السبت ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
«تقريـر بروديـك» للروائـي الفرنسـي فيليـب كلوديـل

رجــل جــاء مــن لا مكــان

اسكندر حبش - عن السفير اللبنانية

بدون شك، يبدو الروائي الفرنسي فيليب كلوديل، واحدا من أهم الأصوات الروائية الفرنسية في المشهد المعاصر، عبر كتابة تملك كلّ أنواع «السحر والدهشة» التي تدفعنا إلى متعة لم نعد نجدها كثيرا في غالبية ما يكتب اليوم. هو أيضا كاتب يسلك طريقا مختلفا، إذ في حين نجد أن العديدين يذهبون إلى ما يعرف باسم تيار «التخييل الذاتي» نجده يعيد الاعتبار إلى الرواية المتخيلة بشكل كامل، حيث الحبكة والشخصيات وما إلى هناك من أمور تذكرنا بتلك المتانة «الكلاسيكية»، والتي تعتمد أيضا على العمل الأسلوبي. اتسعت شهرته مع رواية «الأرواح الرمادية» التي حازت جائزة «رونودو» العام 2003 مثلما اختارتها يومها مجلة «لير» كتاب العام. اليوم يعود مع كتاب جديد هو «تقرير بروديك» الذي يعرف نجاحا منذ صدوره منذ أسابيع قليلة، وربما من المنتظر أن يحوز واحدة من الجوائز الفرنسية الكبرى هذا العام، إذ تتبوأ الرواية لوائح ترشيح أكثر من جائزة. هنا مقالة عن الكتاب معدة عن الصحف التي تناولته.

ثمة كتب تحتاج جهدا كبيرا من القارئ، إذ أنها تتطلب أحيانا محاولات عدة قبل أن تفتح أبوابها له. وثمة كتب أخرى، تبدو أسهل بدون أدنى شك، إلا أننا نعرف، ما أن نقرأ السطور الأولى منها، بأنها ستأخذنا وتحملنا بين جناحيها، لدرجة أننا لن نقفلها إلا بعد أن نكون قد أنهينا قراءتها كاملة. بالتأكيد ثمة قضية كتابة في ذلك كله، ثمة قضية صوت أيضا. إذ أن الدخول في كتابة رواية يشبه إلى حدّ ما سباق دراجات هوائية، أي حين يبدأ الدرّاج محاولاته الحثيثة لصعود قمة ما. من هنا تكمن الأهمية في هذه السطور الأولى، في عملية شدّ الحبل هذه، التي تحافظ على الإيقاع، التي تحافظ على نفس واحد من دون أن تبطئ أبدا لغاية أن يشعر، الدرّاج هذا، بمتعة حقيقية وهو يتسلق هذه القمة، أي لغاية أن يشعر الكاتب بهذه المتعة في الكتابة، وبالتالي ليشعر القارئ بالمتعة وهو يتابع السطور التي أمامه.

«أدعى بروديك ولست هنا من أجل لا شيء». هكذا تبدأ الرواية الجديدة لفيليب كلوديل، «تقرير بروديك»، التي تجعلنا نشعر بصداقة وعاطفة ما مع بروديك هذا، الذي كنا لا نعرف عنه أي شيء قبل خمس دقائق من حمل الكتاب. قبل أربع سنوات، وجدنا أيضا في إحدى روايات فيليب كلوديل ـ «الأرواح الرمادية» ـ وهو يقودنا بطريقة مشابهة، في بداية حديثه إذ يقول: «لا أعرف فعلا من أين أبدأ حقا. يبدو الأمر صعبا جدا. هناك كلّ هذا الزمن الذي مرّ، كلّ هؤلاء الأموات وكل هذه الوجوه، التي لن تستعيد لا الابتسامات ولا الجروح. لكن ومع ذلك كله عليّ أن أحاول القول. أن أقول عما يعتري قلبي منذ عشرين سنة».

الذاكرة والكتابة

كان «بطل» رواية «الأرواح الرمادية» قد شعر بالحاجة لأن يروي قصته ـ «علي أن أفتح بالسكين هذا الغموض مثلما أشق بطنا لأضع فيه ملء يديّ حتى وإن كان شيء لن يغيّر شيئا». لم يكن بروديك يرغب في ذلك من الأساس، إلا أن الآخرين دفعوه إلى ذلك. «أنت تجيد الكتابة، قالوا لي، لقد تابعت دراستك (...) أنت تجيد الكتابة، تعرف الكلمات وكيف نستعملها وكيف باستطاعتها أن تقول الأشياء. يكفي ذلك. نحن لا نجيد القيام بذلك. يربكنا ذلك، لكنك أنت تستطيع ذلك، لذلك سيصدقونك، أضف إلى ذلك أن لديك هنا آلة كاتبة».. مسكين هو بروديك، كان يفضل أن لا يتكلم مطلقا، أن «يقيّد ذاكرته»، أن «يبقيها موثوقة جيدا بين هذه العلاقات بطريقة تبقى معها هادئة مثل محتال في شبكة حديدية». بيد أن الأمر انتهى ببروديك بأن يكتب. كتب ما طلبوه منه، بوعي حاد. كتب أشياء أخرى أيضا. كتب قصة حياته، هو الذي كان ذاك الآخر، الذي كان داخل مخيم اعتقال حين كان عليه أن يكون «الكلب بروديك» كي يستمر في العيش.

نحن في إحدى المدن الواقعة في شرق أوروبا، في بلد متخيل، لكن يمكن له أن يكون النمسا أيضا، أو سلوفينيا، أو ربما بولندا، ولِمَ لا الألزاس (حيث جرت أحداث رواية «الأرواح الرمادية»، في فترة الحرب العالمية الأولى). في أيّ حال، ليس للأمر أي أهمية. لكننا نعرف أنه قبل ثلاثة أشهر، وفي نُزل «شلوس»، قد حدثت جريمة جماعية شارك فيها غالبية رجال القرية تقريبا. إلا بروديك، الذي كان مختلفا جدا عن البقية. كان شخصا «آخر»، مثلما يقال عنه، إذ أن وضعه في القرية هو وضع «ملتبس». ومن ضحية هذه الجريمة؟ كان رجال القرية يدعونه بلهجتهم العامية «فالوغاي» (أي العينين المليئتين) والسبب أن «نظرته كانت تخــرج من وجهه قليلا». أيضا كانوا يسمونه «دو مولمرنــير» أي «الهامس» إذ كان «قليل الكلام وبصــوت خفيض يبدو أشبه بالتنفس». وفي مــرة ثالثة كانوا يدعونه «موندليخ» أي القمــري، «بسبب شكله الذي يوحي بأنه هنا وفي مكــان آخـر في الوقت عينه». كذلك كان له اسم رابع «جيكامدورهين» أي «ذاك الذي يأتي من مكان آخر». إلا أن بروديك كان فقط «دي أندرير» أي الآخر، لأنه «جاء من لا مكان»، كان يعطي الانطباع بأنه «هو كان أنا قليلا».

الحرب

عبر كتابة بسيطة وشفافة، مبنية بشكل كبير، يبدو كتاب «تقرير بروديك» كتابا رائعا. إنه رواية عن مسألة «الغيرية». بيد أننا لا نقع لا على كلمة يهودي ولا على كلمة «الشوا» إلا لمرة واحدة وبشكل «عابر»، لكننا مع ذلك نفهم أن الكارثة التي حدثت موجودة هنا، وأن ما يقدمه إلينا فيليب كلوديل، لكي نراه ونقرأه، هي الحياة في مخيمات الاعتقال والقتل.

بدون شك، يختار الروائي الفرنسي موضوعا كبيرا، لكنه بدون شك أيضا، يقدم لنا نجاحا أدبيا كبيرا. عبر ما يكتبه بروديك من «تقارير» لا تملك الحس بأي نوع من أنواع الانتقام: «سأبقى دائما ذاك الكلب بروديك، ذلك الكائن الذي يفضل الغبار على اللدغة، إذ من الأفضل أن أبقى كذلك»، كما يقول. إلا أن موقفه هذا لم يكن ليمنعه من قول الحقيقة «كان يريدها أن تتفتح» مهما كانت مرعبة. كتب كل شيء حتى وصل إلى أقصى أطراف الرعــب، ليشعر أخيرا «بالسعادة». وحين عاد إلى منــزله للمرة الأخيرة، لم يشاهد القريــة وكأنــها اختــفت للأبد ومعها اختفت كل الوجـوه والأنهر والكائنات والآلام التي مرت بها.

ثمة تيمة، نجدها في غالبية كتب كلوديل (الذي يعيش في «لاموز» القريبة من «فردان»): تيمة الحرب، التي تبدو وكأنها تؤرقه، وبخاصة في كتبه الأخيرة. في «الأرواح الرمادية» عاد ليزور مجددا الحرب العالمية الأولى. في «حفيدة السيد لين» (2005)، عاد ليستدعي الحرب الفيتنامية. في كتابه هذا، يسبر أغوار «الشر المطلق»، عبر هذا الشخص الناجي من مخيمات الموت خلال الحرب العالمية الثانية، الذي كان يعتقد أن بإمكانه أن ينسى ذلك الماضي كله، الذي عاد ليحضر بقوة. لكنه ولينجو من ثقل هذا الماضي، يلجأ الكاتب إلى لغة شعرية هادئة، كتلك المنبعثة من الحكايات القديمة، ليكشف النقاب عبرها، وبشكل تدريجي، عن هذه الحقيقة المغشية للبصر. حقيقة بكل تدرجاتها كما لو أننا نتقدم في طريق ضبابي، لنكتشف شيئا فشيئا الطريق أمامنا.

اسكندر حبش - عن السفير اللبنانية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى