالإحساس، المرهف الشعور.
قراءة بن يونس ماجن تلذ في كل حين، أسلوبه سهل المنال، في طيات كلماته فضائل. "

الديوان عبارة عن مقاطع شعرية مرقمة من (1) إلى (64) تختلف في الطول و القصر حسب وحدة السطر الشعري من (02) سطرين إلى (32) سطرا، ويكون بهذا التوزيع المقطعي قد سهل على المتلقي قراءة الديوان بتهوية نفــَــسية دون ملل أو ضجر.

صلب الديوان: بن يونس ماجن هوايته وهمه أن يكتب شعرا حزينا و يسافر في مجاهل بحوره، يبحث عن الإلهام في دجى الحزن و وشائح الألم، ويجعل من الحزن الأكثر تداولا و حضورا في اقترانه المباشر باليومي ظاهرة نصية ذات علامة ودلالة...

" هذا الجسد المشاكس
تجلس على أصابعه تماسيح جائعة
و تنمو على جراحه ظلال الحزن
كأن الألم يسافر فيه
بحس طقوس غبية
الألم الذي يختبئ و يظهر
حيث الانتظار الطويل (..) " المقطع (42) ص (30 ـ 31 )

يكتب الشعر بلغة تستوطن الذاكرة ، ومع كل مقطع يوقع كناش الغربة من محبرة الألم بمداد الحزن، يتناول جراح الأرض المؤلمة و آلام الوطن المزعجة حتى حدود الإبداع الممتع، تراه يتأمل ويتألم، وفي روعة الشعر يتوغل، يخترق الأفئدة بطيب المجاز، الشعر موطنه، عملته الكلمة الحالمة، نشيده الحب والحياة، يكتب الأحزان العذبة بحبر الاغتراب، يقبض على جمرة الشعر الملتهبة المحرقة ثم يدعها تتأجج، فيعيد القبض عليها من جديد، إنه الشاعر الذي ينكتب به الشعر، ويحمل أحزانه وآلامه في دواوينه. في غربته احتك بشعره بتجربته واستثمر قريحته، فصارت القصيدة ورشته. تجربته تلامس الاغتراب والوجدان، وقصيدته ترتدي عباءة الوحدة وتنتعل خف غربتها فتشهد أن الشاعر لا يدعي شيئا غير إنسانيته الكبيرة...

" تمنيت لو لم أكن شاعرا
إنني أهدرت وقتا طويلا
في الحصول على بطاقة
إقامة شرعية
في جمهورية افلاطون
لكي ابني بيتا للشعر
في مدينته الفاضلة. " المقطع (51) ص (42)

يكتب الشاعر ساخرا بحكمة شاعر متميز، وفي شعريته رسائل قصيرة تصل بسرعة رقاص على صهوة براق، يكتب الشعر الساخر، وهذا المراس يتطلب رهافة أحسن بالإضافة إلى النضج الكبير، وقد قال نيتشه: " إن الإنسان القوي ذا الإرادة العالية هو من يضحك من مآسي الحياة " وهو الشاعر الذي يبكي دون أن يذرف الدموع، ويضحك دون تصنع بحيث لا يعرف الضحك الأصفر موضعا على محياه، يكتب القصائد بلون الماء، ويلج الصمت ليكمل البياض ويكلمه.. يكتب الشعر بصدق لا يبرره إلا الوجدان الحقيقي، لا يكتب ليتجاوز زمانه، وهو يتألق بين الحزن والألم في الغربة، يبحث لقصائده عن خصوصيات جمالية تمنح القارئ الهدوء وتقاسم الأحزان.. كما يحسن تصريف التعاطف بالأحاسيس وهو يبذل الجهد الفني والشعري حتي تكون القصيدة في أحسن حال وأطيب مقام، ومن خصاله الفنية أنه يصدق الشعر، لأن الشعر يتالق مع الصدق ويتنافر مع الإدعاء و الكذب...شعره نابع من القلب وصوب القلوب يتجه، نصوصه تتولد وتتناسل وتسير نفسها بنفسها وهو المحلق في فضائها، في سماء القلب ينسج شعره الحزن والألم ويحفر في قرارة المتلقي بدقة متناهية، هذا ما يجعل قصائده تزخر بما يميزها عن غيرها أسلوبا ومضمونا وهو يقودها عبر التدرجات المختلفة والمدارات الصعبة نحو الوحدة الفنية وتلاحم الأجزاء.

ظروف قصائده غير واضحة، في عاصمة الضباب لندن يكتب القصائد الساخنة، وفي مدينة وجدة العاصمة الشرقية للمملكة المغربية يكتب القصائد الباردة، هو الشاعر الذي لا ينهزم، يحث على الصعاب، يرضى بالاغتراب، ولا يستسلم... تأتيه اللغة من الأعماق، ومن بلاد الغربة يصلنا صداه، يكتب الشعر بالقلب والجوارح، لا بالقلم ومفاتيح اللوحة والأزرار، نحس به في النصوص منفعلا إلى درجة الحزن والألم، وقد أعلن مؤخرا تورثه على الشعر الحديث، فركب حصان الجموح ليبدع شعرا جديدا؟!

الشاعر بن يونس ماجن شاعر ينتصر للحزن والغربة.. شعره مفعم بدخان الجرح والألم، يخاطب البصيرة ويحاورها.. نعم الحزن يعم القلوب قبل أن يعم الوجود، يحنط الفرح ويقيم له قداس الـتأبين في مآتم لا ضفاف لها، نعم الحزن ديوان وجودي وبلهيبه يصطلي الشعراء. هناك من يتلذذ الحزن والأسى، ولا يعرف للفرح والسرور بابا، وهو يشكل لدى بعض الشعراء عاملا من عوامل الكتابة وغديرا من رحيق الإبداع والإلهام ومن جملة هؤلاء الشعراء الشاعر بن يونس ماجن.

" وأنا أدخل عامي الستين
أعبر نفق السنين الباقية
أعترف أني لست بالوريث الشرعي
باءت حروبي كلها بالفشل
هذيان حتى الثمالة
يتربص العمر بي
في نفق ضيق معتم.." المقطع (64) ص (55)

للحزين إحساس لا يتوفر عليه الفرحان ، وله عين يرى بها ما لا يراه المسرور، وبدهشة الانخطاف المبرق أتمنى أن نعود إلى نقاء هذا العالم الذي أطالته الضمائر الطاغية التي تفسد فيه وتتغيا الإثم والعدوان، وهي من المسببات والمدخلات الساسية التي تجعل من الحزن شبحا عملاقا يجثم على الصدور، ومن المخرجات يأتي الشعور بالأحاسيس والانفعالات الناتجة عن الشعر المتخن بالحزن والألم والذي تنام القصائد في حضائره.

هيا نقايض الحزن بما يشاء الكون، ولو بقليل من الفرح والسرور... نعم الذات مليئة بالجراح، ومن مشفى الشعر نستقي السرور والفرح، كل حزين يحب الحياة ويحلم بمستقبل أفضل مادام يكابد صامدا في غم وهم، وحين نسائل كوامن الذات، نجد في الحزن حزنا، وفيه كذلك صبر جميل يعلمنا كيف نحزن بقوة التحكم والتحمل...

كلام الختم:الشاعر بن يونس ماجن أهل لكل اهتمام، وديوانه " أسد بابل يختبئ وراء تمثال السياب " أهل لكل القراءات، شعره دائما كما هو مبدع له، لا يخضع لتعقيد أو تكليف، وإنما هو سهل ممتنع وبسيط منفلت، يستظل بشعرية متقدة تـُلمح إلى الحزن الذي يشد الشاعر إليه، ويجعل شعره أكثر كثافة و هو يستحضر تساؤلات عدة تروم الوجود وتنطبق على الذات، تشكل في حد ذاتها حصارا إبداعيا رفيعا سرعان ما يرفع حين تنحت له اللغة الشعرية الهادرة كلمات إنسانية واصلة من توقيع الشاعر المميز بن يونس ماجن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى